ط
مسابقة القصة

البحث عن الذات .ملخص مسابقة الرواية بقلم / مايسة بوطيش من الجزائر

البحث عن الذات .ملخص   مسابقة الرواية بقلم / مايسة بوطيش من الجزائر

البـحـث عـــــن الـــــذات

 

هل ستتحرر يوما إذا هجرته؟ ربما ستجد حريتها التي تنتظرها؟ هل تمتلك الجرأة والشجاعة الكافية لمغادرة البيت؟ هل يا ترى تستطيع؟ هل ستتعود على العيش بمفردها وهي التي لم تنم يوما واحدا في حياتها خارج البيت؟ وكيف ستواجه الحياة والمجتمع؟ هل، وهل وهل…، أسئلة كالخناجر تغرس في جسمها وتؤلمها؟ويا ترى ما هو الحل وما هو السبيل؟ هل ستستسلم لواقع مر وحياة من عدم، في قفص يخنقها ويشتت أفكارها، تذوق طعم الانكسار كل يوم ألف وألف مرة؟

إنها ليست مرتاحة في حياتها الزوجية، ويقسو عليها ويريد السيطرة على شخصيتها. كل هذه الأسئلة راودت حورية.

اسم جميل لإنسانة فقدت كل حقوقها وخاصة لعيشة كريمة برفقة رجل سكير قلبه قاس مثل الصخر.  سئمت الحياة معه وبلامبالاته التي بنت سدا منيعا بينهما.

لكن؛ كل هذه الأسئلة التي تطرح نفسها بنفسها، تشتت ذهنها وترسم لها صورة لأطفالها وتفطر فؤادها، هي قبل كل شيء أم، وقلب الأم نبع من الحب والحنان والعطاء والتضحية من أجل سعادتهم. تنهدت حورية تنهيدة عميقة ذبحت صدرها ومسحت دموعها التي تتساقط كالشلال وجرفت من كثرة غزارتها جفونها، وحفرت على خدودها قصتها المؤلمة. هل الزمن سيكون كفيلا ليداوي جراحها؟ ألم ووجع يقرأ على ملامحها، وحتى في شبح ابتساماتها الحزينة.

معيشتها لا تطاق ولا تحتمل، كل يوم نفس المسرحية، يعاقبها لأتفه الأسباب، وإذا دافعت عن نفسها، يُسْمعها كلاما جارحا تقشعر منه الأبدان.

تدهورت حياتها من أجل حبها للكتابة، لم تولد شاعرة ولا كاتبة، بل قسوة الحياة هي التي فتحت لها باب التعبير عن نفسها. حورية امرأة حساسة منذ طفولتها، حضنها الألم منذ الصبا، لكن الزمن ضمد جراحها، وتجاوزت محنتها بشجاعة وصبر. وها هو الوجع يطرق باب قلبها وممن؟ من أقرب وأعز الناس إلى قلبها، يهينها من جديد ويجعل حياتها جحيما.

ماذا يمكنها أن تفعل، هل تستسلم للقدر وتشرب كل صباح كأس المر، أم تدافع عن نفسها؟ أم تترك البيت وتهجره؟

في طفولتها، كانت من أجمل بنات المدينة، جمالها من جمال الأرض العربية الطيبة، تربيتها أصيلة بحتة، لا طويلة ولا قصيرة، شعرها لون ليل حالك، جداولها كالحرير تتراقص على خصرها في كل خطوة تخطوها في باحات البيت، كلها دلال وجمال. جيران الحي يمدحون جمالها وخفة ظلها، إذا تحدثت لحن موسيقي على وتر العود، يشدو لحن قصيدة رائعة. عيناها، لون بحر أزرق هادئ في فصل الربيع، يغني الحياة وروعتها. بشرتها لون الحنطة، سمراء من أرض العروبة، تشد الناظر لهذا الجمال الخارق الذي يسر العين والخاطر.

جميلة هي حورية، اسم على مسمى، رنان وله أسمى المعاني. حورية، حب وأمنية كل قلب طموح، يحب وطنه، حورية ثائرة ليس لها حدود، مثابرة، شرسة ضد القيود والعبودية. رصاصة قاتلة في قلب العدو المستعمر، حورية حلم؛ أبدعت له الأقلام في قصائدها عبر كل أرجاء العالم وغنت له كل القلوب. حورية اسم سجله التاريخ بأحرف من ذهب. حورية، لمسة حب وعطاء، جرح ومعاناة، وجع ودواء، قنبلة في قلب الاضطهاد والعبودية. حورية حمامة سلام وبلسم للأوجاع. حورية، حلم وأحلام، حلم عاشق ولهان، يسرد حبه، جار القمر عاشق ولهان. حورية البحر الأزرق والموج الراقص الذي يداعب الصخر. حورية، أجمل وأسمى اسم عزيز على القلوب وشفاء للكروب، وحلم كل إنسان على هذا الكوكب. حورية، ضحكة طفل، وزغردة أم، أمنية رجال، ونشيد وطن وعلم فوق التلال يرقص بلا رياح ولا نغم. حورية، في لفظه رومانسي وفي طياته أحلام غجرية.  ترعرعت في عائلة مثقفة وهي أصغر أخواتها، حب أب وحلم أم، ملكة في قلب الأب وأميرة في وسط الإخوة والأخوات. عزيزة في قلوبهم، مدللة في رعايتهم لها.

توفيت أمها وهي في القماط، عانت من الغياب، فراق سلطانة قلبها الصغير، رحلت ورحل معها كل الحنان والعطاء. تركت لها الحزن والانكسار. الأب والإخوة طبعهم خشن ككل الرجال المحافظين، لكن الحب موجود في قلوبهم والخوف على الأنثى واجب في دستور العائلة ومنذ القِدم. أخ حنون يحب العلم، أخذها تحت عاتقه فوقف بجانبها شجعها، وساندها لكي تكون امرأة مثقفة لها مستقبل أحسن من أخواتها. عملت بنصائحه فسهرت وثابرت وتكيفت مع ليالي الشتاء وصقيعها، والصيف وشدة حرارته، وبباسطة العيش تأقلمت، ونجحت بامتياز وانتصرت، كسرت قيود الجهل فأثمر فكرها وقوّى عزيمتها.

أما أخواتها وإخوتها، فأعطوها ما استطاعوا من الحب والحنان، كانوا يكبرونها سنا وكل واحد منهم له عائلة ومسؤولية على عاتقه.

صبرت وهي طفلة، وسهرت وهي شابة في مقتبل العمر، لم ترحمها الحياة، كدّت وثابرت وتخطت كل الصعاب بروية. أحلامها كانت كبيرة على كاهلها الصغير، الحلم الذي كان يراودها كثيرا ويتبع خطاها، أن تكون صورة غير مشابهة لأخواتها اللواتي لم يلتحقن بالمدارس، أن تكون حرة كالخطاف في سماء بلدها، وأن تكسر كل الحواجز التي تعرقل طريقها وتصنع مصيرها بيدها وألا تتّكل على غيرها وألا تلبس ثوبا غير ثوب أصالتها وعروبتها. أن تصبح معطاء وحنونة كأمها التي لم تكن بجانبها والتي كانت تفتقدها كثيرا.

لكن، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، والقدر لم يكن حليفها، أحلامها الجميلة تبخرت والانكسار تبع خطاها وأجهض كل أمنياتها.

تزوجت في سن مبكرة، ليس لها دراية ولا أدنى فكرة عن أسرار الحياة الزوجية ولا المسؤوليات التي تنتظرها.

زّفت إلى بيتها الزوجي في يوم من أيام الشتاء القارص، وغادرت بلدتها الصغيرة متوجهة إلى المدينة الكبيرة، الجزائر البيضاء، مدينة الأحلام، البهجة المدللة عند عشاقها، والملقبة بذات العيون الزرقاء.

تأقلمت في محيطها الجديد، وعند الانتهاء من احتياجات البيت، تجلس في ركن من غرفتها تطالع الكتب، وأحيانا أخرى تلعب مع أخوات زوجها وتستعيد طفولتها المحرومة، هي في الحقيقة لا تزال طفلة غير ناضجة، فعمرها لم يتجاوز ست عشرة سنة. استمرت حياتها الزوجية وأنجبت أطفالا ونضجت حورية وأصبحت أما، ومع مرور الوقت والسّنين، أحبّت المدينة الكبيرة. لا بل عشقت جمالها وأناقتها ولباسها الأبيض الجميل. وحرمت مرّة أخرى من حريّتها، لا تخرج إلا للضّرورة وبمرافقة حماتها. هي، امرأة قويّة، وصبورة في أعماقها إحساس رقيق، تملك قلبا طيّبا، لكنها في نفس الوقت عنيدة إذا أصرّت على شيء لن تستسلم أبدا، حتى تأخذه.  لم ترفع العلم الأبيض وأحلامها لا زالت ثابتة، ولا زالت متمسكة بحريّتها طال الزّمن أم قصر.

في طفولتها قرأت قصصا وكتبا كثيرة، تعلمت من المطالعة أشياء كثيرة وأفادتها بمعلومات قيّمة، وأصبحت لها ثقافة عامّة، تجيد اللّغة العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة كتابة وقراءة. أحبّت الكتابة منذ نعومة أظفارها، لكن لم يساعدها الوقت ولا الأجواء، ولم تسمح لها الظروف، فتربية الأطفال كانت شاقّة والمسؤوليّات كثيرة. لم تجد وقتا كافيا لاستثمار مهارتها الكتابيّة.

كبر الأطفال، ودخلوا المدارس وغزت التكنولوجيا والعالم، والكتابة بالقلم أصبحت قليلة وشبه منعدمة، طواها الزمن في علب الأرشيف. خرجت حورية للشّغل الذي كانت تتمناه بكل جوارحها واحتكت بشخصيّات وأناس من كل فئات الطبقة الشعبيّة بصبر وثبات وإيمان واصلت وبرهنت أنها سيدة مناضلة وعزيمتها أقوى من الظلم، تابعت بإخلاص مشوارها العملي لسنوات طويلة.

ليس لها حظ حورية الجزائر. شاء القدر مرة أخرى أن يهضم حقها وتجهض حريتها وان تتوقف عن العمل لرغبة زوجها. مكثت في البيت بعد أن أعطت بتفان أجمل سنين عمرها في العمل والكد ومساعدة زوجها في تربية أطفالها. إنها حقا، امرأة شغوفة، لكن لقضاء الله تنحني بصمت ورضا وإجلال.

في البيت، وبعد ما شبّ أطفالها وأصبحوا راشدين، أصبح لكل منهم أحلام وأمنيات وهدف في الحياة، عصافير تريد أن تطير بأجنحتها لتبني مستقبلها. هذه هي سنة الحياة.

وجدت نفسها بين أربعة جدران والفراغ يلتهمها، فأمسكت القلم وبدأت في الكتابة، فاحتضنها الحرف وأهدى لها كل الحرية لتعبر عن مشاعرها وإحساسها وما يدور في داخلها. أمسكت بالقلم بين أناملها الرقيقة بشغف، ولهفة ليس لهما نظير، وبدت أحلامها تلوح لها، وترسم لها لوحات من الفن المؤدب والعتيق في حروفها. إحساسها كان جميلا ومشاعرها كانت تسطر بصدق درب حياة امرأة بسيطة تبحث عن ذاتها لتحقق ما استطاعت من حلمها الوحيد وهو الكتابة. سردت ذكرياتها وأشواقها وحنينها، وحبها لأرض الوطن، لحقولها ومروجها وتلالها حيث كانت تلعب وهي طفلة مع بنات حيّها، تبكي بألم شديد، غياب أمها وحبها الأسطوري لها ولبيت العائلة الذي تفتقده.

مشاعر كانت تنتظر على المحك في سجل الذكريات، جوارح كانت منغرسة في الروح، راسخة شامخة لم تستسلم لا للزمن ولا للتيارات ولا لتغيير المكان، هي نائمة وموشومة في الذاكرة.

أشواق واشتياق على اللظى تحترق لوطنها الأم، وطن حفر خطوات طفولتها في طرقاته، حنين خلخال أمها الرنان، صوت عكاز أبيها حين يدخل إلى البيت وضحكة أخواتها وإخوانها بين جدران البيت وهو يحمل بين جدرانه أجمل الذكريات، ضحكة أخ، حب بدون حدود لأم حنون وأب متفان من أجل إرضاء أطفاله. ذكريات ماض حافل راسخ في ذاكرة يحارب النسيان وسنين صبا وطفولة أميرة كان الدلال والحب يحيطان بها. تتألم حورية كلما تذكرت، فتكتب سطورا وسطورا بحبر عيونها ويبكي القلم لوجعها، يحاول الحرف الترفيه عنها ويلملم قدر ما استطاع جراحها ليخفف بقدر بسيط من آلامها.

إنه صديقها الوفي، فإذا ضحكت يرقص لضحكتها بين أناملها ويشاركها الفرحة وإذا حزنت بكى ألما وأغرق بحبره تلك الصفحة العذراء البيضاء بسواد حروفه الحزينة.

أصبح القلم صديقها المقرب، لا يفارقها أبدا، تحتفظ به في حقيبتها اليدوية مع كراس، فإذا جاء الإلهام، وهمس لروحها، تمسك قلمها السحري وتبدأ بتصميم لوحات من الإحساس وبحروف صادقة وحساسة ورومانسية حتى النخاع، جارة القمر، هي حورية تلك المرأة البسيطة.

تغيرت حياتها، لانكسارها، والظلم الذي وُشم على حياتها، وحريتها التي سلبت منها، عزلت نفسها ورسمت موطنا من الشعر يخاطب باللغة الفرنسية والعربية، موطنا تروّح فيه عن نفسها والقلم يكتب في صفحتها، مطيعا لها، موطنها خال من الظلم والاستبداد فهي التي تسيره وتسطر له خريطة الطريق، هي سلطانة مملكتها والقلم وزيرها والحرف سفيرها.  زوجها صار دون عمل، لغيابه المتكرر عن العمل ومزاجه المتقلب يرهقها بأسئلته الكثيرة والتي ليس لها معنى، وتأنيب أطفاله بدون مبرر. إذا جلست، لم أنت جالسة؟وإذا كانت منشغلة، تعالي هنا؟ يضايقها ويشوش أفكارها، أصبحت الحياة معه صعبة والجو مكهربا، كل يوم شجار وعراك وحساب وعقاب أمام أولادها، يهين كرامتها ويشتمها أمامهم. فتختفي في حجرتها وتبكي بمرارة لشدة ألمها. تتوجه إلى الله وتصلي فتخفف عن آلامها بالدعاء، أو تفتح كتاب الله وتقرأ سورة الكهف. تستغفر وتسجد للمولى العظيم راجية منه أن يغفر لها إذا ظلمت وأن تتقبل الظلم بصبر وثبات وتتمنى ألا تكون ظالمة مدى حياتها. في كل يوم قصة، عتاب وألم، كل هذا سببه الخمر والعياذ بالله ورفضه القاطع للهبة التي وهبها الله لها وهي الكتابة. لم يتقبل أبدا أن تصبح قاصة، فهو شديد الغيرة والشك. ولمعاقبتها يمنع عنها الدخول إلى عالم النت واستعماله.

حورية، تنشر قصصها الصغيرة للأطفال وحتى للكبار في المواقع الاجتماعية أصبح لها معجبون كثيرون يحبون قراءة خواطرها سواء كانت بالفرنسية أو بالعربية. إحساسها كان معبرا وصادقا من شدة ردة فعل زوجها والخوف على مشاعره صارت تنشط خلسة دون علمه. يعود للبيت دائما مخمورا لا يعرف يمينه من شماله يشتمها بدون سبب ولو رآها جالسة أمام الحاسوب، ينقلب مزاجه، يثور وتنقلب حياتها إلى جحيم، ويبتكر أي وسيلة ليعكر مزاجها، يتشاجران بصوت عال، حتى أنها في بعض الأحيان تغضب أشد الغضب وتطلب منه الطلاق والانفصال بالمعروف.

أحبت الحرف وأحبها، الفن ليس جرما، ولا حراما ولا عيبا، إنه جمال روحي ينعم بالخيال وفي معظم الأحيان، ألم ووجع. تمنّتْ، لو كانت لها الجرأة والشجاعة أن تتركه وتهجره، لكنها امرأة أصيلة ولا بد لها أن تتحمل، إنه شريك حياتها وأب أولادها، ولابد أنه يشعر بالوحدة لفصله من العمل. تهدأ الأجواء يومين وتنفجر مرة أخرى، فيتشاجران ويصبح جو البيت عكرا لا يطاق، شديد الغضب، يشتعل كعود الكبريت لأي سبب ومن دون سبب.

بدأت هذه المعركة منذ أن غصبها وبالقوة وأمرها أن تترك عملها، رضخت لأوامره ومشت على طاعته، وتركت العمل رغما عنها، كونها إنسانة تخاف الله ويجب أن تكون مطيعة لزوجها حسب الدين والأصول، لكن في أعماقها أحست انه اقتلعها من جذورها ومن عالمها الذي كانت تجد فيه نفسها. شعرت وكأن شيئا انكسر في داخلها.  كانت صدمة شديدة بالنسبة لها، ومن أين له بهذا الجحود وهذه القسوة، لم تدرك أبدا أن كل هذا يأتي من أعز الناس إلى قلبها، انكسرت وعرفت أن هذا الانكسار سيقوي عزيمتها وستكمل مشوارها الكتابي وستبهره وستهزم العزلة ولا أحد يوقفها عن تحقيق حلمها، وأن الأيام ستبرهن له أنها مهما بنيت أمامها الحواجز ومهما اقتلعت كالشجرة من جذورها فإن قلمها هو الذي يفوز في نهاية المطاف وسيبرهن على موهبتها. حُبست حورية بين أربعة جدران بدون رأفة، وعزلت وراء جدران الانكسار، الخروج ممنوع. ألم ووجع ودمع وآهات، أصبحت في لحظة غضب امرأة مسجونة ضعيفة لا تقوى على ردع سجانها. ليس لها خيار ولا عائلة تأويها، فكل تصرّف محسوب على سمعتها، وككل امرأة أصيلة، لم تترك البيت وتحملت الصعاب من أجل فلذة كبدها. لكنها عاهدت نفسها أنّ روحها لن تركع لأي قيد من القيود ولابد أن تكمل مشوارها الإبداعي.كثرت مناوشاته من جراء شربه الخمر، وأصبح البيت مضطربا بعد أن كان مستقرا في السابق.

وفي ذات يوم، نهض الزوج، شرب فنجاناً من القهوة، ارتدى ثيابه ونزل إلى المدينة ليحتسي الخمر كعادته مع أصدقاء السوء، كانت على يقين أنه سيتأخر في عودته إلى البيت.  حزمت أمتعة خفيفة وكتبت رسالة لأولادها ووضعت في خزانة كل واحد منهم نسخة منها. تطلب منهم أن يفهموا وضعيتها وأن مغادرتها البيت ليست سهلة عليها، لكن الأمور تفاقمت وأصبحت لا تقوى على التحمل، لا بد من الرحيل. وأنها سئمت العيش في هذه الأجواء المكهربة وهذا هو الحل الوحيد، لا يوجد له بديل. الانكسار والاكتئاب حطما نفسيتها ولم تعد تقوى على التحمل. تفقدت أوراقها الرسمية، لبست عباءتها ولفت على رأسها وشاحها، وخرجت، ولم تعد.

ترجلت، رافعة رأسها، تخطو بخطوات ثابتة، تنظر إلى المارين بقسوة لكيلا يتحرش بها أحد، فهي امرأة محافظة وذات خلق، تعرف أن المرأة إذا كانت بمفردها تصبح فريسة، تطمع فيها الذئاب المتوحشة، والذئاب في عصرنا هذا كثرت، فلا توجد ذرة رحمة ولا رأفة في قلوبهم.

في محطة الحافلات، مشت والحزن يقرأ في عينيها، قطعت تذكرة السفر، وركبت مع المسافرين، فهي تعرف جيدا مقصدها وأين هي ذاهبة. كانت المحطة مكتظة بالمسافرين، ركبت الحافلة واختارت مقعدا بجانب امرأة لتستأنس برفقتها، وضعت حقيبتها اليدوية على حجرها، واحتضنتها بقوة، وشرد فكرها في بيتها الذي بنته بحب وتفان، وسنوات شبابها التي مضت بسرعة. رسمت على شفتيها ابتسامة حزينة وهي تفكر في فلذة كبدها، أطفالها الذين هم جمال بستان حياتها. أغمضت عينيها وشرد فكرها إلى زمن طفولتها وغياب أمها الحنون، الذي أثر فيها كثيرا فلو كانت على قيد الحياة لما تركتها تتعذب وتتوجع وتعاني الأمرّين، ولو للحظة واحدة، فهي الأعز والأحب إلى قلبها وقطعة من روحها.

بكت وسالت دموعها كالشلال، تحفر على خديها معالم القهر والظلم والاستبداد، زفرت تنهيدة زلزلت كيانها وارتجف جسمها من شدة الحزن.

في فكرها أسئلة كثيرة، شتتت أفكارها وعذبت نفسيتها ليس لها أجوبة في الحين:-هل يعقل بعد كل هذه السنين وبعد مرور كل هذا العمر أن يحصل ما حصل؟  أين ذهب الحب الجميل، أين عباراته الجميلة العذبة، وأين الوفاء والاستقرار؟ فالحب إحساس جميل، مغفرة وعطاء وصدق. كل هذه المعاناة والقسوة، بذرتها بذرة شريرة، جرفت الأخضر واليابس، حطمت الأفئدة وَهدمت الحب، ألا وهي بذرة الغيرة المجنونة واحتساء الخمر لعنة وُلدتْ العنف والعنف ليس من شيم الرجال.  المرأة إنسانة رقيقة وتستحق كل الحب وكل الاحترام، وهي من القوارير. أحبت بشغف القلم لا لحب النجاح ولا المجد ولا الرفاهية، هي من معدن أصيل، ومن طينة لا يغيرها الزمن ولا المكان مهما تقدمت التكنولوجيا، ومهما حررت المرأة فهي من السيدات اللواتي يحببن أن يكون الزوج هو السند والهرم، هو رفيق الدرب واليد في اليد ليشْقْن طريقهن ويحققن أحلامهن وأحلام أطفالهن لعيشة رمزها الكفاف والعفاف. لم تركض أبدا وراء هذه الشعارات ولا وراء حرية المرأة المزعومة، فهي لما كانت تعمل، تخرج من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت، هي دائما حاضرة إذا طلبها زوجها أو أطفالها. فهي امرأة مؤمنة. فالرزق من عند الله.

حياتها بسيطة، لا تكترث للرفاهية، هي شديدة البساطة في لباسها وفي معيشتها، تربت على هذه المبادئ وترعرعت على الحمد والشكر للخالق والطاعة، والدعاء الذي هو راسخ في روحها هو: “اللهم اجعل زادنا التقوى، وثبتنا على الدين والطاعة”. لم كل هذا التغيير؟ الحب عطاء، غفران وتسامح، فلم كل هذا الظلم والاستبداد؟ هل زجاجة الخمر تفعل كل هذا بالإنسان؟ كل هذه الأسئلة راودتها وشغلت فكرها طيلة سفرها إلى موطنها الأم. حاول الزوج الاتصال بها مرارا وتكرارا، لكنها لمترُّدْ على محاولاته.

من شدة الألم، لم تستطع الرد على مكالمات أولادها الذين انشغلوا لغيابها. اعتذرت لهم في رسالة حزينة ومؤلمة؛ إنها لن تقوى على الاستمرار مع أبيهم تحت سقف واحد وأنها اعتزلت الحياة الزوجية وطوت صفحة الأوجاع ووضعتها على رف النسيان ولن تفتحها أبدا طال العمر أم قصر.

لقد اكتفت من الأوجاع التي أصبحت حملا ثقيلا على كاهلها لا تتحمله إلا الجبال. والرحيل هو الحل الوحيد الذي لا بديل له.

إنها تحبهم وهي موجودة في هذه الحياة من أجل سعادتهم متى أرادوا وأينما أرادوا. فهم الأقربون والسلاطين على عرش قلبها. لكن، لا فرار من المكتوب، لقد أصبح الأمر محسوما لا جدال فيه.

فهم كانوا يشاهدون بحزن وقلق شديد الشجار الذي كان يدور بينهما فينزعجون، وينظرون إليها بنظراتهم الحزينة والمستاءة وهي تبكي بمرارة، فيتركون البيت ويهرعون إلى الخارج.  لم يمر وقت طويل على مغادرتها البيت حتى اشتاقت إليهم وبدأت تفتقدهم بشدة، فالأم عزة وفخر وسند ومحيط من الحب والعطاء بدون كلل.

هل، يا ترى يتقبلون الوضع وهي غير موجودة، فالبيت سيصبح باهت اللون، مكتئبة غرفه، ليس فيها روح ولا حيوية، وجود الأم في البيت حياة وعالم فيه البهجة والسكينة، أما غيابها فهو حزن وكآبة، يحفر في الذكرى التي تروي الأشواق والحنين لسيدة البيت التي بصمت بخطاها وضحكتها ولمستها الحنونة في كل جدران البيت. غياب الأم صعب وجرعة مرارة، هي تعرف هذا الإحساس وشعرت به وعانت منه في طفولتها عند رحيل أمها، لكن الحمد لله، هي حية ترزق، لكن ألم الغياب شعور موجع ومؤلم لا يحتمل، هذه سنة الحياة ولابد من التأقلم، لأنها ستستمر ولن تتوقف عند وجعهم، ففي العالم أوجاع أضخم وأكبر بكثير. ترى، هل، سيتأقلمون. وكيف ستكون معاملته لهم؟ سؤال، لا تريد معرفة جوابه في الوقت الحاضر، ستجيب عنه الحياة في أيامها المقبلة. وهي متحسرة قالت لنفسها: سأكلمهم حتما عند وصولي إلى وجهتي؟ تنهدت بآه يمزق الفؤاد وقالت في نفسها:- لن أفكر في الموضوع الآن، لقد اكتفيت، ولا أقوى، لكني لن أرضخ لغريزة الأمومة، فالأمور أصبحت واضحة والحياة في هذه الأجواء المعكرة صارت مستحيلة. فليفعل الله ما يريد فلا مفر من المكتوب. هي أخذت القرار الصحيح.

توقفت الحافلة في بلدتها الصغيرة، بكت حورية وراودها حنين الديار، رق فؤادها، لكنها أمسكت دموعها وأخمدت ألمها في الأعماق، نزلت من الحافلة وحقيبتها في يدها، ترجلت على أرض طفولتها وطن الأم والأحبة وسنين الطفولة والضحكة البريئة. فحنّت لعائلتها وبيت الطفولة ورفاق الصبا ولجمال الطبيعة والزهور البرية وحقولها الخضراء وسنابلها الذهبية. نزلت الدموع من عينيها الحزينتين فتركتها تداعب ملامح وجهها الجميل. توجهت بعزم وثبات نحو دار العجزة التي فتحت أبوابها منذ زمن غير بعيد، لقد قرأت الخبر في الجريدة، البناية غير بعيدة عن محطة الحافلات. توكلت على الله ومضت إلى وجهتها. هي تعرف الطريق جيدا وبعد مرور عشر دقائق من الزمن، وصلت إلى سعيها فقرأت اللوح الذي كان في أعلى البناية. فرسمت على شفتيها شبح ابتسامة، وقالت: ها أنا وصلت.

نظرت إلى الباب الضخم المصنوع من الخشب المميز، والحزن باد في جفونها، لقد زين بزخارف جميلة وبتصميم يد فنان محترف، جمال نقشه يبهج النظر، لمست بيدها الجرس، فرن وكأنه يرحب بها. سمعت صوت خطا متجهة نحو الباب. فتح هذا الأخير ورأت سيدة في عقدها الخامس، فحيتها حورية بأجمل تحية:- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ابتسمت السيدة وردت عليها التحية وطلبت منها الدخول. سلكتا رواقا طويلا ونظيفا، الهدوء والسكينة كانا يعمّان المبنى الكبير ذا الطراز الأنيق، يذكر أنه بني من طرف سيد ثري ونبيل من سكان البلدة الأصليين وهو معروف بسخائه ومد يد المساعدة للمعوزين.

أدخلتها السيدة إلى مكتبها، كان مرتبا به أثاث بسيط، أحبت حورية هدوءه وبساطته، والذي زرع في قلبها السكينة هي حفاوة الاستقبال من طرف السيدة. طلبت منها الجلوس، فجلست حورية بهدوء وتمعنت في المكتب وأحبت ترتيبه.

نظرت حورية بعينيها الخضر الجميلتين، فلاحظت أن السيدة تملك لمسة من الأناقة لأن المكتب كان مرتبا وكل شيء في مكانه. ستائره شديدة البياض فيها رسوم جميلة تغطي النافذة الوحيدة التي تطل على فناء كبير، تتراقص على نسمة ربيعية منعشة.

قدمت حورية للسيدة ملفها، وقالت لها:- أنا الموظفة الجديدة، هذا هو الملف، تفضلي واقرئيه لو سمحت.

بينما كانت المديرة تتفحص أوراقها وتقلبها في صمت، شردت حورية، للزمن ولأجمل سنين عمرها التي مرت مرور الكرام وتذكرت المؤسسة التي عملت فيها سنين طويلة، لن تنساها أبدا، تعلمت حورية الكثير والكثير في مشوارها العملي، صادفت كثيرا من الناس في المجتمع، أناس بسطاء وأثرياء وشخصيات سياسية كبيرة، لكنها بموجب تربيتها العريقة وأخلاقها الحميدة، لم تستغل الفرصة في يوم من الأيام لتحسين حياتها، لا في طلب مسكن واسع ولا في الرفاهية. هي تقوم بعملها بنزاهة وإخلاص،راضية كل الرضا بما كتب الله لها. مشوارها المهني كان دائما في شركات خاصة.

اشتغلت حورية في مؤسسة ذات طابع سياسي، كسكرتيرة، فاستفادت الكثير من زملائها في العمل مثابرين، وقابلت أناسا من الطبقة البسيطة وسياسيين محترفين ومتفانين في عملهم وأناسا آخرين مغرورين بالسلطة والتباهي.

فئة منهم يركضون وراء الحكم والسلطة والنفوذ، لا يملكون أدنى درجة من الثقافة، يحبون المال حبا جما، يتاجرون بأحلام المواطنين الفقراء نفاقا، إغراء ومحسوبية لكي يحققوا أحلامهم الشخصية. وفئة أخرى في منتهى النزاهة والإخلاص والتربية الحميدة ومد يد المساعدة والدفاع عن حقوق المظلومين. لكن ما لا يصدق،.

غادرت بدون ندم مرفوعة الرأس والهامة. هي من طينة أصيلة وماضي أحرار، وشم في صميم قلبها لن يغيره الزمن. الموت في الفقر معززة مكرمة ولا العيش في الثراء على حساب المستضعفين. مضت قدما في حياتها وبدأت في البحث عن منصب عمل جديد، فحالفها الحظ والتحقت بشركة خاصة في ضواحي الجزائر العاصمة.  بعد حوار جرى بينها وبين مدير الشركة وامتحان على الكمبيوتر، قبلت بصدر رحب من المدير، طلب منها أن تستلم العمل في الغد. فرحت حورية واستلمت منصبها. لم يكن اختصاصها لكن بمثابرتها تعلمت من زميل لها وأتقن تعليمها لكونه عاملا مخلصا له ضمير. هو ذو أخلاق عالية، مواطن بسيط مثلها يعطي ولا ينتظر غير راتبه الشهري كل آخر الشهر. رجل صالح، بسيط، يكسب رزقه بالحلال ويعمل بوفاء.

مدير الشركة لا يقطن في الجزائر العاصمة، فهو يأتي إلى المكتب من حين إلى آخر، حورية هي التي تفتح المؤسسة أو زميلها، وهما الوحيدان اللذان يملكان المفاتيح، لأن هذا الأخير كان يثق فيهما. تنهدت وكأنها أفاقت من غيبوبة طويلة، وقالت بصوت ثابت، مخاطبة المديرة التي انتهت من قراءة الملف وطوته بلطف على المكتب. سأخدم المسنين بإخلاص وتفان، سأمكث في دار المسنين حتى أرتب أموري وأبحث عن شقة صغيرة أسكن فيها.

قالت بصوتها الحنون:- سأبقى بجانبهم وكأنني ابنة تقوم بواجبها نحو والديها. أمنيتي أن أكون قريبة منهم، أقوم برعايتهم عندما أنتهي من عملي في المكتب، أعطيهم ولو القليل من الحب والحنان، لعلي أجني أجرا عند الله، ويكتب لي إن شاء الله في ميزان الحسنات.

أتمنى أن أكون قد أحسنت الاختيار، وهو أن أسخِّر حياتي في عمل الخير والعطاء لوجه الله.

ابتسمت السيدة، لقد كانت تسمعها وهي تتكلم بهدوء شديد، لمست في نبرات صوتها حزنا ووجعا شديدا، أحست بوجعها ولم تطرح عليها أي سؤال، لكيلا تحرجها. أمسكت يدها وقالت لها: أهلا بك، كنا في انتظارك. رفعت حورية رأسها بفخر واعتزاز وقالت في نفسها: الآن أشعر براحة البال، فوداعا للظلم والقسوة والاستبداد سأكتب بكل حرية، لن يمنعني أحد، لقد كسرت الحواجز وقلمي أصبح حرا طليقا، سألبس ثوب حريتي المغتصبة، سأستأجر بيتا صغيرا وعندما تسمح الظروف، وأستقر، سأجمع أولادي وسنعيش كلنا تحت سقف واحد، ويعم في حياتنا الاطمئنان والسعادة إن شاء الله.

الألم تكلم وقال: -” سأفكر في هذه المسألة في الأيام المقبلة”.

أما الآن فأنا جد مسرورة، فوداعا للألم ووداعا للانكسار وألف وداعا للوجع. المهم أني وجدت ذاتي في موطني الأم.  قٌبل ترشحها للمنصب بصدر رحب من المديرة التي قالت لها:- ستمكثين معنا حتى تستقري في حياتك، اتبعيني لأريك غرفتك. حملت حورية حقيبتيها وسارت بخطى محتشمة وراء المديرة، – غرفتك توجد في الطابق الأول أرجو أن تروق لك. تبسمت حورية بابتسامة خجولة وردت على المديرة بصوت يعتليه الخجل: -أكيد سيدتي مدام هي من اختيارك ستكون من أجمل الغرف. أشكرك سيدتي وأنا ممتنة على يد العون وطيبة مشاعرك. ردت المدير لا تهتمي حورية: – إن بعد العسر يسرا إن شاء الله.

دخلتا الغرفة وسرعت المدير لنزع الستائر على زجاج النافذة، أنارت أشعة الشمس الدافئة كل الغرفة. نظرت حورية بحزن إلى الغرفة التي ستكون مأوى لها. يوجد فيها سرير مريح عليه وشاح وردي وورود جميلة، في ركن من الغرفة خزانة خشبية ذات بابين وطاولة عليها كمبيوتر.  فرحت لرؤيته حورية ورحبت به في الغرفة. ثم نظرت إلى المدير وعلى شفتيها سؤال في الأفق. و بادرت وقالت لها: – هل توجد فيه الأنترنت.  تبسمت المديرة وردت عليها قائلة:- نعم موجود، يمكنك أن تكتبي وتنشري كل نصوصك، لن يزعجك أحد.في تلك الليلة لم تنم حورية، أسئلة كثيرة راودتها لكنها كانت مشتتة التفكير ومنهكة الجسم لطول مسافة السفر. ومكثت حورية بين المسنين. وذات يوم وهي في مكتبها وصلتها رسالة من زوجها، فتحتها بيدين مرتعشتين. ثم انفجرت باكية بصوت مرتفع وهي تصرخ من شدة الوجع. قال في رسالته إنها طالق بالثلاث ولن ترى أطفالها مدى الحياة وتصلها ورقة الطلاق عند أقاربها. ومنذ ذاك اليوم حبست نفسها في حجرتها من شدة الحزن والانكسارات التي توالت عليها. وحفر الوجع في عينيها الجميلتين صورا كئيبة. لقد قضي عليها ولن ترى أطفالها وكل أحلامها تلاشت وأصبحت سرابا، زوجها انتقم منها أشد الانتقام الا وهو حرمانها من فلذة كبدها.

اعتزلت في غرفتها وانطوت على نفسها من شدة الحزن وهيمن الاكتئاب عليها. وبينما هي شاردة بين أفكارها سمعت أحدا يطرق على الباب فنهضت وهي ترتعش. فتحت الباب إنها المديرة وفي يديها الإفطار فلما رأت حالة حورية المتدهورة سألتها قائلة: – ماذا يحدث، لم أنت تبكين؟ ردت عليها بصوت حزين وقالت بصوت مرتعش: – لقد قضى على حياتي زوجي، طلقني وحرمني من رؤية أطفالي مدى الحياة وهم كل حياتي.

مضت السنين وحالة حورية الصحية تتدهور. ومكثت في الفراش مدة شهرين وأبت أن تزور الطبيب، أصبحت شاحبة الوجه وذبل بريق عينيها الجميلتين. أصبحت لا تستطيع مغادرة الفراش. انقطعت عن الطعام وإذا أرغمتها صديقتها على الأكل نحس وكأنها تطعم عصورا صغيرا. لبس الحزن حورية الجميلة وعينتها انجرفت من شدة البكاء. انه عقاب وحش قلبه من الفولاذ لا توجد فيه ذرة من الإنسانية. واستمرت على هذا الحال ينحرها الانكسار والوجع. وأصبحت شظايا امرأة ترفض الحياة دون أطفالها. حلمت بحياة مستقرة محاطة باطفالها فيها كل الحب و الحنان لتراهم يكبرون أمام أعينها.” لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”.  أتت لدار المسنين لتعمل وتكد وترعاهم لتكسب من خلالهم ثوابا فوجدت نفسها فردا منهم بمعاناتها،. وها الأمل يهجرها دون رجعة.

وماتت حورية الجميلة، الحالمة من القهر وبسبب إنسان لا يعرف أن الأنثى من القوارير، ماتت من شدة الحزن، ماتت كغريبة وكأنها لم تكن. ماتت معزولة و مهزومة، ماتت في الغربة وبغربتها.  ودفنت في مقبرة الغرباء بعيدة عن بيتها وعن أطفالها. ماتت وهي تنادي أريد أن أرى أطفالي، أريد أن أضممهم إلى صدري، أن أقبّلهم، أريد أن أودعهم قبل موعد الرحيل دون رجعة. لكن لا حياة لمن تنادي. فارقت الحياة وأخذت معها صرختها ودموعها التي بللت وسادتها. عاشت يتيمة وماتت يتيمة وتركت أطفالها لأحضان اليتم. الوجع كان متغطرسا وجلادا، سطا على حياتها كليّا، وقتل كل أحلامها الجميلة، حرمها الحياة ومن حتى من حضن أطفالها الأبرياء في لقاء الوداع.

 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى