ط
مسابقة القصة القصيرة

كلنا مروان .مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد على عبد القادر مصر

محمد على عبد القادر
القاهرة، مصر
عنوان القصة: كلنا مروان
يسرع مروان الخُطًى على رصيف شارع 9 عاقداً ذراعيه أمام صدره، يرتجف بدنه ويرشح أنفه من قَرصة البرد، يبحث في جيبه عن مناديل لم يجد، ينظر أمامه لعله يجد دُكّان يشترى منه مطلبه لكنه لم يجد، يسرع خُطاه، يرى طفل يفترش الرصيف، الطفل قصير القامة لا يتعدى عمره عشر سنوات، تصبغ وجهه الأوساخ ويبدو أن شعره لم يلمسه ماء أو مشط من قبل، ملامح وجهه تخبرك الكثير، أحيانا تخبرك أنه رجل قزم وانك أخطأت التقدير، ومرات تحدثك بأنه طفل أجبرته الحياة أن يتقمص دور بالغ رشيد، يجعل من الشارع مسكنا، يتكون أثاثه من قفص مصنوع من الجريد مقلوب، يحمل القليل من أكياس المناديل الورقية وبعض الأشياء المهملة التي ربما قصد الاحتفاظ بها أو تكاسل في التخلص منها، بجوار القفص بطانية يصبغها خليط من التراب والأوساخ تستخدم كفراش وغطاء في آنٍ وَاحِدٍ ، وطفلة صغيرة لا تختلف في مظهرها عن الطفل، تلتحف بالبطانية مُدَافَعَةٌ عن نفسها من سهام البرد الغاشمة،
يتوقف مروان أمام الطفل يبتاع منه كيس مناديل ورقية، يبتسم الطفل ثم يبسط يده ماسكاً كيس المناديل قائلا: أتفضل
يتناول مروان الكيس منه، ويسحب منه منديل ماسحا رشح أنفه، ثم يخرج محفظة النقود ويعطى للطفل مبلغ يزيد قليلا عن الثمن الفعلي، ينتبه مروان للطفلة الصغيرة ذات الملامح الجميلة الهادئة والتي لا يكاد عمرها أن يتعدى خمسة أعوام، يبتسم لها وتبتسم له، يواصل مروان طريقه قاصداً مسكنه، أثناء توجه مروان إلى مسكنه ظل يحدثه عقله مسترجعاً منظر الطفل والطفلة والقفص والبطانية وأكياس المناديل والبرد القارص، وبمجرد أن وصل إلى مسكنه تناسى ما رآه على الرصيف عندما رأى أبنه وأبنته اللذان ربما يكونا في نفس عمر طفلي الرصيف، لعب وأستمتع وتبادل القبلات وتحدث مع طفليه، ونسى متاعب العمل بل حتى نسى قَرصة البرد، وكأن رؤيته لأولاده دواء سريع المفعول
ينتهي يوم مروان بسعادة وراحة، يذهب إلى فراشه الدافئ ويلتحف بلحافه القطني، ويذهب في نوم عميق، يستيقظ في موعده، يتناول إفطاره ويرتدى ملابسه ثم يسلك نفس الشارع متوجها إلى عمله، يرى عن كثب طفلي الرصيف غارقان في النوم يلتحفان بطانيتهما التي عجزت عن حمايتهما من البرد، فتغلبا على ذلك باحْتضان بعضهما،
أعتاد مروان موضع ومنظر طفلي الرصيف كلما غدا أو راح، يوم يحنو عليهما ويوم لا يلاحظهما، استمر مروان على ذلك الحال حتى فوجئ بأن طفلي الرصيف لم يلزما مكانهما، أستغرب مروان الوضع، وخاصة أن القفص والبطانية في المكان نفسه، شغله بعض القلق عليهما، لكن حدثته نفسه بأنهما ربما ذهبا لمكان ما، وسوف يعودا في أي وقت، مرت الأيام ولا أثر أو خبر عنهما، حاول أن يسأل عنهما، وقف في مكانهما لعل يهتدي في طفل يشبهما لكنه لم يهتدي، فقد الأمل، وأقنع نفسه أنهما غادرا المكان بحثا عن أخر، دخل مروان إلى مسكنه، يجرى عليه طفليه، يضحك ويلعب معهما، وفجأة يرى في مخيلته صورة طفلي الرصيف، تظهر ملامح الحزن على وجهه، يترك الأولاد في هدوء، ويذهب إلى غرفة نومه مهموماً،
تحدثه نفسه قائلة: لما هذا الحزن يا مروان؟
أنهم مجرد أولاد شوارع لا أهل لهم ولا مسكن، لا تقلق ولا تحزن، لابد أنهم في مكان أخر،
لكن مروان لم يقتنع بهذا الحديث رغم أنه حاول كثيرا الاقتناع به، وكان يزداد حزنه بمجرد أن يمشى في الشارع ولا يرى الطفلين.
المُحَيَّر أن مروان نفسه لا يعرف ما هو سر تعلقه بهذين الطفلين، هل لأنه أعتاد النظر إليهما والتفاؤل بهما، أو لأنه شعر بأنهما أطفال لا ذنب لهما أن يعيشا مثل هذه الحياة، يعيشا مثلهما مثل الكلاب الضالة، بل أن الكلاب تجد ما يتبناها ويقدم لها المسكن والمأكل، إنما هما لا رحيم ولا كريم عليهما سوى الله وإلا من رحم ربى من بنى البشر، يلوم نفسه لأنه لم يساعدهما حق المساعدة وأن أضعف الإيمان كان دلهما على دار للأيتام، لكن لا جدوى في اللوم على أمر انقضى،
تتابعت الأيام مزحزحة الذكريات القديمة بذكريات حديثة، وعاد مروان كما كان وكأن الطفلين لم يمرا على ذاكرته، لكن الذاكرة تخفى الذكريات في صحائفها غير قادرة على مسحها، هذا ما حدث مع مروان عندما مر على ثلاثة أطفال يقطنون الشارع في المكان نفسه، اهتزت نفسه وتذكر ما توهم نسيانه، وقف مقابل الأطفال وأخرج نقود واهبا إياها لهم، ثم سألهم عن طفلي الرصيف لكنهم لم يعرفوا أكثر مما يعرف، ترجل مروان على الرصيف، تسقط نظراته على بواب يجلس أمام المسكن المكلف به، المسكن لا يبعد عن مكان طفلي الرصيف غير خطوات معدودة، يسأله عن الطفلين، يبدو أن البواب لم يتذكرهما وكان حجته أن الكثير من أطفال الشوارع كانوا يقطنوا هذا المكان، بل هو نفسه بين الحين والأخر كان يبعدهم ويزحهم بعيدا عن المسكن، استجابة لأوامر السكان خوفا منهم على سياراتهم وأولادهم، ظل البواب يتحدث عن هؤلاء الأولاد وعن مطاردته لهم، وظل يتباهى بنصر مزعوم، ويسرد حكاياته عنهم وعن موت طفلة منذ أيام، حدق مروان إلى البواب ثم سأله عن الطفلة وشكلها؟
أجاب البواب قائلا:
كان يوجد هنا- أشار بيده إلى مكان أقامة الطفلين – طفلين لا أدرى من أين جاءَ،
وحقا أقول، كانا طفلان مهذبين لا يشبهان أطفال الشوارع، وفي يوم شديد البرودة كنت احتمى منه في غرفتي تحت ساتر من البطاطين، سمعت طرقا على باب المسكن، توجهت نحو الباب رأيت طفل يبكى منسكب الدموع، سألته عن الأمر،
قال لي : أن أخته مُغشّى عليها ساكنة لا تتحرك، وطلب أن أذهب معه لرؤيتها، نهرت الطفل لتسببه في نهوضي من مرقدي، وذهبت معه لرؤية تلك الطفلة، وجدت الفتاة منكمشة على نفسها كأنها جنين في بطن أمه، اقتربت منها قائلاً: أَفِقْ يا بنت، لكن لم تجيب، رجعت إلى البيت باحثاً عن شيء قادر على إفاقتها، لم أجد سوى زجاجة عطر مستنجد بها في إفاقة البنت، لكن لا مجيب، لمست جَبين البنت وجدته بارداً للغاية، لم أجد أمامي سوى الاتصال بالإسعاف، وقد جاءت بعد حوالي ساعة من اتصالي بهما، وأخبرني المُسعِف أنها ماتت، أقشعر بدن مروان عندما نطق الرجل بموت الطفلة ودمعت عيناه، واصل البواب حديثه قائلا: يبدو أنها ماتت من البرد،
سأله مروان بحزن شديد،
وماذا عن الطفل؟
أجاب البواب: ظل يصرخ ويبكى قائلا: لا تتركيني يا أختي، ليس لي سواك في الدنيا، يا ليت أنا…….. يا ليت أنا، ومنذ تلك اللحظة لم أراه
بكى مروان بكاء شديد، وتهدج صوته من البكاء، ثم سأله البواب: لما هذا البكاء؟ يبدو أنك كنت تعرفهما
أجاب مروان باكياً:
تموت الطفلة من البرد وتموت بداخلنا الرحمة

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى