ط
مسابقة القصة القصيرة

مازلت لا أدرك الفرق بين الصحو والمنام مسابقة القصة القصيرة بقلم / خولة القاسمى من تونس

خولة القاسمي – تونس
(قصة قصيرة : مازلت لا أدرك الفرق بين الصحو والمنام)

قالت لي وقد كانت تعبث بفنجان قهوتها وتحرّكه دون توقّف ودون أن تنظر في عينيّ:
– أتعلم؟ هذا العالم لا يُطاق، أنا أشعر بالفخر أنّني من أولئك الذين لم يفكّروا في الانتحار يوما ، مع أنّني أرأف بالآخرين الذين فعلوا، فقد كانوا ضعافا، أضعف من أن يتحمّلوا كذب ونفاق هذا العالم، وكانوا واثقين أنّ بقاءهم لن يؤدّي إلاّ لأحد شيئين، إمّا الجنون وإمّا أن يصبحوا مجرمين.
لم أُجبها ، بل بقيت أنظر إلبها وأنا أنتظر منها أن تُكمل، رفعت رأسها ولم تنظر إليّ، كانت شاردة في السيّارات التي تمرّ من أمام المقهى وكأنّها طلبت حضوري فحسب كي تُكلّم نفسها من دون أن يصاب الآخرون بالذّعر، من دون أن ينعتوها بالجنون، كُنت قلقًا، كان حزن عميق يغلّف قلبي، وتلفّني رهبة وذعر لم أجد لهما مُبرّرًا، وحاولت طردهما ، حاولت الكلام لكنّ لساني كان متثاقلا يأبى أن ينطق حرفا، كانت ملامحها حزينة، عادت تُحرّك القهوة بطريقة عكسيّة ثم أردفت:
– مازلت لا أُدرك الفرق بين الصّحو والمنام، بين هذا العالم وعالم الكوابيس والأحلام، بين أن أُمارس حياتي في هذا العالم المليء ببَشر يأكلون وينامون ويُجنّون ويضحكون ويبكون، وبين العوالم التي أشاهدها أثناء نومي. إنّني دائما أحلم، دائما تراودني الكوابيس، و مازلت
لا أدرك الفرق، حتى أنّني أحيانا أشعر بالارتباك بين ما يحصل في المنام وبين ما يحصل حقّا. أتراني أعاني خطبا ما؟
أردت أن أغير الجوّ الكئيب الذي لفّنا فجأة فقلت لها:
– ما رأيك أن نذهب لنتمشى قليلا على الشاطئ؟ أعلم أنّك تُحبّين البحر.
ولكنّها تابعت تحريك قهوتها واستأنفت حديثها دون أن تلقي بالا لكلامي، حتى أنّني ظننت أنها لم تسمعني:
– حقا، لا فرق بين الحلم والواقع، أظنّنا نحن الذين نختار أي العالمين لنعيش فيه، ونحن نبني لأنفسنا صرحا لا يُدمّر في المكان الذي يعجبنا، ماذا نفعل بواقع آليّ وروتيني ما دُمنا نستطيع الجلوس في ركنِ ومشاهدة أرواحنا تلعب عدّة أدوار أثناء النّوم؟ كل تلك الأدوار التي تمنّيناها يوما ولم ننلها، وكلّ تلك الأدوار التي لم تخطر على بالنا يوما، كلّ تلك الأدوار المُبهجة والحزينة والمضحكة حدّ الألم والمؤلمة حدّ الضّحك..
حين سمعت كلامها شككت في كونها تعاني خطبا ما فعلا.
فكّرت مليّا ثم استجمعت قواي وقلت لها بعد أن أمسكت ذراعها بقوّة لتنتبه لوجودي:
– تعالي معي، يجب أن آخذك لمكان ما، قد نجد حلا.
نظرت لي أخيرا بعينين منكسرتين انقبض قلبي لرؤيتهما ثم قالت باستسلام:
– لا بأس، لا فرق ولكن لا بأس.
أردت ان أتكلّم، أن أقول لها بل هناك فرق يا رؤى، هناك فرق، لا تستسلمي، أردت أن أصرخ بها: ألست شقيقك الذي كنت إذا يئست من الدنيا تخبرينني أنّك لن تسمحي لي بأن أيأس؟، أردت أن أخبرها بأنني أشتاق ابتسامتها التي لطالما أحيتني وجعلتني أدرك أنها ستبقى هنا لأجلي دوما ، أردت أن أخبرها بأنّها لطالما كانت أقرب لي من أمي حتى أنني حين توفّيت والدتنا قلقت عليها أكثر من حزني لوفاة أمّي، أردت أن أخبرها كل ذلك لكنّ قواي خانتني ، ولِلحظة تلامح لي شبح الموت يطوف في المكان لكنّني سرعان ما طردته.
بعد أن وصلنا لمنتصف الطريق قالت لي أنّها تريد الذهاب إلى البيت، قالت أنّها تشعر بتعب شديد وتريد أن تنام ويمكنني أن آخذها حيثما أريد حين تستيقظ، قلقت عليها وعدنا للبيت، نامت ولكنّها لم تستيقظ، لم تستيقظ بعدها أبداً وفهمت أن الخطب الذي كانت تعانيه هو الموت لا غير، فهمت أنّها في تلك اللحظة لم تكن بحاجة شيئ بقدر ما كانت بحاجة إلى حضن تبكي فيه مطوّلا وتخبره أنّ خيبات الحياة تتعبها وأنّها تحتاج شخصا يكون بقربها ويخبرها أنه هنا من أجلها، وفهمتُ أنني خذلتها ولم أكن موجودا من أجلها، نعم فهمت ذلك ولكن متأخرا جدا.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى