ط
مسابقة القصة

رواية: الغرفة رقم (216) المستشفى القديم.مسابقة الرواية بقلم / سهام بحشة . الجزائر

رواية: الغرفة رقم (216) المستشفى القديم.

مسابقة همسة للأدب والفنون فرع الرواية الطويلة

الاسم: سهام بحشة

اسم الشهرة: رماد بنفسجي

البلد:الجزائر

رابط الفيسبوك:

https://www.facebook.com/profile.php?id=100022377516195

 

 

    في العتمة تحمل قدحا من نار لكنها ساكنة بلا حركة، باردة كالسم لا أحد بوسعه أن يجرب طعم السم ويظل حيا لكنني أجرب تمثيل ذلك كفنان محترف لأزداد اقناعا.

    الموت بارد جدا هذا ما أردت قوله منذ البداية والواقع باهت يزيد الجراح النائـمة تأججا، أربعة جدران قديمة الطلاء لونها آيل للزوال والغيبة كأنه فناء طويل، تفكّر ماذا لو قفزت من ضوضائها المقيتة إلى العالم ستحلق عاليا حيث الأقدار البعيدة، كانت تخرج ضحكة متعجبّة من اتّهام الرجل الممدّد فلا شيء في ملامحه المشوهة يدلّ على ذلك، ولمعرفتها المسبقة بأنّ حياتها تتوقف على استيقاظه تستجدي الوقت بينما دخل العساكر الغرفة رقم (216).

  • مازال نائما هذا الكلب؟
  • لتجيبهم: بأنه لن ينجو.

تسقط أرضا وتلوم الرجل ثمّ تعود للعويل كطفلة صغيرة متشردة بلا مأوى، ظلت تلعنه كما شعرت برغبة جامحة في الغناء، مستذكرة بمرارة ما حدث ليلة التفجير فذلك بمثابة ضربة قاتلة لحلمها “دار الأوبرا باريس” هذا الحلم الذي مازال نصب عينيها الغارقتين في الاحمرار، يدهسها الحاضر منسحبا إليها كالصدمة، أصابها اختناق رئوي حاد فراحت تهرول هربا إلى مذكرة “ماريا”: “…لا بد للمرء أن يهرب من كلّ شيء، من نفسه ومن وطنه ثم إنّ الوطن الذي يجعلنا نهرب من أنفسنا من العار أن نسمّيه وطنا…” توقفت عن القراءة فاقدة الرغبة.

تراقبه إلى الغياب كان يغرق في السحب، يسحقه البياض بياض بحجم مدينة متآِكلة أطرافها كعجوز في آخر العمر لكنه ما يلبث أن يزداد رخاوة، تكفيه خطوة واحدة صوب العدم، يكفيه توقف حقنتة المسائـية عن الضخ في عروقه بعضا من الأكسجين الاصطناعي، مدينة اصطناعية تجابه الفناء بجسد عارٍ تماما إلا من الذاكرة العصماء، قوام نحيل متمايل إلى شرق الهزيمة ثم إلى غرب الانتصار، فستان دانتيل أحمر، كانت تمد رجلها خطوة وتستعيد تسريحة شعرها الكثيف بينما يستعيد هو شريط الذاكرة كأنّه يجابه أهوال القيامة باضطرابها الكوني الكامل.

أخذتها الذّكرى إلى تلك الليلة الّتي رمت فيها بكل شيء في البحر، غمرتها ليالي “ماريا” بكل تفاصيلها المثيرة وداهمها سيل من الألم متذكرة الرجل الأخير إذ لا تقوى على نسيانه أو طمسه من ذاكرتها المتعبة كزجاجة عطر من رجل لآخر بين كل الرجال الذين صادفتهم في صيف لياليها المنشرحة مختلف تماما كما لم تسعها ذاكرتها الطافحة به على احتواء كل تفاصيله المهربة من زمن ما، رجل من عالم الصمت المتقن بعظمة لم تشهدها لياليها المنشرحة كباريس في أي وقت، عابثة حينما ترتدي فساتين طويلة وهي امرأة من ذاكرة الرقص، في انسحابها إليه ثمة ما شدها عن الاقتراب فتوقفت على بعد مسافة منه كالصنم مشدوهة الملامح قبل أن يمسك “بيار جونسون” يدها لتصعد المنصة لتواصل غنائها المرتبك ثم تتوقف وغادرت، لطالما كانت مؤمنة بأن الرجال الذين صادفتهم كانوا في حاجة إليها من أجل النسيان وكانت هي في حاجة إليهم من أجل السّفر، حلم “دار الأوبرا باريس” نصب جفنيها ممسكة طرف نظرها القاسي كسرج حصان جبار، تبدو عيناها مثل حزمة نار متيقظة للاشتعال، ممرر واحد يمضي إلى متنزه مهجور وحدها تقبع في حاضره المنكسر إذ تشبهه حدّ الكفر بمعتقدات القبيلة التي تنسحب في دمائها المتدفقة صوب الانعتاق والتحرر من حكمها الذي لطالما اعتبر الأجداد ملائكة بريؤون على الرغم مما فعلوه من معاص، كان من المدهش لها أن تستمع إلى بعض النميمة النسائية فيما مضى داخل الحمام الأسبوعي بمرافقتها لـ”الطاوس” أرملة جدها التي عاشت معها بعد وفاة والديها.

    في زياراتهما الأسبوعية للحمام النسائي كل الأحاديث النسوية لا تخلو من أفعالهنّ الدنيئة، وهي تتجول بين أجسادهنّ العارية في سنّ المراهقة منبهرة من التماثيل اللحمية المكدّسة أمام عينيها دون تكلفة، كانت النّسوة لا يجدن حرجا في التعري الفاضح فهناك فقط تصمت التقاليد والأعراف إلى الأبد.

توقفت عند امرأتين تشيران إلى “الطاوس” لتسترق بعض السّمع وكان الحديث عن واقعة قامت بها فيما مضى قبل زواجها المشبوه من الجدّ … آخ كانت فعلتها دنيئة.

     تمسكها “الطاوس” بعد أن تفطنت إلى حديثهن وتدفعها بعنف محذرة إياها من إفشائها لهذا السر، لكنهما لم تتوقفا عن الحديث وراحتا تستفزانها… لقد كان أشقرا نسخة أصلية عن والده.

   لم تكن تعي ما تسمعه من المرأتين لكن للذاكرة خزان إضافي يحتفظ بتلك الأشياء المبهمة لتجد إجابة عنها في أجل لاحق.

    تعود إلى واقع الغرفة رقم (216) منسحبة إلى مذكرة “ماريا” المهملة: “…قلت دائما بأنّها مدينة صغيرة على امرأة قادمة منَ اللّيل كلّ شيء فيها مباح للنّوم، سرير التطفل هذا فائق الخجل ولا شيء يغري قوامَ عاشقة للنوم فما أحوجني إلى مدينة كباريس بحجم الأمان لا صمّام لزجاجتها ولا موقد حراسة بعد منتصف الليل، مدينة لا تنام نجومها مع الرّشفة الأولى كالأطفال…” تتوقف عن القراءة بلا رغبة.

تدندن أغنيتها رغم جراحها: قد أصبحتُ غير مرئية، أيتها السماء بحق القديسين لا تمطري هذه الظهيرة، كانت تستعد للصراخ لكن الطبيب الروسي أوقفها، ليس من العدل أن تسجني إلى جانب رجل ميت سيتم إزالة الآلات بعد نصف ساعة لدفنه، دقائقه الأخيرة أوشكت على النهاية، كانت تغرق في دموعها كما لم تفعل يوما ماسكة يده بقسوة كأنها ستفقد شخصا عزيزا، تبكي بحرقة كأنها المرأة التي أنجبته من العدم وتشهق إلى جانبه قبل أن يمسك هو طرف يدها محاولا فتح عينه الملتصقتين بصعوبة تامة، رؤية بصره ضعيفة بدا له العالم متماهيا كلحظة فقدان الوعي نفسها لكنه على الأغلب في طريقه إلى الحياة، ينساب الضوء ساقطا على خصرها المغطى بقطعة دانتيل أحمر ويتدحرج شعاعه كأنه مار على جلد ثعبان، يتكرر مروره مع تكرارها للرقص، كانت حافية القدمين تتمايل وتمد قدما صوب العدم ثم تتراجع قليلا للوراء، خلخالها يرتفع ويهوي مع وطأة قدمها الأخرى على الأرض.

    ما كان ذلك الجنون كله إلا واقعا مريرا عاشه بكل تفاصيله المؤلمة، مقيد اليدين وفاقدا للوعي، صوت حقنته المسائية يتكرر في الذاكرة للمرة الثانية ليصير مسموعا كليا.

   لحظة يكفي من البهتان لقد كان هادئا جدا يتعاطى الدواء في وقته المحدد من يدي تلك الطبيبة الناعمة “سمراء” امرأة اللحظة بلا مساحيق وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها يافعة كالمراهقات، كانت تساعده على الوقوف مجددا.

   فيما مضى كان يرقد بمستشفى الأمراض العقلية يعيش بين فصول ذاكرة التواجد فلا أمل يملأ حياته أو حلما يلامس آثار التشوه الطفيفة على وجهه، أصبح سفينة بلا شراع في أقاصي المحيط فأي لحظة فائتة كان سيقنعها بالفرح وأي دمعة منطوية سيدعوها للرقص؟ وبين ضفائر المستحيل ينسج خيوط الوقت غارقا في وهم رسائل قديمة، سرا تبهجه مقاطع سابقة للعزف، سرا تحزنه بنفس القدر أغنية ما، يشغل الشريط: قد أصبحت غير مرئية، أيتها السماء بحق القديسين لا تمطري هذه الظهيرة، هذه الأغنية ظلت عالقة في ذاكرته المطعونة.

    كانت “سمراء” تغازله في كل لقاء بينهما: ما يحزن هذا الوسيم المهرب من بحيرات المرجان في النصف الآخر من العالم اللامرئي وكان يبادلها ابتسامة الإعجاب تلك بشيء من التحفظ، منشرحة “سمراء” حد اللاوعي.

   فيما مضى دفعه تمرده وتفكيره المركب إلى التشكيك في كل شيء فمنذ اكتسابه لذاكرة التواجد الكوني شك في تواجده المحدود ضمن محيط عائلي صغير بين امرأة حدث أن أنجبته بعد عقم طويل، ظل دائم التساؤل عما سيمنع امرأة عاقرا في باب سن اليأس لسنوات عديدة من أن تحضر طفلا من دار الأيتام وتكسب ثواب رعايته، كان دائم البحث في دولاب الوثائق عن شيء يدينها بذلك الجرم.

 والده ذو ملامح سمراء ما جعل شكوكه تكبر فكيف لرجل أسمر من الصحراء أن يخلف ولدا أشقرا  يشبه إلى حد بعيد “بيار جونسون” الزوج الوفي للسيدة “تيريز مارشال” على الورق، كان أمل والده الوحيد في الحياة أن يدفع أقساط الإيجار لذلك المنزل القذر بضواحي العاصمة لكنه استشهد بثلاث رصاصات خارقة لدماغه بعد عملية فدائية، صار بطلا قوميا على نقيض ما كان عليه من قبل بائع سبانخ وبعض الأعشاب الجبلية اليابسة.

الثورة تجعلنا أبطالا سريعي التوهج، إنها بالفعل البداية من القمة صوب الحياة الأبدية، في خوالجه ظل والده يزهر دوما، غرفتان أشبه بمرحاض كبير توجزان طفولته المهدورة وجدار متصدع إلى نصفين.

   في سن السادسة رفض مدير المدرسة الفرنسية منذ البداية تسجيله لدى القسم الابتدائي بسبب الفقر، لكن وعيه بالحقيقة ظل كبيرا وكثير السخرية من أسئلة المعلمة، لا يتمالك نفسه من الضحك عما يعيه من تفاهة الوضع، بعدها بست سنوات توقفت مسيرته التعليمية لاستحالة تأقلمه مع ذلك الوسط الخبيث: فرنسا مهد الحرية، فرنسا مهد الديموقراطية، الجزائر فرنسية.

  عاش لأعوام عديدة بين كتب الارشاد النفسي المتاحة له في الغرفة رقم(216)التي اشترتها السيدة “تيريز” بعد الاستقلال فظل يقطنها بعد أن غادرت إلى فرنسا، حدث أن أغلق المستشفى العسكري وتم تحويله إلى غرف للبيع، كانت غرفة صغيرة وهادئة إلا من زيارات “سمراء” كما أن الكلبة “مريانا” أصبحت تحت رعايته.

  * كن شجاعا إذن لأنك لست الأفضل دوما ولا الأسوء أبدا فلا أحد في هذا العالم المجنون بوسعه أن يعطف عليك إن مت مسمّما، العالم اليوم يابني أكثر قسوة من قبل.

ختمت السيدة “تيريز” رسالتها إليه قبل وفاتها بأيام، كان أول درس في الحياة المادية تقدمه له من بعيد كوالدة بالتبني، تنصحه عبر الورق، فكيف له أن يقدم على تلك الخطوة المجنونة المؤدية إلى العدم فإن هو مؤمن بالموت في أي لحظة فلا ضغينة إذن يواجه بها الحياة.

     في تلك الفترة بعد خروجه من مستشفى الأمراض العقلية كان قد أهمل صندوق بريده كليا متغافلا رسائل “وردة” التي كانت تصله من فرنسا غارقا في عزلتة.

   يرتشف رشفة كبيرة من فنجان قهوته ويلقي نظرة على الطريق العام الذي يسبح في الظلام، كانت “سمراء ” تتأهب لصعود سلم العمارة، مقلبا عينيه المحفورتين على جبينه شمالا ويمينا، يركض بصره كحصان جامح ثم يستدير موجه نظره إلى كتب الارشاد التربوي.

   الغرفة (216) “سمراء” تكرر دق الجرس مرات متتالية كما اعتادت أن تفعل، مزعجة هذه القطة الرافضة للارتباط وأنيقة أيضا، بضحكة صاخبة ترد على ملامحه الواجمة قبالة الباب: إنها العنوسة يا”ريبو” للعنوسة ضرائب عكسية عليك تحملي كثيرا مستعدة للبقاء في غرفة السيدة “تيريز مارشال” بلا تكلفة، بدا له الوقت متأخرا، حسنا حان وقت رحيلك إن الديك الخيالي يستعد للصياح، فراحت تشخص النظر إليه: لكني لم ألج عتبة الباب بعد.

    منتصف الليل هذا التوقيت الباذخ في الربح والخسران، فيما مضى كاد أن يصارح السيدة “تيريز” بإعجابه على شاطئ البحر لما اصطحبته في عطلة نهاية الأسبوع، شيء ما يغلف بياضها الثلجي بملابس السباحة، ذلك القوام الخمسيني الملفت رغم التجاعيد وتقدمها في العمر، على بعد تلك السنوات كان موت “بيار” ليلة التفجير بشظية في القلب فاجعا لها ثم صارت شاحبة فجأة لكنها ظلت فاتنة في نظره وتعقد قرانها بين العديد من الأشياء المهدورة لديه تتبناه بطعم أشياء أخرى من اللاوعي.

 لم يكن موت” بيار” بسبب الرصاصة التي أصابته في ذراعه الأيمن بل بشظية في القلب كما جاء في  محضر طبيب التشريح الذي عثر عليه في الدولاب، كان ذلك الخبر مريحا له بحجم الاستقلال ذاته فكم عذبه أمر أن يكون موت “بيار”على يديه، بعد الاستقلال هي الأخرى قررت العودة إلى “باريس”.

“سمراء” تقلب غرفة نومه بحذر علها تجد سببا مقنعا لمحاولته للانتحار فوقعت بين يديها صورة مكتوب عليها “بيار جونسون”.

  • يا إلهي كم يشبهك هذا الرجل، هل يكون والدك؟

كانت ضحكته تخرج مثل الشتيمة: دعك من هذا وأخبريني أيتها الطبيبة الذكية عن قانونك الذي يوجب تتبع المرضى في غرف نومهم.

  • لا أظن أن هناك قانونا يمنع ذلك أيضا، كما لا أجد أدوية هنا فهل كنت تنصب علي على مر أيام العلاج في المستشفى.

“سمراء” كانت لا تتردد في تقديم المساعدة له بينما هو كان يدلل كلبته “مريانا” كل الوقت لتصرخ في وجهه بربك توقف يا”ريبو” ألا تلاحظ أن هذا الأمر بات مقززا للغاية كما أن لي فوبيا الكلاب الضالة فلتقدر مشاعري على الأقل إلى حين رحيلي.

ظل صامتا لبعض الوقت: ليست ضالة بل يتيمة، لم تكن مجرد كلبة إنها الجزء الأكبر من هذه الغرفة الضيقة والوريثة الشرعية للحكاية.

  • توجه له سؤالا مباغتا: فلتخبرني بوضوح عن سبب محاولتك للانتحار.
  • كان رده مبهما: إنها الحقيقة.

لم تكن سمراء تعي كلامه جيدا، توجهت إلى الشرفة رفقة فنجان قهوة أعدتها سريعا، لم يلبث أن لحق بها تمعنت في آثار التشوه على وجهه ثم ابتسمت: لا تعلم كم زادتك هذه الآثار من جاذبية.

– “سمراء ” يبدو أن الوقت متأخر على عزباء مثلك.

– كانت عيناها تغرقان في الدموع لطالما علمت بطيبة قلبك الذي يمكن أن يحبني شفقة لا غير لكنني سأكتفي بهذا القدر من الجحود.

 خطوط خضراء تلامس بؤبؤ عينيه عندما شاهد “سمراء” تغادر رغم أنه لا يحبذ تواجدها في مركز حزنه السري لكن الأمر يختلط عليه ككومة عجين غير جاهزة يحتاج إليها كما يحتاج مخطئ أن يبرر ذنبه، يصعقه الواقع متذكرا حادثة الدولاب يزداد تعرقا وأطرافه ترتعش فلا شيء أعنف من هذه الحقيقة المرة، ذلك القدر المخبأ هناك، كان لابد من تحطيمه للقفل قبل أن يتعثر نظره بصورهما معا، بدا له الأمر مريبا رغم بساطة الصور لكنه عثر على دليل أكثر حدة، رسائل “بيار” الغرامية التي لم يرسلها لسبب ما، كان واضحا اسم “وردة” على صورة المغنية “ماريا” كل الرسائل مختومة بعبارة: “وردة أيتها السهلة الممتنعة”.

كان عزاؤه الوحيد وجود الكلبة “مريانا” في حياته الكاسدة، يوما بعد يوم احتلت مكانة كبيرة لديه فكلما مر بصحبتها إلى “السوبر ماركت” من شارع “حسن عبد الله” صديق طفولته يختلجه ألم عميق متذكرا ليلة التفجير الرهيبة.

     يومها تعالت قهقهاتهم الآتيّة من بعيد ورافقتها موسيقى كلاسيكيّة، أصابته الدّهشة لحظة وقوفه أمام مرآة أشبه بحائط زجاجي، شعر بالفزع وهو يشاهد منظر ملابسه الرّثة تحت أشعّة الأضواء الكثيفة الكافيّة لإشعال مدينة مظلمة من الوطن المسلوب، ظلّ مصدوما يحسب أنّه متشرّد لا غير، صاحبه الخوف كلّما ابتعد عن الباب المفتوح، لكنه كان مصرا على اكتشاف ذلك العالم المبهر لـ”بيار جونسون” رجة في قلبه قلقة تكاد توقفه، اكتسحه شغف طفولته المغدورة وهو يشاهد بلّورا كبيرا معلّقا يغطّي سقف القاعة إذ راح يوقظ داخله سنينا من الحرمان، ثمة ما يتنكر داخله للمنزل الذي ولد فيه، منزله الأشبه بمرحاض مهجور، ارتادته نظرات متوجسة وكأنّ الأصوات هي من تقتاده دون أن يستشعر طريقه وسط الأضواء.

في قبضة تفكيره وصل السيد “بيار جونسون”: هذا أنت؟ أمره بالإسراع لأنّه تأخّر -على حدّ تعبيره-  أصابه ذهول آخر كيف خدع “بيار” ولم يستفق إلّا وهو يحمل صينيّة للنّبيذ يجوب القاعة كالأبكم شبرا شبرا، زاويّة زاويّة، في هديله الممتد من وراء الصّخب تذكّر رتابة حياته السّابقة بدءا بطفولته السيئة، حاول أن يقتنع بشيء من الكرامة لأنّه رغم كل ذلك ظل حيا يقاوم الموت الذي يترصده كعدو غادر وهو يحمل أدوات التنظيف هاربا وسط الرصاص المتطاير بين الأزقّة الضيّقة للمدينة، تغلبه الدموع في مثل تلك الذكريات القريبة، تعاوده الرجّة من جديد قبل أن ينفث أحد الحضور دخان سيجارته في وجهه.

-هل أنت أعمى ؟؟

– ليرد هو: سامحني سيدي.

 ليتدخل “بيار جونسون”: دعه إنّه عربي حقير.

كان هديله يزداد صخبا وقوة حاملا صينية النبيذ، تسرب إليه نوع من الارتباك وهو يشقّ مسلكه بين الحضور وارتاده خوف آخر متذكرا مصيره لو ينكشف أمره، رسم صورة للأمل وصاحبها برجفة تنفسه العميق ثم عاد بهدوء يفتح ابتسامة مكتفيا بمراوغة نفسه متجاهلا هزة الموت الأشبه بالعزلة، على مقربة من حزنه تسلّلت إليه صورةَ صديق طفولته “حسن” فلطالما تشاركا الأدوات لتنظيف الأحذيّة، ظلت صورة “حسن” تظهر أمامه وتختفي مع  لمعان الضوء المنسدل من البلور في الأعلى ليصطدم بواجهة الأكواب فينسحب إليه خوف آخر، يجوب القاعة من جديد ويقبل يد معمرة حسناء اختلفت بينهما وجهة المرور.

  • ما هذا الشبه الذي بينك وبين السيدة : “تيريز مارشال”.
  • لتجيبه: من تكون أنت؟

حسنا، تفضلي منسحبا بلباقة عهدها من مهنته القديمة كما بادلته هي بإبتسامة ماكرة، كان السيد: “بيار”  يمسك بيد الحسناء لتصعد فوق المنصة ويقدمها للحضور على أنها المغنية “ماريا”.

عادت صورة ” حسن” إلى الإشتغال شعر بالتعجب فطريقة اختفائه الغامضة تركت لديه جدلا عميقا، فتح عينيه المنغلقتين قليلا على أماكن أخرى من القّاعة لم يشاهدها منذ البداية لكنّ نظراته السّريعة توقّفت عند المعمّرة الحسناء، في طريق انجذابها إليه شعر بمعجزة تخلّصه من الذي قد يحدث ليلتها لكنّه انسحب سريعا من حوارها المبهم، كان يعاني بلاء اللّحظات النّادرة، شعر بأنه أكثر الأشخاص غرابة، في غمرة تسكعه العاطفي المفاجئ وقف كالأبله فاقدا نظام هيكله وجها لوجه “حسن” صديق طفولتة يحمل صينيّة أخرى للنّبيذ في الزّاويّة الأخرى كاد أن لا يصدّق هذه المفارقة، بدت ملامح “حسن” مفجوعة إذ كان مصدوما في ردّه السّريع : أخرج (برّا… برّا).

  • تقاطعهما المغنية الحسناء: أريد كأسا آخر.
  • ليردّ “حسن”: ستشربين السمّ بعد قليل.

سار” حسن” صوب طاولة المغنية ليقدم لها النبيذ وسار “العربي” صوب زاويّة أخرى دون أن يفهم شيئا من كلام صديقه المبهم وراح يكمل في خلوته المؤقتة إمعان النّظر إلى تصرّفات صديقه الّتي لا تبدو طبيعيّة، انقطعت أنفاسه على امتداد طريق عودته إلى أكواب النّبيذ متشرّدا بين الزّاويّتين، بضع خطوات تفصله عن الحقيقة المخفيّة في مكان ما من تلك القاعة المكتظّة بالقتلة، انتابه شعور بأنّ أشياء عظيمة ستحدث ليلتها، كما راوده الشّوق إلى أمّه وكأنّه على أهبة الرّحيل شعور الحيّ بأنّ الموت يتربص به، اقترب “حسن” منه هذه المرّة يخبّره: أنا الآن في صفوف الجبهة لم يتبق إلّا دقيقتين إمّا أن تخرج الآن وتقوم بعمل فدائي أو تذهب إلى الجحيم رفقتهم، كان يستعصي عليه القتل فكيف ليديه المدرجتين بغبار الأحذية من أجل البقاء حيا أن تمارسا هذا الفناء.

    في غمرة اندفاعه إلى مسدس أحد الجنرالات كان “حسن” قد غادر الباب المفتوح، بينما أطلق هو عيارا ناريا على الشخص الذي شتمه سابقا، في اللحظة تلك انفجرت القاعة واتبعتها سلسلة انفجارات مست أرجاء الوطن المسلوب.

   أصبح بطلا ممجدا باسم شارع “حسن عبد الله” بعد استشهاده بينما أصبح هو مدمنا لمضادات الاكتئاب، يمرر يده على رقبة كلبته برفق من علو الشرفة، هذا القلب بالغ الحزن والأسى يا”مريانا” وحده العقل الأكثر حزنا إني بالفعل أتعفن داخل هذه العزلة وعقلي يضج بمأساة متجددة بحجم الوطن الذي آوي إليه دون أن أسكنه فلطالما جعلتُ بيننا هوة عميقة كفوهة بركان خامد ولطالما جعل مني مخلوقا بائسا ومظلما.

 كانت “وردة” تخط رسالة أخرى* فقط لو يمكن أن ترى عينك الأولى، عينك التي أحببتها هذه الغصة المقيتة فيعينيْ لدعوتك للتفسح في عمق هذا الجرح المستوطن، لم أكن لاستغل طيبة السيدة “تيريز” لولا الحلم الذي كان يباغتني ويحاربني من كل الجهات.

كان مترددا جدا إزاء الرسائل المتلاحقة التي ترسلها “وردة” من باريس بدا له أن الأمر قد انتهى بينهما إلى الأبد لكن عقله لا يشفى من صدمة الدولاب ومن واقعة الأدلة التي حصل عليها في الدرج، لم يكن يعنيه شأن ما عثر عليه بل ما حدث للسيدة “تيريز” من خيانة مزدوجة، مستعدا للتعافي لكن بعد أن يقدم أول رد.

*أتعلمين كم أشفق عليك كلما شاهدت رتابتي في أعين المارين وكلما وقفت واجما في وجه- سمراء-أطردها كل مساء دون شعوري بأدنى ذنب، فقدت الإنسان في داخلي إلى الأبد، في غرفة السيدة -تريز-كل الأدلة تعدمك، رسائل –بيار جونسون- وصوركما معا، هنا كل الأشياء هادئة تفتعل شكوكي ليستمر ورقك في التوقع، أراك الآن بوضوح –ماريا- بفستان الدانتيل الأحمر الجريء “ماريا” المغنية بخصرك الأوروبي وشعرك الأشقر المستعار تتأبطين ذراعه، صورتك الآن مكتملة لدي سأكون ممتنا لو اختفيت ولا شيء آخر لكن أخبريني كيف تجرأت؟

    سقط في غفوة نوم عميقة مثل الغيبوبة كان يغوص إلى الأقصى بلا وعي يتعاطى ملذات الوحدة الغامرة، زاحفا على سرير السيدة “تريز” متحسسا غيابها قبل أن يستسلم جسده كليا.

في زاوية أخرى كانت “الطاوس” تستذكر يوم رافقت “وردة” إلى النادي لتواجه “بيار” بعد أن فقدت طعم ما كان بينهما في زواجهما السري فلطالما ضجت بانفرادها عن بقية النساء اللواتي عرفهن في زيجاته المتعددة.

    كانت “وردة” تغني باحترافية كالمعتاد خصرها انسيابي وصلب، تزداد قوة، حريصة على تنفيذها للرقصة بإحكام، حركات جديدة تجربها للمرة الأولى “بيار” مشدود إليها وقد تمكنت من القيام بالحركات كلها دون خطأ، كان يراها مثل فراشة طائرة في الهواء، عيناه تشيان بحب وانبهار، كانت تسير إلى منتصف المسرح كالحلم.

    بعد رحيل “وردة” إلى “باريس” العجوز “الطاوس” أتى عليها مرض البهاق كليا، نار باردة تغزو جلدها المترهل تدريجيا وتحتله كمعركة بين الحياة والفناء، حشرة العثة من أعوام تعبث بالأشعة المنبعثة من مصباح غرفتها أعلى السقف فرغم العجز الذي سيطر عليها إلا أنها ظلت مبتسمة مع بروز غصة حزن عميقة في عينيها، تعاقب نفسها بالاستسلام إلى الصمت رغم أن رغبتها شديدة في إخباره الحقيقة كاملة.

    بهاق ينتشر كأنه لعنة البياض يغلف جسدها ما يؤدي بها إلى التلفظ بالسباب أحيانا خارج بيتها، الليل يخيم على بيتها بشكل متفاوت فالكبار في السن يصيبهم وهم الظلام المتزايد كخوفهم من الآخرة حضرت فنجان قهوة كأنها تتحدى الليل بأكمله، كانت ليلة ماطرة ازدادت فيها الطبيعة حقدا لتخرج ما في باطنها من قسوة وبحلول منتصف الليل اشتد خوفها من سقوط شجرة السرو الضخمة التي تجاور بيتها وقد تجاوز عمرها المئة سنة “رحماك يا الله بهذه العجوز المنهكة”.

حل الصباح على بيتها القرميدي المتصدع وسط المدينة به غرفتان وحديقة صغيرة تزهر فيها زهرتا عباد الشمس كل ربيع وتختفيان في باقي فصول السنة، لم تبدل البلدية جهدا في إزالة الشجرة الخطرة على بيت ” الطاوس” لأنها كانت تهدف إلى تهديمه لموقعه الاستراتيجي.

    مازال صوت شجرة السرو يتعالى، هنالك في الخارج حالة طوارئ وثمة شرطة تتقصى الوضع، طرقات خفيفة على الباب، يخبرها الشرطي: عليك بإخلاء البيت في الحال قبل وقوع الكارثة، ترددت كثيرا قبل أن تحمل حقيبتها للمغادرة فليس ثمة عنوان تتجه إليه إلا بيت السيدة “تيريز مارشال” -الغرفة 216 المستشفى القديم- عثرت عليه بين أغراض “وردة” القديمة.

    تسير على الرصيف هذا الطريق مليء بالخديعة، وجه المدينة يتآكل كخرقة بالية فكل الأشياء تختفي في شارع يرشح بؤسا، الشقاء يغير معالم المدينة وساحاتها الأثرية ما لبثت أن أوقفت شاشة الذاكرة من الاستمرار فثمة أمكنة لا ترغب في الوصول إليها، هناك صور مستثناة لا ترغب في استرجاعها، يداه الصغيرتان وجلده الناعم تتحسس ذلك بعمق.

    في الشارع البائس بالأمس كانت تستمع إلى هتافات حشد شعبي وأمامها إكليل أزهار تتوسطه زهرتا عباد الشمس، موكب رسمي مر بجانبها إلى المقبرة والأعلام ملوحة في الأعلى بألوان مختلفة كان الوطن مسلوبا قبل أن يصير الحشد قرمزي كمثل الدم “انفجار” مفاجئ أعقبه حريق مهول.

    فترة التوجس تلك على الاستقلال، زهرتا عباد الشمس ملطختان بالدم فماذا تخفيان بعد تلك السنة، وجع الطريق بالأمس القريب إذ كانت الأسلاك هنا بالضبط عازلة تقطع هذا الممر وتعزل ضفتي العاصمة عن بعضهما والناس يزاولون حياة بدائية يسوقون الحمير لجلب المؤونة ويدفعون ضريبة انتقالهم من مكان لآخر، كانت ستموت جوعا لولا دكان القمح الذي ورثته عن زوجها تستذكره بحسرة بالغة وهي تعبر الممر إلى عمارة السيدة “تيريز مارشال” -الغرفة 216- المستشفى القديم تتأكد مرة أخرى من صحة العنوان قبل أن تدق الجرس مرات ومرات، الباب لم يكن مغلقا وصوت أغنية ينبعث من الداخل: قد أصبحت غير مرئية، أيتها السماء بحق القديسين لا تمطري هذه الظهيرة.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى