ط
مسابقة القصة القصيرة

الوجع المتبـقي مسابقة القصة القصيرة بقلم /كريمة كرايمى من الجزائ

الوجــــع المتبـــــقي
كريمة كرايمى من الجزائر

عجوز عقيم…
آخر ما قالته له و ما فهمه من الصراخ ومن وابل التهم الخارجة من شفتيهـا. ترمقــه بعينـي غل و تنصـرف، تغيب عن ناظريــه فارة منـه ثم عائدة إليـه، و تعود تمـارس الاختفــاء بين أثـاث الغـرفـة، تـحـت شراشف السرير، و على خزانة ثيابه، تنتعل أحذيته حذاء حذاء ثم تتوارى خلف ستار النافذة. يتبعها بعينيه يحاول اللحاق بها، فتخونه رجلاه، و يسقط أرضا.
بين صراخها و بياض منثور خلف غبار الانفجار يتمتم بكلمات عجماء، ثم يضيع في غيبوبة قاتلة، أسماء تعود إلى ذاكرته، تصارع النسيان بالعودة إلى الحياة من جديد. و يصرخ هو..
– أنا بروتوس..
– أنا صاحب القيصر
خنجر الوشاية مسموم يمسك به كفه
صدى صوتها يلحق به في عز غيابه، يخنق أنفاسه، يحاول الوقوف فتصده دورية تقتنص الفارين إلى الحياة المكرهيـن على المـوت. بدلات عسكريـة و أوجـه سوداء مغطـاة بقلنسوات حمـراء تصل بطولهــا إلى الرقبــة.
خائن عقيم..
في زوبعة جنونهـا قبل التسلل إلى مرقدهــا، ترفل بين يدينه، تحوم حول سريره و تعاود الفرار من جديد، تضيع في قهقهات خرساء لا يسمعها سواه. محاولة إيقاظه كلما ركن إلى النوم فتحول بينه و بين السكينة.
هي هي…
تلك الـ “عائشة” تعود كلما أجبر نفسه على قبر ذكراهــا، على الخلاص منهـا و من ماضيها، على فصـل تاريخه عنها فتعــود إليه بقوة أكبر تُجددها كلما أضعفتــه. تحمل بين مرة و مرة رضيعا تضمه إلى صدرهـا. و هو المرمي على سرير الوحدة يضم ركبتيه إلى يديه و يغوص في الغيبوبة. غبار الانفجار و عتمة الطريق حالا بينه و بين الهروب، دورية العسكـر تحيط به من كل جانب، أرجل تركله و أياد مـمسكة برشاشات تحاول تفتيت رأسه. عويل الليل يؤنسه و ينسيه العذاب، إلا أن عائشة تذكِّره كلما حاول الفرار.
– ماذا فعلت بحميد؟
– لم أكن أنا. إنه من فجر الجسر. إنه من حاول قطع قافلة الشياطين لألاَّ تبني لها أوكارا و تنتشر في زقاقات مدينة تاهت عن الحلم .
– كان رجلا.
– أنا أيضا.
– أنت خائن عجوز.
كلاليب من حديد تمــزق جسده و ملـح يــرش علـى لُحم مجروحـة. صراخه يعــلو فيشق على الجميـع هدوءهم و يوقظ كل النائمين. يهرول ولده إليه و يحاول إيقاظه. ينظر إليه بغيظ ثم يطلب منه ترك الغرفة.
يتناول جرعة من الدواء ثم يحاول الجلوس. رجلاه لا تتحركان، يتحسَّسهما بيده، يحاول تحريكهما… لكنه لا يستطيع. دموع غزيرة تسقط على خدين محروقتين… يتناول ألبوم الصور المخبئ تحت وسادته، يقلب الصفحات، يتمعن الأشخاص المصفدين داخله، يحاول اقتلاع حكاياتهم و رميها في سلة النسيان، لا يريد لهم رسما.. لا يريد لهم تفاصيلا و لا وجود لهم بحياته لكن ارتباطه بهم ظل قدرا يلاحق خطواته، أنفاسه، حركاته و سكناته…
يسقط كل مرة في سفينة الرجوع تلك التي لا تبحر إلا عكس الزمن. يلقيه أرضا ثم ينتشله، و يعيده تحت الوسادة.
ألا يفترض أن الوسادات للنوم؟
لماذا تراها تحت رأسه مخزن الآلام و الذكرى. يتورم الفرح ليصبح قبحا، و تبدأ رجله بالتوجع.
إنه خائف.
أجل إنه خائف من طيف ما يترصده، يترصد إغفاءته ليثأر لنفسه منه. يفزع لفكرة الثأر فيُدس في فرشته مغطِّ رأسه بانزلاقه على سريره الحديدي.
يأتيه حميد ، يرفع إزاره، يبتسم ابتسامته الرجولية ثم يمضي، يحاول اقتفاء أثره فيتعثر في الجثث المرمية، جماجم مبعثرة خلف هذا التل الكبير، يسقط و يحاول النهــوض فتخونـــه قدماه الموكوتة. يحــاول مـــرة أخرى .. يمسك بغصن من شجرة زيتون لم تحرقها النار بعد… يتمسك بقوته فيأتيه طيفها، يدغدغه.
أجل هي مرة أخرى بثوب العرس، مخضبة اليدين. آثار دم عالقة بفستانها، شعرها الكستنائي صار أسودا، يغطيه الرماد، تنتعل ألمها و لا تكف عن الدوران حوله. تحوم كنسر يضرب بجناحيه، يترصد طريدته من بعيد بقهقهاتها المتصاعدة. تختفي و تظهر بين صخور الوادي، هناك فقط على الجسر الرابط بين المدينتين المتناحرتين منذ زمن على الأسبقية في الظهور “ميديوس” أم “كونستانتينوس”. ثم تصعد الجبل الأخضر تحاول اللحاق بحميد ، لكنها لا تدركه فتعود مكرهة تبكي و تنفش شعرها و كأنها ترقص على آخر نغمة للحياة، تضرب برأسها الأرض فيتموج شعرها كساحرة تمارس طقوس الشعوذة. و تحوِّر بين يديها طعام الأشباح.
عجوز عقيم و خائن.
صوت رضيعها يعلو بعد صوتها فتركض إليه و تضمه إلى صدرها. تنسى نحيبها و عويل الليل و زوجها لترمي بنفسها قرب طفلها، ضامة إياه إلى صدرها.
– بني: لا تبك، والدك بطل.
يصرخ من جديد و يحاول الفرار من ظلها، يسحب الإزار على وجهه و جسده المحموم يتصبب عرقا تارة، و خوفا تارة أخرى، ينادي ولده فيركض إليه مفزوعا:
هل عادت إليك الكوابيس؟

الصبح يزحف نحوه، و أصوات الموتى بدأت في التلاشي يطرق ولده الباب طرقا خفيفا ثم يلج إليه يسأله عن صحته، فلا يرد عليه سوى الصمت. يحاول أن يحرك له ساقيه لكنه يرفض ذلك بل و يغلق عينيه، فيتركه و يمضي نحو عمله. ينادي حفيده بعد ما سمع الباب يُصك، و يطلب منه الاقتراب. يدنو منه الصغير و يسأله:
– أتريد شيئا؟
– اسأل صيدلي الشارع، قل له ما معنى الكارسينوم ؟
ينظر إليه بتمعن، ثم تنفرج شفتيه بابتسامة هادئة.
ماذا ؟ الكـــ ا ر ســـيـ……
– ألا تفهم أيها الولد العاق، تشبه والدك كثيرا، بل تشبه والدتك.
ثم يتمتم .
– بل جدك كان هكذا.
– إذن أشبهك
– أسكت يا ابن الـــــ…
تجره والدته من ذراعه و تخرجه من الغرفة و يبقى هو وحيدا يصارع الوحدة و الألم.
ليلة أخرى تعود مثقلة إليه، تحمل معها سينفونية الموت، و تعزف على جثث القتلى أنغام الرحيل..
القبور تحوم حوله، تُخرج ساكنيها، و حميد يجلس فوق شجــرة الزيتــون كمـــا آخر مرة التقى بــه، يبتســم و بين يديــه بعض المتفجــرات يجمعهــا ببعضها البعض ثم يوصلها بخيط الكهرباء. ينزل و يتجـــه نحـــو الجسر، يدفن الديناميت تحت صخرة على الحافة ويوصل الأسلاك الكهربائية على بعد عدة أمتار. ثم يقترب منه.
– هيا اضغط.
– لا أستطيع.
– يجب ذلك…
يدس وجهه بين يديه ولا يجيب فيسمع دويا يهز المكان.
يحاول الهرب
تحيط به دورية العساكر، و تأخذه.
لست الفاعل.. إنه حميد ..
رشاشات تدق رأسه، و أرجل تركله بشده، تحاول معرفة مكــان الفاعــل، يضيع وســـط الضجة و الخـــوف، و حروق تملأ جسده، بل آثار تتموضع في كل خلاياه.
نار… نار و تمزق في عضلات الرجل اليمنى، يحاول حمل نفسه و لا يستطيع، حميد يواصل صعوده نحو الجبل دون كلل، دونما تردد، يتسلق أشجار الزيتون يقطف من ثمـــر الجنــة و يلقي إليه بأوراقها علها تستــر عورته.. تتبــعه الغربان المتقاتلة تنبش أرضا طهورا تواري بهــا سوءة الخائنين .. و تعلمه كيف للقبور أن تخفي الطُّهر و كيف للحياة أن تحمي الجبناء.
طفله يعوي في حضن كليل و أم تلطم وجهها تشق جيبها، ثم تزغرد، كما المجانين، تزغرد ثم تعود إليه بشعر اسودَّ من بقايا شظايا قنابل ألقتها الطائرات الصفراء في شوارع مدينتها.. في حارتها.. قرب بيتها .. بفستانها الأبيض البراق، و بقع الدم القاني مختلطا بسواد الرماد .. برائحة دخان قوية تغتال عبق الياسمين و زهر العطرشان المنثور على بيوت صغيرة تنتشــر خلف كل شجرة و قرب كل واد. يشحب وجهها أكثر و تصرخ …فتدوي فلكه و يضيع في حفر الخوف، يبحث عمن ينتشله و يذهب به إلى مملكة الصمم.
– أيها الوغد زوجي بطل…
يجمع قواه و يمد كفه للطمها فتصطدم بالفراغ، و تقهقه هي بصوتها الصاخب الممزوج بنحيب طفل جائع في ليلة من ليالي شتاء الجبل الأخضر
– خائن عقيم…
– دعوني، أريد أن أموت
صوته يهز، المكان يزلزله، كنعيق البوم عندما يخيف طريدتـه فتتدحرج الجماجـم حتى تبلغ قدميه، يهرب منهــا فيصطدم بحميد أمامه. يسأله في أيّ عام هم ؟ فيجيبه أنهم في شاء 1959 . إنهما هنا في هذا السفح يختبئان بين أشجـار الزيتـون و التين الملكي، هما هنا ليفجرا ممر شاحنــات العسكر، على هذا الجسر الصغير، إنهمــا لا يريدان موتا آخر . لا أرامل و لا ثكلى و لا حتى يتامى مجهولي الهوية. يولدون كل يوم في هذا الوادي المقدس.
ستهرب الشياطين من رائحة الياسمين و رائحة الرجولة
الشياطين !!!
لقد رآهم بقلنسوات حمراء يسحبونه سحبا إلى مدينة الموت. إلى سجن لا يعود الذاهبون إليه إلى أهليهم أبدا. حتى والدته أبكت جاراتــهـــا عندما انفجرت البيضة في الكانون… جـلست تنعــي المتبـقي الغائب المرمى في جب “السيلون” تُمزَّق أطرافه بالكلاليب و يوصَل جسده بالكهرباء إلى أن يُلقى به في عفن الغرفة السوداء المظلمة جدا.
المدينة تبكي رجالها..
لكنها دفعتهم إلى الثورة
كيف لمدينة أن تأكل أبناءها و تتآمر عليهم ؟ فتقذف بأحدهم في رحم الموت و تُبقي على الآخر يلوك خزي الحياة و عارها.
لكنها الثورة…
رائحة الخيانة تفوح من أفواه الجبناء، أولئك الذين يقتاتون على ألم الآخرين
لكنه حرم من عائشة
ليس مهما مادام للوطن بقية تحبه.
يهرول إليه ولده، يجلس بجانبه على حافة السرير ثم يناوله جرعة من الدواء، لكنه يرفضها، لا يريد الشفاء و لا الحياة، بل يريد أن يذهب دون رجعة كمــا أصدقاءه الذيـن رحلــوا فتمردت أرواحهـــم على أجسادهــم و تحررت من أسر أرض تبلع عاشقيها. كان رجلا، أجل رجل عاش حياة واحدة و مات رجلا. أما هو فعاش مبتئسا و يموت في اليوم ألف مرة.
يتفتح صبح جديد و تتفتح جراحات جديدة..
طاولة خشبية بجانب سريره، فنجان قهوة ساخن أعدته كنته و جريدة خرساء تثرثر في صمت، تنقل إليه أخبار العالم. يتألم كثيرا، لعجزه عن الحركة عن الفعل.كان صانعا و صار مصنوعا فيه. لا يحرك رجليه إلا بتعب شديد، و لا يقوم إلا على عكازات بمساعدة أحدهم.
يكره منظره و هو ملقى على السرير كقطعة أثاث عتيقة بقيت من الماضي السحيق تثقل بوجودها على المكان، يتمنى الموت فلا تأتيه و ينكر على القدر هذا الفعل بل و يعاتبه على إقعــاده فيتصدى له القدر بأن يريه بين مــرة و مــرة وجعا جديـدا و جراحـات خالدة، طاغيـة الحضور تُقوِّي تواجـدها بفـعـــل التذكــر و ترفض الرحيل و النسيان. يزيد ألمه عندما يقرأ موت المجاهد الكبير عبد الحميد مهري فترقـص بيـن عينيه صور الموتى و تعاود الكوابيس طقوس المباغتة، صوت عبد الحفيظ و هو يضع يده على كتفه، إنها الليلة و علينا الصمود، صوت طفل صغير لم يبلغ الرجولة بعد وُشي به من عـاذل مجهـول أراد أن يبث الرعب في الجماعة المتحدة لتتفرق عن خيانة. فجرَّ سكينه على خط حياة كانت له و صارت لغيره بوريد حمل نبضا إلى وريد يحمل ذنبا.
-لكل ثورة أخطاؤها
هكذا يرد على صوت التأنيب القادم من زمن الخوف، لا يريد خونة بينهم و لا يريد للثورة أن تفشل بسبب طفل سواء أكانت الوشاية حقيقة أم مجرد كذبة تفتعلها المدينــة كلما حاولت تقديم قربان جديد لـزيـوس حتى ترى مدى ولاء أبنائها لـها.
لم ينتبه بأن الجريدة قديمة جدا و أن الأخبار الموجودة فيها أصبحت مستهلكة و باردة كيومــه هذا. فألقاها بعيدا ثم أدار رأسه نحو النافذة يحاول رؤية الشمس لكن السحب تخونه و تغطي عنه بريقـــــها.
قاب جنون .. تهجره أنفاسه حينما تحط عائشة بين يديه، تلثم الوجع باشتهاء ثم ينتظر منها حبا كسيحا مضت عليه عقود و هو مدفون تحت لحـد التعتيم. يبدأ صوتها بالبعـد عنـه و بالرحيل إلى حيث لا يراها، ينادي صوتها الجميل:
– هلا انتظرت قليلا أمتع سمعي بك ؟
فيجد نفسه يوشوش لنفسه يستفيق على وقع الخيبة
يضيع…
ينصهر…
و يمني نفسه بالموت فلا تحضره..
متكئا على خضاب ماضي تلك الخيانة يتمنى لو يستطيع الهرب، لو تكف حواسه عن العمل فلا يرى و لا يسمع و أكثر من ذلك لاَ يتذكر. تتلقفــه الحقيقة فيحترق بهــا في حيـن احتـرق الآخــرون بلحظة ضعفـــه. تتدحرج الجمرات بين أنامله،.. في راحته كلما لامست أصابعه ألبوم الصور، يحاول العد: في أي عام نحن؟
تجيبه الصور:
عام 59
رقم موقع على جدران السجون.. على أشجار الزيتون .. و على طريق قُطع فقَطع معه اسما سقط من سجلات الأحيـاء و بقي حيا في ذاكرة الأمكنة و الأزمنة..
حميد ! ..
….
لم أخنك أبدا..
شدَّدوا علي العذاب و لم أدر كيف نطقت اسمك و لا كيف أريتهم الطريق لبلوغ بيتك.. لو تسامحني؟
يحاور نفسه، يلومها، يتوسل للنسيان أن يحضر فلا يرد عليه سوى صمت الليل، و ابتسامة حميـد الهادئة التي لا تفارق وجه و لا تغيب أبدا عن محياه الرجولي.
يراهن نفسه على النوم فيراهنه الأرق على اليقظة، و يمضي الليل طويلا مزعجا، و باردا كثلج المحطات عندما تدوسه القطارات.
لا أحد من الأحياء يذكره، لا أحد يزوره نهارا عدا القبور التي تتفتق كل ليلة على ساكنيها فيحيطون به من كل جانب، يذَكرونه بأقل التفاصيل. لم ينس وجها آخر برجلين مربوطتين بحصان و رأس يمسح طرقات المدينة في زقاقـات تعج بالشياطين . يتـفـتـت رأسه و يروي كل المساحـات التي مر عليها لتنبت بعـدد الحصى زهور الكرامة. “بن شولاق” اسـم أٌعطي لشارع يكتض بالمقاهي و على طرفيه أمن و محكمة.
ها قد قام بعد وقت طويل من الرقاد يرفع كأس التــحدي ليحــتسي منه نخب نصر صنعته الهزيمة، إنه بروتوس يحمل السكين ليحرر روما لما صوب يديه على ظهر قيصر
– قتلتني يا بروتوس،..
– حميد لم أقتلك.. لست أعلم كيف استلوا اسمك من شفاهي؟ ..كيف تواطأت معهم رجلاي بعد أن ألبسوني قلنسوة حمراء و جروني إلى بيتك جرّا..؟
رأيتهم يرجمونك بالرصاص ككلاب أحاطت بهارب في سهل خانته الجبال بالبعد، لباسي يحتفظ بأثر دمك
و عيني لا ترى غير صورتك..
خذ السكين و خلِّصني من هذا العذاب، لا الموت فيه رحمة و لا لحياتي ما يستحق البقاء.. خلصني أتوسل
إليك.
– لا يا بروتوس كان عليك أن تعلم أصابعك اليقين و ألاَّ تستعذب بحتي فيما ترميني المرتزقة بوابل من رصاص.
الرصاص لم يقتلني فقط طعنتك بظهري من أهلكني. إنك بعد موتي اجتثثت ذكراي من الأرض و حرمتني من تناسل اسمي. حكمت علي بالعقم بعدما حكمت علي بالموت. ثم تطلب بعد ذلك الغفــران؟ !.
تصيبه نوبة بكاء، شهقاته متلاحقة. طيفها و ظله ونحيب صغير يقتربون من بعضهم، يتحدون … و يغوص هو في سواد الحزن، يلعق الحسرة و يقتات من بقايا ليل زائل .
مطر مطر..
سيارات تعطس من فرط البرد، تبحث عن أمكنة تختبئ فيها و تلوم أصحابها على إيقاظهم إياها في هذا الصباح الباكر، رائحة الفطائر تدغدغ المدينة. فتفيق مبتسمة، تنتظر يوما جديدا.
فوضى، و ضجيج، و عالم مليء بالحركة يسير برأسه. يجلـس على طـرف سريره يسحب الجريدة و يقرأ المزيد من الأخبار.
يقاسمه ابنه التصفح و يحزن بشدة على سقوط اسم جديد في ثنائية التسجيل تضم تاريخين، واحد للولادة و الثاني للرحيل
– الشاذلي مات، كان سياسيا محنكا.
لكن الجريدة قديمة
تضجر مما سمع، و من هذه العزلة التي لزمته لكنه راح يواسي نفسه بأنه القادم في القائمة …ثم سأل:
– متى موعد الطبيب ؟
– الأسبوع القادم
رغم أن كل الجرائد قديمة إلا أنها تحمل شيئا بداخلها، تحفظ أصواتا و أسماء لعابريها و مُحبريها.
يعـود الصمت ثالثـا بينهما إلـى أن يدخل حفيده بخفة، و يخبره عن عشاء اليـوم. عـن قصعـة يملؤها الرقـاق و ديك رومي اشتروه من السوق الأسبوعي. يفرح لذلك كثيرا و يمني نفسه بعشاء دسم، كأنه تذكر شيئا يحبه و يربطه بالحياة أما ابنه فيرمق صغيره بعين غاضبة على ما قالـه و يذكره بمرضه و بضرورة اتباع الحمية.
يغضب لذلك كثيرا و يقسم على الصيام إذا حرموه مما يحب. أجل، إنه يحبه و إنه كان يشتهي المطر لأن هذا الطبق خاص بالشتاء. لعل ششناق أحبه أيضا و هو من سن هذا العيد. فلكل نصر عيده و لكل عيد نكهته.
كراس كثيرة و مآزر بيض تتنقل بعشوائية بين الأوجه المختلفة و المرمية في هذه القاعة الضيقة. إنها المؤسسة الوحيدة المختصة بالمسالك البولية على مستــوى الشرق، مصب الروافد لكل مدينة شرقية أعياها المرض. لا تستطيــع عندما تلج إليها التفريق بين العليل و السليم و لا بين الممرض و الطبيب. دخان السجائر يخنق المرضي و يسقم الأصحاء.
إنه جالس على كرسي خشبي بارد بعد سفر متعب في هذا الصباح البارد. قد ودع مدينته علّ الكوابيس تهجره، تتركه و لو للحظات فيجد الموت يبتسم له في وجه كل مريض قادته الحاجة و قلــة الأخصــائيين و ندرة الدواء. ودع مدينة تبدأ بمحشر و تنتهي بسجن فاستقبله مشفى يبدأ بمشرط و ينتهي ببراد. يفتش عن ولــده بقربــه فلا يجده. و تحضر عائشة تسترجع وليدها المسلوب منـهــــا. إنــه من أخذه. نعم هو أخــذه من تــحت سقف مسه الخراب بعدما أحرقت الطائـرات الصفراء كل المداشر، كل القــرى، و أحرقتهـا و فستانها.. لكنه ذهب ليبحث عن وسيلة تُمكنة من معاينة الطبيب له قبل الآخرين، قبل أن يبدأ في التألم مرة أخرى و قبل أن يضيع في غيبوبة الأشباح.
يسأل شخصا كان مارا بجواره.
– بني.. ما معنى الكارسينوم؟
– إنه السرطان

الوجــــع المتبـــــقي

عجوز عقيم…
آخر ما قالته له و ما فهمه من الصراخ ومن وابل التهم الخارجة من شفتيهـا. ترمقــه بعينـي غل و تنصـرف، تغيب عن ناظريــه فارة منـه ثم عائدة إليـه، و تعود تمـارس الاختفــاء بين أثـاث الغـرفـة، تـحـت شراشف السرير، و على خزانة ثيابه، تنتعل أحذيته حذاء حذاء ثم تتوارى خلف ستار النافذة. يتبعها بعينيه يحاول اللحاق بها، فتخونه رجلاه، و يسقط أرضا.
بين صراخها و بياض منثور خلف غبار الانفجار يتمتم بكلمات عجماء، ثم يضيع في غيبوبة قاتلة، أسماء تعود إلى ذاكرته، تصارع النسيان بالعودة إلى الحياة من جديد. و يصرخ هو..
– أنا بروتوس..
– أنا صاحب القيصر
خنجر الوشاية مسموم يمسك به كفه
صدى صوتها يلحق به في عز غيابه، يخنق أنفاسه، يحاول الوقوف فتصده دورية تقتنص الفارين إلى الحياة المكرهيـن على المـوت. بدلات عسكريـة و أوجـه سوداء مغطـاة بقلنسوات حمـراء تصل بطولهــا إلى الرقبــة.
خائن عقيم..
في زوبعة جنونهـا قبل التسلل إلى مرقدهــا، ترفل بين يدينه، تحوم حول سريره و تعاود الفرار من جديد، تضيع في قهقهات خرساء لا يسمعها سواه. محاولة إيقاظه كلما ركن إلى النوم فتحول بينه و بين السكينة.
هي هي…
تلك الـ “عائشة” تعود كلما أجبر نفسه على قبر ذكراهــا، على الخلاص منهـا و من ماضيها، على فصـل تاريخه عنها فتعــود إليه بقوة أكبر تُجددها كلما أضعفتــه. تحمل بين مرة و مرة رضيعا تضمه إلى صدرهـا. و هو المرمي على سرير الوحدة يضم ركبتيه إلى يديه و يغوص في الغيبوبة. غبار الانفجار و عتمة الطريق حالا بينه و بين الهروب، دورية العسكـر تحيط به من كل جانب، أرجل تركله و أياد مـمسكة برشاشات تحاول تفتيت رأسه. عويل الليل يؤنسه و ينسيه العذاب، إلا أن عائشة تذكِّره كلما حاول الفرار.
– ماذا فعلت بحميد؟
– لم أكن أنا. إنه من فجر الجسر. إنه من حاول قطع قافلة الشياطين لألاَّ تبني لها أوكارا و تنتشر في زقاقات مدينة تاهت عن الحلم .
– كان رجلا.
– أنا أيضا.
– أنت خائن عجوز.
كلاليب من حديد تمــزق جسده و ملـح يــرش علـى لُحم مجروحـة. صراخه يعــلو فيشق على الجميـع هدوءهم و يوقظ كل النائمين. يهرول ولده إليه و يحاول إيقاظه. ينظر إليه بغيظ ثم يطلب منه ترك الغرفة.
يتناول جرعة من الدواء ثم يحاول الجلوس. رجلاه لا تتحركان، يتحسَّسهما بيده، يحاول تحريكهما… لكنه لا يستطيع. دموع غزيرة تسقط على خدين محروقتين… يتناول ألبوم الصور المخبئ تحت وسادته، يقلب الصفحات، يتمعن الأشخاص المصفدين داخله، يحاول اقتلاع حكاياتهم و رميها في سلة النسيان، لا يريد لهم رسما.. لا يريد لهم تفاصيلا و لا وجود لهم بحياته لكن ارتباطه بهم ظل قدرا يلاحق خطواته، أنفاسه، حركاته و سكناته…
يسقط كل مرة في سفينة الرجوع تلك التي لا تبحر إلا عكس الزمن. يلقيه أرضا ثم ينتشله، و يعيده تحت الوسادة.
ألا يفترض أن الوسادات للنوم؟
لماذا تراها تحت رأسه مخزن الآلام و الذكرى. يتورم الفرح ليصبح قبحا، و تبدأ رجله بالتوجع.
إنه خائف.
أجل إنه خائف من طيف ما يترصده، يترصد إغفاءته ليثأر لنفسه منه. يفزع لفكرة الثأر فيُدس في فرشته مغطِّ رأسه بانزلاقه على سريره الحديدي.
يأتيه حميد ، يرفع إزاره، يبتسم ابتسامته الرجولية ثم يمضي، يحاول اقتفاء أثره فيتعثر في الجثث المرمية، جماجم مبعثرة خلف هذا التل الكبير، يسقط و يحاول النهــوض فتخونـــه قدماه الموكوتة. يحــاول مـــرة أخرى .. يمسك بغصن من شجرة زيتون لم تحرقها النار بعد… يتمسك بقوته فيأتيه طيفها، يدغدغه.
أجل هي مرة أخرى بثوب العرس، مخضبة اليدين. آثار دم عالقة بفستانها، شعرها الكستنائي صار أسودا، يغطيه الرماد، تنتعل ألمها و لا تكف عن الدوران حوله. تحوم كنسر يضرب بجناحيه، يترصد طريدته من بعيد بقهقهاتها المتصاعدة. تختفي و تظهر بين صخور الوادي، هناك فقط على الجسر الرابط بين المدينتين المتناحرتين منذ زمن على الأسبقية في الظهور “ميديوس” أم “كونستانتينوس”. ثم تصعد الجبل الأخضر تحاول اللحاق بحميد ، لكنها لا تدركه فتعود مكرهة تبكي و تنفش شعرها و كأنها ترقص على آخر نغمة للحياة، تضرب برأسها الأرض فيتموج شعرها كساحرة تمارس طقوس الشعوذة. و تحوِّر بين يديها طعام الأشباح.
عجوز عقيم و خائن.
صوت رضيعها يعلو بعد صوتها فتركض إليه و تضمه إلى صدرها. تنسى نحيبها و عويل الليل و زوجها لترمي بنفسها قرب طفلها، ضامة إياه إلى صدرها.
– بني: لا تبك، والدك بطل.
يصرخ من جديد و يحاول الفرار من ظلها، يسحب الإزار على وجهه و جسده المحموم يتصبب عرقا تارة، و خوفا تارة أخرى، ينادي ولده فيركض إليه مفزوعا:
هل عادت إليك الكوابيس؟

الصبح يزحف نحوه، و أصوات الموتى بدأت في التلاشي يطرق ولده الباب طرقا خفيفا ثم يلج إليه يسأله عن صحته، فلا يرد عليه سوى الصمت. يحاول أن يحرك له ساقيه لكنه يرفض ذلك بل و يغلق عينيه، فيتركه و يمضي نحو عمله. ينادي حفيده بعد ما سمع الباب يُصك، و يطلب منه الاقتراب. يدنو منه الصغير و يسأله:
– أتريد شيئا؟
– اسأل صيدلي الشارع، قل له ما معنى الكارسينوم ؟
ينظر إليه بتمعن، ثم تنفرج شفتيه بابتسامة هادئة.
ماذا ؟ الكـــ ا ر ســـيـ……
– ألا تفهم أيها الولد العاق، تشبه والدك كثيرا، بل تشبه والدتك.
ثم يتمتم .
– بل جدك كان هكذا.
– إذن أشبهك
– أسكت يا ابن الـــــ…
تجره والدته من ذراعه و تخرجه من الغرفة و يبقى هو وحيدا يصارع الوحدة و الألم.
ليلة أخرى تعود مثقلة إليه، تحمل معها سينفونية الموت، و تعزف على جثث القتلى أنغام الرحيل..
القبور تحوم حوله، تُخرج ساكنيها، و حميد يجلس فوق شجــرة الزيتــون كمـــا آخر مرة التقى بــه، يبتســم و بين يديــه بعض المتفجــرات يجمعهــا ببعضها البعض ثم يوصلها بخيط الكهرباء. ينزل و يتجـــه نحـــو الجسر، يدفن الديناميت تحت صخرة على الحافة ويوصل الأسلاك الكهربائية على بعد عدة أمتار. ثم يقترب منه.
– هيا اضغط.
– لا أستطيع.
– يجب ذلك…
يدس وجهه بين يديه ولا يجيب فيسمع دويا يهز المكان.
يحاول الهرب
تحيط به دورية العساكر، و تأخذه.
لست الفاعل.. إنه حميد ..
رشاشات تدق رأسه، و أرجل تركله بشده، تحاول معرفة مكــان الفاعــل، يضيع وســـط الضجة و الخـــوف، و حروق تملأ جسده، بل آثار تتموضع في كل خلاياه.
نار… نار و تمزق في عضلات الرجل اليمنى، يحاول حمل نفسه و لا يستطيع، حميد يواصل صعوده نحو الجبل دون كلل، دونما تردد، يتسلق أشجار الزيتون يقطف من ثمـــر الجنــة و يلقي إليه بأوراقها علها تستــر عورته.. تتبــعه الغربان المتقاتلة تنبش أرضا طهورا تواري بهــا سوءة الخائنين .. و تعلمه كيف للقبور أن تخفي الطُّهر و كيف للحياة أن تحمي الجبناء.
طفله يعوي في حضن كليل و أم تلطم وجهها تشق جيبها، ثم تزغرد، كما المجانين، تزغرد ثم تعود إليه بشعر اسودَّ من بقايا شظايا قنابل ألقتها الطائرات الصفراء في شوارع مدينتها.. في حارتها.. قرب بيتها .. بفستانها الأبيض البراق، و بقع الدم القاني مختلطا بسواد الرماد .. برائحة دخان قوية تغتال عبق الياسمين و زهر العطرشان المنثور على بيوت صغيرة تنتشــر خلف كل شجرة و قرب كل واد. يشحب وجهها أكثر و تصرخ …فتدوي فلكه و يضيع في حفر الخوف، يبحث عمن ينتشله و يذهب به إلى مملكة الصمم.
– أيها الوغد زوجي بطل…
يجمع قواه و يمد كفه للطمها فتصطدم بالفراغ، و تقهقه هي بصوتها الصاخب الممزوج بنحيب طفل جائع في ليلة من ليالي شتاء الجبل الأخضر
– خائن عقيم…
– دعوني، أريد أن أموت
صوته يهز، المكان يزلزله، كنعيق البوم عندما يخيف طريدتـه فتتدحرج الجماجـم حتى تبلغ قدميه، يهرب منهــا فيصطدم بحميد أمامه. يسأله في أيّ عام هم ؟ فيجيبه أنهم في شاء 1959 . إنهما هنا في هذا السفح يختبئان بين أشجـار الزيتـون و التين الملكي، هما هنا ليفجرا ممر شاحنــات العسكر، على هذا الجسر الصغير، إنهمــا لا يريدان موتا آخر . لا أرامل و لا ثكلى و لا حتى يتامى مجهولي الهوية. يولدون كل يوم في هذا الوادي المقدس.
ستهرب الشياطين من رائحة الياسمين و رائحة الرجولة
الشياطين !!!
لقد رآهم بقلنسوات حمراء يسحبونه سحبا إلى مدينة الموت. إلى سجن لا يعود الذاهبون إليه إلى أهليهم أبدا. حتى والدته أبكت جاراتــهـــا عندما انفجرت البيضة في الكانون… جـلست تنعــي المتبـقي الغائب المرمى في جب “السيلون” تُمزَّق أطرافه بالكلاليب و يوصَل جسده بالكهرباء إلى أن يُلقى به في عفن الغرفة السوداء المظلمة جدا.
المدينة تبكي رجالها..
لكنها دفعتهم إلى الثورة
كيف لمدينة أن تأكل أبناءها و تتآمر عليهم ؟ فتقذف بأحدهم في رحم الموت و تُبقي على الآخر يلوك خزي الحياة و عارها.
لكنها الثورة…
رائحة الخيانة تفوح من أفواه الجبناء، أولئك الذين يقتاتون على ألم الآخرين
لكنه حرم من عائشة
ليس مهما مادام للوطن بقية تحبه.
يهرول إليه ولده، يجلس بجانبه على حافة السرير ثم يناوله جرعة من الدواء، لكنه يرفضها، لا يريد الشفاء و لا الحياة، بل يريد أن يذهب دون رجعة كمــا أصدقاءه الذيـن رحلــوا فتمردت أرواحهـــم على أجسادهــم و تحررت من أسر أرض تبلع عاشقيها. كان رجلا، أجل رجل عاش حياة واحدة و مات رجلا. أما هو فعاش مبتئسا و يموت في اليوم ألف مرة.
يتفتح صبح جديد و تتفتح جراحات جديدة..
طاولة خشبية بجانب سريره، فنجان قهوة ساخن أعدته كنته و جريدة خرساء تثرثر في صمت، تنقل إليه أخبار العالم. يتألم كثيرا، لعجزه عن الحركة عن الفعل.كان صانعا و صار مصنوعا فيه. لا يحرك رجليه إلا بتعب شديد، و لا يقوم إلا على عكازات بمساعدة أحدهم.
يكره منظره و هو ملقى على السرير كقطعة أثاث عتيقة بقيت من الماضي السحيق تثقل بوجودها على المكان، يتمنى الموت فلا تأتيه و ينكر على القدر هذا الفعل بل و يعاتبه على إقعــاده فيتصدى له القدر بأن يريه بين مــرة و مــرة وجعا جديـدا و جراحـات خالدة، طاغيـة الحضور تُقوِّي تواجـدها بفـعـــل التذكــر و ترفض الرحيل و النسيان. يزيد ألمه عندما يقرأ موت المجاهد الكبير عبد الحميد مهري فترقـص بيـن عينيه صور الموتى و تعاود الكوابيس طقوس المباغتة، صوت عبد الحفيظ و هو يضع يده على كتفه، إنها الليلة و علينا الصمود، صوت طفل صغير لم يبلغ الرجولة بعد وُشي به من عـاذل مجهـول أراد أن يبث الرعب في الجماعة المتحدة لتتفرق عن خيانة. فجرَّ سكينه على خط حياة كانت له و صارت لغيره بوريد حمل نبضا إلى وريد يحمل ذنبا.
-لكل ثورة أخطاؤها
هكذا يرد على صوت التأنيب القادم من زمن الخوف، لا يريد خونة بينهم و لا يريد للثورة أن تفشل بسبب طفل سواء أكانت الوشاية حقيقة أم مجرد كذبة تفتعلها المدينــة كلما حاولت تقديم قربان جديد لـزيـوس حتى ترى مدى ولاء أبنائها لـها.
لم ينتبه بأن الجريدة قديمة جدا و أن الأخبار الموجودة فيها أصبحت مستهلكة و باردة كيومــه هذا. فألقاها بعيدا ثم أدار رأسه نحو النافذة يحاول رؤية الشمس لكن السحب تخونه و تغطي عنه بريقـــــها.
قاب جنون .. تهجره أنفاسه حينما تحط عائشة بين يديه، تلثم الوجع باشتهاء ثم ينتظر منها حبا كسيحا مضت عليه عقود و هو مدفون تحت لحـد التعتيم. يبدأ صوتها بالبعـد عنـه و بالرحيل إلى حيث لا يراها، ينادي صوتها الجميل:
– هلا انتظرت قليلا أمتع سمعي بك ؟
فيجد نفسه يوشوش لنفسه يستفيق على وقع الخيبة
يضيع…
ينصهر…
و يمني نفسه بالموت فلا تحضره..
متكئا على خضاب ماضي تلك الخيانة يتمنى لو يستطيع الهرب، لو تكف حواسه عن العمل فلا يرى و لا يسمع و أكثر من ذلك لاَ يتذكر. تتلقفــه الحقيقة فيحترق بهــا في حيـن احتـرق الآخــرون بلحظة ضعفـــه. تتدحرج الجمرات بين أنامله،.. في راحته كلما لامست أصابعه ألبوم الصور، يحاول العد: في أي عام نحن؟
تجيبه الصور:
عام 59
رقم موقع على جدران السجون.. على أشجار الزيتون .. و على طريق قُطع فقَطع معه اسما سقط من سجلات الأحيـاء و بقي حيا في ذاكرة الأمكنة و الأزمنة..
حميد ! ..
….
لم أخنك أبدا..
شدَّدوا علي العذاب و لم أدر كيف نطقت اسمك و لا كيف أريتهم الطريق لبلوغ بيتك.. لو تسامحني؟
يحاور نفسه، يلومها، يتوسل للنسيان أن يحضر فلا يرد عليه سوى صمت الليل، و ابتسامة حميـد الهادئة التي لا تفارق وجه و لا تغيب أبدا عن محياه الرجولي.
يراهن نفسه على النوم فيراهنه الأرق على اليقظة، و يمضي الليل طويلا مزعجا، و باردا كثلج المحطات عندما تدوسه القطارات.
لا أحد من الأحياء يذكره، لا أحد يزوره نهارا عدا القبور التي تتفتق كل ليلة على ساكنيها فيحيطون به من كل جانب، يذَكرونه بأقل التفاصيل. لم ينس وجها آخر برجلين مربوطتين بحصان و رأس يمسح طرقات المدينة في زقاقـات تعج بالشياطين . يتـفـتـت رأسه و يروي كل المساحـات التي مر عليها لتنبت بعـدد الحصى زهور الكرامة. “بن شولاق” اسـم أٌعطي لشارع يكتض بالمقاهي و على طرفيه أمن و محكمة.
ها قد قام بعد وقت طويل من الرقاد يرفع كأس التــحدي ليحــتسي منه نخب نصر صنعته الهزيمة، إنه بروتوس يحمل السكين ليحرر روما لما صوب يديه على ظهر قيصر
– قتلتني يا بروتوس،..
– حميد لم أقتلك.. لست أعلم كيف استلوا اسمك من شفاهي؟ ..كيف تواطأت معهم رجلاي بعد أن ألبسوني قلنسوة حمراء و جروني إلى بيتك جرّا..؟
رأيتهم يرجمونك بالرصاص ككلاب أحاطت بهارب في سهل خانته الجبال بالبعد، لباسي يحتفظ بأثر دمك
و عيني لا ترى غير صورتك..
خذ السكين و خلِّصني من هذا العذاب، لا الموت فيه رحمة و لا لحياتي ما يستحق البقاء.. خلصني أتوسل
إليك.
– لا يا بروتوس كان عليك أن تعلم أصابعك اليقين و ألاَّ تستعذب بحتي فيما ترميني المرتزقة بوابل من رصاص.
الرصاص لم يقتلني فقط طعنتك بظهري من أهلكني. إنك بعد موتي اجتثثت ذكراي من الأرض و حرمتني من تناسل اسمي. حكمت علي بالعقم بعدما حكمت علي بالموت. ثم تطلب بعد ذلك الغفــران؟ !.
تصيبه نوبة بكاء، شهقاته متلاحقة. طيفها و ظله ونحيب صغير يقتربون من بعضهم، يتحدون … و يغوص هو في سواد الحزن، يلعق الحسرة و يقتات من بقايا ليل زائل .
مطر مطر..
سيارات تعطس من فرط البرد، تبحث عن أمكنة تختبئ فيها و تلوم أصحابها على إيقاظهم إياها في هذا الصباح الباكر، رائحة الفطائر تدغدغ المدينة. فتفيق مبتسمة، تنتظر يوما جديدا.
فوضى، و ضجيج، و عالم مليء بالحركة يسير برأسه. يجلـس على طـرف سريره يسحب الجريدة و يقرأ المزيد من الأخبار.
يقاسمه ابنه التصفح و يحزن بشدة على سقوط اسم جديد في ثنائية التسجيل تضم تاريخين، واحد للولادة و الثاني للرحيل
– الشاذلي مات، كان سياسيا محنكا.
لكن الجريدة قديمة
تضجر مما سمع، و من هذه العزلة التي لزمته لكنه راح يواسي نفسه بأنه القادم في القائمة …ثم سأل:
– متى موعد الطبيب ؟
– الأسبوع القادم
رغم أن كل الجرائد قديمة إلا أنها تحمل شيئا بداخلها، تحفظ أصواتا و أسماء لعابريها و مُحبريها.
يعـود الصمت ثالثـا بينهما إلـى أن يدخل حفيده بخفة، و يخبره عن عشاء اليـوم. عـن قصعـة يملؤها الرقـاق و ديك رومي اشتروه من السوق الأسبوعي. يفرح لذلك كثيرا و يمني نفسه بعشاء دسم، كأنه تذكر شيئا يحبه و يربطه بالحياة أما ابنه فيرمق صغيره بعين غاضبة على ما قالـه و يذكره بمرضه و بضرورة اتباع الحمية.
يغضب لذلك كثيرا و يقسم على الصيام إذا حرموه مما يحب. أجل، إنه يحبه و إنه كان يشتهي المطر لأن هذا الطبق خاص بالشتاء. لعل ششناق أحبه أيضا و هو من سن هذا العيد. فلكل نصر عيده و لكل عيد نكهته.
كراس كثيرة و مآزر بيض تتنقل بعشوائية بين الأوجه المختلفة و المرمية في هذه القاعة الضيقة. إنها المؤسسة الوحيدة المختصة بالمسالك البولية على مستــوى الشرق، مصب الروافد لكل مدينة شرقية أعياها المرض. لا تستطيــع عندما تلج إليها التفريق بين العليل و السليم و لا بين الممرض و الطبيب. دخان السجائر يخنق المرضي و يسقم الأصحاء.
إنه جالس على كرسي خشبي بارد بعد سفر متعب في هذا الصباح البارد. قد ودع مدينته علّ الكوابيس تهجره، تتركه و لو للحظات فيجد الموت يبتسم له في وجه كل مريض قادته الحاجة و قلــة الأخصــائيين و ندرة الدواء. ودع مدينة تبدأ بمحشر و تنتهي بسجن فاستقبله مشفى يبدأ بمشرط و ينتهي ببراد. يفتش عن ولــده بقربــه فلا يجده. و تحضر عائشة تسترجع وليدها المسلوب منـهــــا. إنــه من أخذه. نعم هو أخــذه من تــحت سقف مسه الخراب بعدما أحرقت الطائـرات الصفراء كل المداشر، كل القــرى، و أحرقتهـا و فستانها.. لكنه ذهب ليبحث عن وسيلة تُمكنة من معاينة الطبيب له قبل الآخرين، قبل أن يبدأ في التألم مرة أخرى و قبل أن يضيع في غيبوبة الأشباح.
يسأل شخصا كان مارا بجواره.
– بني.. ما معنى الكارسينوم؟
– إنه السرطان

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى