ط
مسابقة القصة

صلوات الحب والموت .مسابقة الرواية بقلم / صلاح الدين جعلاب من الجزائر

صلاح الدين جعلاب – الجزائر : رقم الهاتف/ 00213552617847
المشاركة في صنف الرواية الطويلة :
فصل من روايتي : صلوات الحب والموت
“أيّها الخارج من الأرض يتلو ذكراه صاعداً في لحظة الله، عد إلى ما قبل البداية وابحث عن جوهر الفكرة، بعضُك الحيرة التّي تقض مضجعك وبعضك الجنون”
استيقض من قيلولته وقد خيل إليه أن شخصا ما يخاطبه ،لكنه لم يسمع سوى صوت أحذية في الممر المتاخم لغرفته ،غمره إحساس عجيب أنه سمع صوتا سبق وخالطه في طفولته ثم نسيه ،،كانت النبرة مألوفة ..استطاع أن يفهمها لكنه عجز عن فك تفاصيل صاحبها ..
جلس في فراشه وكانت الغرفة ما تزال غارقة في ظلام خفيف بسبب اختفاء شمس النهار خلف السحب الملبدة في السماء ،وانقطاع الكهرباء الذي صار شيئا عاديا في هذا المكان المقرف ،،هكذا كان يقول لنفسه دائما ،،
كان ينصت.. غير مصدق أن هذا يحدث فعلا ،،،هنا في هذه الغرفة الكئيبة الفارغة من كل الأثاث إلا من سرير معدني فوقه ترتمي اسفنجة عفنة يكسوها شرشف ابيض صار لونه مائلا للبني بمرور الوقت والوسخ .
” من أنت؟ من أنت أيّها الصوت الذّي نمى صخرة بين الضّلوع من أنت؟”
يلتفت فجأة تجاه الباب المغلق ،يسمع مفتاحا يدور في قفل الباب .. ينفتح الباب ببطئ شديد ،لتدخل سيدة غامضة ،ممتلئة الوجه ،تبدو في الخمسينات من العمر ،وتحت محرمتها المزركشة انزاحت خصل حمراء مصبوغة بالحناء ..
تجاعيد وجهها تنبيء بما عاشته من بؤس ووجع ربما.
تقترب منه ،يلاحقها بعينيه بتطفل مصحوب بالدهشة ،،يعلو وجهها تعبير ودي غريب ،،
شيء ما في حضورها منعه من أن يسألها حتى كيف تدخل إلى هنا ، شيء ما في نظرتها أمره أن ينهض من على سريره ويدعوها للجلوس هناك ..
تقدمت نحو السرير المعدني ، مدت يدها لتصافحه فمد يده دون تفكير ،اقتربت يدها نحوها بهدوء مريب ،حين صارت على مقربة من كفه سحبت كفها فجأة .
” بوسعك أن تصافحني دون أن تمنحني كفك ، فلنتصافح كما نفعل دائما ”
” دائما ؟؟” .
نظر تجاهها فشاهدها والضوء يتدفق من خلفها كعمود من السواد ،تمازجت فيها كل ألوان الطيف ،كأنما تغوص شيئا فشيئا في زرقة السماء …
قطعت تفكيره فجأة سائلة عن أمه .. وأضافت دون أن تنتظر إجابة
” لقد تغيرت ملامحك قليلا ،،كدت لا أعرفك ،،وتلك اللحية التي نمت على وجهك جعلتك تبدو أكبر سنا ..أعلم أنك لم تر أمك منذ مدة ،،لكن زيارة الأمهات لا تحتاج إلى موعد ،،”

نظرتها حركت داخله ذكريات مختلطة ،،أحاسيس متضاربة داخله تتصادم بسرعة ،،شيء ما في حضورها سحره وجعله يتأملها في صمت ..انتبه فجأة أن أن الملاءة على السرير لم تتقعر تحت جلستها ..لماذا لا تتقعر الملاءة تحت جلستها ؟ طالما كان منطقيا في تفسيره للأشياء ،ديكارتي الفكر والغريزة ، يرجع كل حدث للمنطق ،، قد لا يمكن الجزم بتقعر الملاءة من عدمه في ظل هذه الإضاءة الباهتة ،، لا شك أن تعب أعصابه يصور له أشياء غير موجودة ،،بينما يفكر في كل هذا تتابع حديثها غير مهتمة بنظرته التي تكاد تخترقها ..
” لا نقطف الأزهار لأننا نحبها ،نحن نقطفها لأننا نكره الجمال ،،ما نفع وردة ميتة في كف حي ،،الأبهى أن يكون هناك عين وأنف يستمتعان بعبير الوردة ورونقها ،،نحن نقطف الأزهار يا صلاح لأننا ورثة المغول ..الأزهار لا تنبت في الأكف اليابسة .”
كان يتأهب لتغيير ملابسه قبل دخولها ،، أحس بالخجل حين وجد أن لباسه الداخلي مرمي بالقرب من رجليها قريبا من السرير الذي تجلس عليه ،أحس بقطرات من العرق البارد تنزل على شعيرات صدره في المنطقة التي يسمونها مجازا طريق الحب ،،
ضحكت فجأة استفزته وأضافت قبل أن تهدأ ضحكتها ” حتى لو كنت عاريا ليس عليك أن تشعر بالخجل ،،لا فرق بينك في حالة عريك أو وأنت ترتدي هذه القطع التي تسترك ،،نولد في الدنيا عراة ثم نعود إلى الأرض مرة اخرى عراة ،،نحن لا نساوي في الحقيقة إلا هذا العري الذي يكسونا ” ،، أحس بالوجل أكثر حين تلمس أنها تقرأ أفكاره
“إنني بحاجة إلى أن أحدث إنسانا ما ،أنا خائفة ووحيدة ،أريد أن أترك رأسي على ركبتي شخص ما وأن أهمس : إنني وحيدة… وحيدة ،،”
صوتها الهاديء لا يجعلها تبدو خائفة كما تدعي ،،صوتها الغامض شق طريقه عبر صدره كأنما هي تحاول إرغامها على الإنصات ،،تفتح في صدره أخاديدا لا يملأؤها إلى الإرتماء في حضن أمه ،،يسمع صوتها بوضوح كما لو كان قادما من داخله هو ،،كما لو أنه صدى لصرخة مخبوءة في أقصى بؤرة من قلبه ..
مرّر يديه على بقايا الورقة التّي حوّلت السّنوات لونها من الأبيض الناصع إلى لون مصفرّ كئيب، أحسّ أنّ الزّمن يتوقف بين أصابعه ..والحلم ينام على كفّه، حاول أن ينسى الصور التي تحّرك دقّات قلبه في تسارع.

“هل أنا خائف! ” سأل نفسه وألقى ظهره على الجدار ليغوص في عوالم بعيدة.
” ليس لنا خيار فإمّا أن نعيش بسعادة إلى الموت.
وإمّا أن نحتضن الموت أو يحتضننا
لن يشكل هذا في الحقيقة فرقا، نموت مرة أخرى حين يزورنا الوهم الثّقيل، لا نركن إلى الحياة إلاّ حين تصرخ نبضات قلوبنا وهي تصارع الموت محمّلا مع الهواء، حاملا لنا في كفيّه تراتيل الصّمت الأخير.. في حادث سير أو في انفجار عبوة ناسفة في شارع.
تتابع السيدة الغامضة اللعب على أوتار وجعه ،،ينصت إليها وهو يتستر على شعوره بألم خفي وهي تقول وتكرر دون أن يضجرها الترديد أو يزعجه التكرار.
زمت شفتيها كمن يستعد لمنح قبلة ثم قالت ساخرة ” ماذا لو تعريت أنا ؟ هل كان هذا سيشكل فرقا ؟؟ أم لأني أملك هذه الزوائد -وأشارت إلى ثدييها- يعد هذا جريمة ، أنا مثلك تماما بكل كبريائك ..جنونك ..شغفك ..وحتى طيشك ونزواتك العابرة ،، كون المراة تحمل في بطنها ما يرميه رجلها في رحمها لتسعة أشهر لا يجعله سيد الكون ،،هذا في الحقيقة يجعله مجرد وسيلة ،،بينما تكون أنثاه هي غاية الغايات ،،
أضافت وهي تغمزه بعينها اليمنى ” أم نسيت أن جدتك حواء هي من أخرجت جدك آدم من جنته ”
ودخلت في حالة هيستيرية من الضحك مرة أخرى ،،
أنا أمزح فقط أردفت.
تكلم فجاء صوته خافتا ،،واستمرت هي تتحدث وصوتها يعلو أكثر وأكثر ،،همس لنفسه إنها تتفتح كلما ازددت ذبولا ،،إنها تتحدث لتعيش وأنا أهمس لأتلاشى ،،
الصراخ داخل رأسه صار كأزيز مرجل ،،أو كمروحة تدور مخترقة عضام صدغه ،،آلاف الوجوه تتحدث وتصرخ وتعربد داخله بلا رحمة ،،ثم صورة خاطفة تتضح للحضات قصيرة ثم تغيب ليعود التداخل مرة أخرى ..
” انهض فإن القابلة لم تقطع حبلك السّري بعد، إنك مضغة ثائرة، لا تسجد لآلهة صنعتها بيديك، أخمش وجه الهواء بأظفار الكرامة وعد إلى نفسك تارة أخرى ”
رآى أنها غدت فجأة أصغر سنا ،شعرها العسلي يسيل على وجه مضيء يشع جمالا وحسنا ،وصدر كاعب يرتفع مزقزقا في الوجود ،،قامتها التي بدت معادلة لطوله ،،ساقان جميلتان مشدودتان وفخذان بديا شهيين أسفل تنورتها التي تعلو ركبتها قليلا ،،تأملها بعمق ففتح بؤبؤا عينيه كمن ينتقل من مكان مظلم إلى شمس ساطعة ،،
عادت نفس العجوز الغامضة جالسة على السرير دون أن تترك أثرا لجلستها كأنما هي عصفور حط على الفراش ..
بدا أن جسدها صار أقرب هذه المرة… كسر تفكيره….دق قلبه وانقبض انقباضة غريبة ،في اللحظة التي بدأت الذكريات تعود إليه رويدا ،تملكه إحساس بالعجز المصحوب بالذنب
هل هذا هو الثمن الذي كان عليه دفعه ؟

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى