ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة . خيانة . مسابقة القصة القصيرة . بقلم / أحمد الوارث . المغرب

أحمد الوارث

المغرب

 

      قصة قصيرة      خيانة

 

امتلأت النفس ففاضت.. وجاءت الناس لحضور الجنازة من كل الجهات؛ كانوا يزيدون على العشرات، ملؤوا مِنَ الأرض مدّ البصر؛ بعضهم ينوح، بعضهم يترحم ويُعَدّد المناقب، بعضهم يثرثر. بينما انشغل المقربون بإعداد الجثمان، من باب: إكرام الميت الدفن.

وضعوني في النعش، وانطلقوا بسرعة حتى بلغوا حافة القبر. صلوا عليّ، وألقوا بي في الحفرة ، ثم رموا التراب على اللحد والطلبة يقرؤون آيات الرحمن .

مرت المراسم بسرعة مذهلة، ثم ولى المشيعون الأدبار، حتى أني لم أعد أسمع خبط نعالهم بعد وقت وجيز؛ ذهبوا مسرعين كما جاؤوا، كل واحد في حاله يفكر، خائف من رائحة المقابر. لا تكذّبوني، أنتم أيضا موقنون أن ملك الموت لا يعرف اللف ولا الدوران، متى شاء تناول من حيث شاء. ترى المرء يخرخر لكن عزرائيل يقوم بواجبه على أفضل وجه بلا رحمة ولا تأخير.

أقاموا بالليل طقوس العزاء، يبكون مرة ويضحكون أخرى. وأنا غائب، هناك، بلا أنيس، أفكر متى سأنتهي من التفكير، مستحضرا  ثقافة القبر كلها، ما كنت أصدقه منها وما لم أكن أصدقه. وازداد هلعي حينما تأخر فقيه الجامع عن الحضور ليكون بجانبي أثناء الامتحان. ألم يقولوا: إنه يأتي لينجد الميت كلما تعثر في التحقيق؟

أثناء ذلك، بدأت أتذكر أفعالي قبل أن يأتي أحد؛ فظهر لي، على يميني ، سجل طويل بعدد المرات التي أسأتُ فيها، فارتعدت ارتعادا من شدة الخوف. ألم يقولوا أيضا إن النبش في الدفاتر القديمة دقيق جدا هنا؟ التفت يسرة، أبحث عما يمكن أن يشفع لي، فخطر ببالي الكثير من الحسنات؛ كلما حسبتها مالت كفة، فإذا حسبت الأرباح من الخسائر مالت أخرى، حتى استفقت على وقع خطى هادئة، خلتها لفقيه الجامع. لكن الخطوات تعددت وتكاثرت، ومن هول المفاجأة، رأيت أخي المتوفى من عشرين عاما، وهو مستبشر الوجه، يتقدم جمعًا، كأنه الحاجب، وخلفه بخطوات شيخ أنيق، تتبعه إناث أكثر أناقة، ورجال شداد غلاظ.

جلس الرئيس على أريكة قصادي، وتوزع المرافقون، بسرعة، كل في مكانه بنظام وانتظام. ناوله الذي على شماله مخطوطة، نظر إليها في هدوء، ثم سلمه الذي على يمينه، كتابا ثانيا. لم أدر ديانة أي واحد منهم، ولا ملة الرئيس نفسه، ولا المستشارين الذين يحفون به، وما كنت لهمهماتهم ، التي طالت، مستوعبا.

أدرك الرئيس مبلغ حيرتي، فقال: لا تقلق يا سيد أحمد، إنّ حساب الآخرة ليس من جنس حساب العاجلة، ولا تَناسُب بينهما إطلاقا؛ وهذه الجلسة بالذات لا علاقة لها بالأفعال ولا بالأقوال، إنها خاصة بالأحوال. ثم راح ينظر في الكتابين، يأتي من واحد بالفكرة، ومن الثاني بالشاهد عليها. وكل شاهد منها هو مقتطف من العذابات التي تسببت فيها لحالي، والقبائح التي ارتكبتها في حق نفسي، ولكثرتها وقساوتها بدا الرجل غاضبا جدا مني.

أما أنا فكانت مفاجأتي من العيار الثقيل، لأن لم أكن أحسب أن نفسي خاصمتني أو أنها اشتكتني، ولأني، ببساطة، كنت أعتقد أني أملك زمامها، وأنني وإياها نشكل واحدا لا يتجزأ.

زادتني نظرات الحضور ألما ، حتى اضطررت إلى الانحناء خجلا، فلما رفعت رأسي بان قبالة عيني كما الشريط: سجل المرات التي بكيت فيها بسبب مرارة القهر، والتي ابتسمت فيها بغباوة، متجاهلا حقي. وعدد المرات التي ابتلعت فيها الشتيمة والتقزيم، آملا أن لا يسمع انهزاماتي من يعرفني حتى لا يفشي أسراري. وبين هذا كله، ظهرت لي محطات توقفت فيها عندما كان المسير يتعبني، لأني كنت أرى المرام بعيد المنال جدا، كذلك عدد الجلسات التي تنازلت فيها عن رأيي وسكت بدعوى أن الجدال مع السفهاء مضيعة للوقت. وعدد المواقف التي تجرعت فيها مذاق المرار كالعلقم بسبب خذلان الأحباب والأصحاب وجحود الأحبة… آخرهم الفقيه الذي لم يأت …

استحضرت الكثير جدا من هذه العذابات، ومن شدة الحسرة، صرخت ملء فمي قائلا : غفرانك يا نفسي، فأنا لم أكن أدري. لم أكن أعلم، ورب الكعبة، أني أخونك أو أخون حياتي . فَعذرا .. عذرا، أيا أنا، عذرا، إن كان الوقت ما زال يسمح بطلب الاعتذار؟

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى