ط
مسابقة القصة القصيرة

القلادة الملعونة .مسابقة القصة القصيرة بقلم / رولا حسينات .الأردن

رولا حسينات
الأردن/[email protected]
مشاركة في مسابقة القصة القصيرة
القلادة الملعونة
– كُل على مهل لا تصدر صوتًا فلا أحد هنا يحب الضجيج. قالها بصوت أجش خافت، ألقى بنظره حوله في الصالة الصغيرة، لم يكن أحد فوق الكراسي، لم يكن أحد يرتاد المكان غيره وذلك العجوز الذي يمدّ أوراق لعبة الشدة أمامه يفردها، يبدلها، ينتقي منها بحركات دقيقة جدًا وكأنه يقرر مصير أحدهم، أدار وجهه، واستمر في تناول قطعة اللحم الموضوعة في الخبز المدهون بالزبد، جوعه سيطر عليه لم يسمع لدلال في أن يأخذ معه بعض الشطائر، قال حينئذٍ: المكان قريب، لا داعي لكل هذه الكركبة… هو يعرف الطريق جيدًا، ولكن كان عليه أن يبدل طريقه في اللحظة الأخيرة، عليه أن يسلك الطريق الذي أرسلته زوجة أبيه مرسومًا كما في الخريطة؛ هو لا يذكر أنه سمع عن هذا الطريق الصحراوي شيئًا، ولكنه قارن المسافتين كان يبدو هذا أقرب وأسرع، وليته كذب وقال: “أنه سلكه ومضى في الطريق الذي يعرفه…” تصرفات زوجة أبيه الغريبة الأطوار، لقد فضلت أن تسكن بعيدًا عن كل الناس…عندما مات أبوه صدم العالم لقد كانا فريدين يقال: أنهما أمضيا يومًا كاملًا في وكرٍ للأفاعي السامة دون أن يصيبهما مكروه، وأقسم أبوه: أنه شرب من سمها… وهذا الذي جعله يبقى على قيد الحياة أكثر من تسعين عامًا دون أن يمرض، دون أن يقوم أحد على إدخاله إلى المرحاض أو إخراجه. لقد بقي قويًا، وهذا الذي أبقاه حتى الدقيقة الأخيرة من سني عمره التسعة والتسعين، ولكنه مات أغمض عينيه نهار السبت ومات وفقط…وانتهى كل شيء، ببساطة لم يصدق أي منهم ذلك وزوجته كانت تأتي بين الحين والآخر منذ وفاته طيلة ثلاث سنوات، الأمور تجري على خير ما يرام حتى ذلك اليوم قبل سبعة أيام حين نسيت تلك القلادة؛ لماذا نسيتها؟ لماذا لم تعد لأخذها؟ وكان تصميمها عجيبًا على أن يقوم بردها إليها كان يمكن أن يرسلها إليها بالبريد أو مع أي من أصدقائه الموثوقين أو حتى مع أي أحد ترسله من طرفها فالأمر لا يهمه كثيرًا، ربما ما تركته له من ميراث أبيه كان يشفع لطلبها هذا، فهي لم تأخذ شيئًا من أمواله، فقط احتفظت بصورته، لقد كانت تحبه كثيرًا، هذا الذي كان يعرفه ويراه بأمّ عينيه؛ كان أبوه سعيدًا جدًا بها وبجنونها، يسافر معها لكل بلد ولا يدري كيف صدق تلك القصة في أن يحمل معه تلك القلادة…إلى أنيسة زوجة أبيه، لقد طلبتها منه… وهي تريدها قبل أن ينقص القمر ويصبح هلالًا… لماذا هذا التصميم هو لا يعرف لمِ ألحت عليه دلال بعد ذلك! أخبرته أن زوجة أبيه بها مس من الجنون؛ فهي لم تتوقف عن الاتصال بها حتى لم تعد ترفع سماعة الهاتف، عشرة آلاف رسالة خلال سبعة أيام…شيء لا يصدق أصابها هلع من أن ترى تلك القلادة في بيتها ثانية هي مجرد قلادة ذهبية يتوسطها حجر زمردي، وماذا يعني ذلك؟ لم يكن ليراها تتقافز أمامه كقرد أصيب بنوبة هيستيرية، وسجن في قفص، تدمر تصيح….
على إثر ذلك أخذ إجازة من عمله، ثلاثة أيام… يذهب فيها ليعيد لتلك المرأة المجنونة قلادتها ويعود…
أكمل طعامه على مضض لولا الجوع الذي أصابه لما جلس دقيقة واحدة، وهو يقبض إليه أنفاسه، ركب سيارته وقد نظر نظرة متفحصة للمكان حوله، مقفر للغاية بيوت مترامية وكأنها بيوت للموتى، خالية تمامًا من أنفاس الحياة، الغيوم الرمادية المتلاصقة في السماء بدت ملاصقة للأسقف التي تلفها الريح بدوامتها، أحسّ بالفراغ ، مرت بجسده قشعريرة وهو يغلق باب السيارة، كان جسده باردًا جدًا، كان المنظر حوله وحده يثير فيه الجنون لكنه سيتغاضى عن كل شيء ويمضي، شغل محرك السيارة لم تدر أعاد تشغيلها مرة ثانية وثالثة لكنها لم تستجب.
– اضربها أيها المعتوه ثم شغلها ستتحرك…. دار برأس مشكوك بدبابيس لينظر بعينيه المتجمدتين في السيارة، لكنه لم يبصر شيئًا، خيل إليه للحظة أنه عقله الباطن الذي يرتب كل شيء حوله، الأمر بدا أنه أحمق بالفعل، لعن اللحظة التي اتخذ فيها هذا القرار….عندما ضرب المقود بيده اشتغل المحرك ومضى…مخلياً سحابة تجري وراءه، ونسي ما حدث قبل قليل.
حتى شعر بصفعة على عنقه، وصوت غاضب يأتيه من المقعد المجاور…
– توقف عن ذلك أيها الأحمق إن ذوقك سيء للغاية. نظر بقربه وهو يتحسس الضربة القوية على عنقه، وهي تنبض في رأسه وتتوهج، لقد كان رجلًا أبيض البشرة في منتصف السبعين من العمر له لحية طويلة، وعينان ضيقتان ملامحه تائهة في وجه قديم، وحبات المطر المتساقطة بسرعة كبيرة على زجاج سيارته، لم تستطع مساحات سيارته على أن تزيل الكم الكبير من حبات المطر… حتى توقفت تمامًا، لم يكن بإمكانه سوى المضي قدمًا في هذا الظلام فهو وحيد تمامًا في مكان لا يعرفه، والمطر الغزير يكاد يغرق سيارته، والأسوأ من ذلك بمساحات معطلة، وبشبح رجل إلى جانبه…
– من أنت يا هذا؟ لكنه لم يجب نظر إلى جانبه ثانية، لم يكن هناك أحد داس على كوابح سيارته. الهزة التي أصابت سيارته، جعلته يتوقف رغمًا عنه، أحس أن هناك قوى تمسك سيارته، تحول بينه وبين فراق هذا المكان البائس، لم يكن هناك أحد، وكانت السيارة تهتز بضوء البرق رآهم كانوا أناسًا مثله، أشكالهم غريبة ،هياكل مكسوة لحمًا كالذي كان للتو إلى جانبه، وتلعب معه لعبة الغميضة، كلما أضاء البرق ظهروا وهم يهزون السيارة كدمية، وكلما مضى في الظلام باتت القوى الخفية من تحرك حياته؛ لم يعد يقوى على الصراخ حتى في نفسه، وكل شيء حوله يتخبط في المجهول وأقنعته، تمنى لو ينتهي كل شيء حوله، فكر: ما الذي تريده هذه الأرواح المسكونة؟ ما الذي يملكه ويريدونه ليس معه شيء سوى القلادة، ولم هو خائف عليها؟ فلتحترق أخرجها من جيب بنطلونه الجينز الذي يرتديه… حركها بكل ثقته، إنها لحظته ليختبر المنظر حوله… ظل الخوف المخيم عليه، لحظات وساد السكون توقف المجانيين واقتربوا أكثر من الزجاج باتوا أكثر دموية، ظن أن الزجاج يفصله عنهم، نسي أن واحدًا منهم جالس بقربه… استمر بتحريك القلادة بحركة لا إرداية منه، وكأنه تمثال من ملح…يخنقونه بتكاثرهم فوقه كبيوض العنكبوت… لم يكن لفعل غير الذي فكر فيه، الحبل الرقيق الذي ربما ينقذه، وربما يقتله…لكنه سيحاول إن كان هذا ما تريدونه، فخذوه…
استجمع قوته ليضرب بها زجاج السيارة أمامه…
الزجاج المطحون أمامه…وغسل المطر المنهمر والقلادة الملعونة والأشباح التي تتخلل جسده يمنة ويسرى وقد ألهبوا مفاصله وتنسل في هذه الفوضى الخانقة ، كان انفجارًا عنيفًا الذي أمطرته السماء.
حين انقشغت الغيوم بدت المسافات الواسعة مليئة بالربيع والهدوء والحياة…قيل: أن امرأة قد أصبحت من أثرياء العالم…
لقد كانت الوريث الشرعي الوحيد لرجل الأعمال…
يقال: أن ابنه قد اختفى بظروف غامضة دون أن يكون له زوجة أو ولد.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى