ط
مسابقة القصة القصيرة

قصية : أمومة وميلاد .. مسابقة القصة القصيرة بقلم / عبد العزيز مرسي على مرسى . مصر

عبد العزيز مرسي على مرسى
جمهورية مصر العربية
محافظة البحيرة – مركز ايتاى البارود

( أمومة وميلاد )
الليل متدثر برداءٍ أسود يمضى صامتًا , ساهى الوجه , بارد النظرات , عفى البرودة , كأنه النصل الحاد , يسوده سكون عميق لا يُسمع له ركزًا ولا همسًا . انتبه إبراهيم من نومه فزعًا , فانتبهت زوجته هى الأخرى , فقالت له فى لهفةٍ : ما يقلقك يا إبراهيم ؟ فأخبرها بأنه قلق للغاية , قلقًا , طرد بقايا النوم من عينه , فألهب مرقده , وأحرق ما بين جفنيه , بسبب البقرة التى لا يملكون سواها , قد استوى جنينها على سوقه , ونضجت ثمرته , وحان وقت قاطفه هذا الشهر . وقد سمعت خوارها منذ قليل كأنها تستغيث بى . فدس قدميه فى نعليه بسرعة , وذهب إليها , عساها أن تكون الليلة الموعودة .
فحدث ما توقعه بالفعل , فوجد البقرة تعانى آلام مخاضها , فنادى بأعلى صوته على زوجته , فأدلجت إليه مسرعةً لا تلوى على شىء , وهَمَّ بإخراج الجنين من بطن أمه شيئًا فشيئًا , فكانت المفاجأة التى لم تكن فى الحسبان , لمخالفة العادة , حيث خرج الجنين بقدميه الخلفيتين , وهذا إرهاصًا إلى احتمالات عدة : فإما أن يموت الجنين , وإما أن تموت أمه , وإما أن يموتا معًا , هكذا تسبق النذر قبل حلول الخطوب .
علم ذلك لخبره الدنيا , وإمساكه بباطن أسرارها , بقوة بصيرته , ونقاء سريرته , فانتابه هَمٌ وغم شديدين , ولكنه كان رابط الجأش لإنقاذ ما يمكن انقاذه , فشمر عن ساعديه , وأخذ يجذب الجنين بيديه بكل قوة , ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلًا. فمدت إليه زوجته يد العون , ولكنها رجعت كاسفة البال , وتأزمت الأمور , وبلغ خوار البقرة عنان السماء من شدة آلامها , مستنجدةً بصاحبها , فكان أشد إيلامًا منها . ولم يجد فى الأرض مَصعدًا , ولا فى الأرض مَقعدًا , وبدأ يتفصد العرق من جبينه ممزوجًا بالخوف , والقلق , والارتجاف , مشاعر متضاربة تضم القلوب .
وكاد الخرق يتسع على الراقع , وغاض الأمل , ونفد صبره كحبات الرمال من بين الأصابع , فأراد أن ينهى التردد ويذبح الشك , فقال لزوجته وهو يرغى ويزبد : أُبرُقى بسرعة إلى جارنا مروان ليمد إلينا يد العون والمدد , فولت وجهها إليه مسرعةً , وطرقت الباب على عجل , فانتهب الرجل فى التو واللحظة مشدوهًا , فاستغاثت به , فهب الرجل لنجدة جاره الملهوف , فوجده يكابد ويحاول ويعافر بكل ما أوتى لإخراج الجنين من بطن أمه , فشاركه مروان مكابدته , فإذا بالبقرة تسقط على الأرض لا تحرك ساكنا , كحجر هوى من على ربوة شاهقة , فشاهت الوجوه , فجثيا على ركبتيهما لإخراج الجنين من بطن أمه الطريحة , فظفرا به بعد جهدٍ جاهد .
وبعد أن اطمأن إبراهيم على الوليد , ذهب متحسسًا بقرته ليرى ما أصابها من خطوب جسام , فطفق يمرر يده على خيشومها ليستشعر حفيف أنفاسها , فلم يشعر بشيء , فاستقر فى خلده أنها فراقت الحياة مثخنةً بجراحها , فأخذ يقلب كفيه على ما أنفق فيها , وأصابت نفسه جبالًا من الهموم كقطع الليل المظلم , وأجهش بالبكاء من الدموع حبالًا , وأرخى الحزن أستاره على المكان . فأمسك مروان بيد صاحبه مشجعًا إياه هامسًا بصوت غلافه الحزن والتأثر , قائلًا له : تجلد يا إبراهيم هذا قضاء الله , كفكف الدمع يا أخى فأمر الله نافذ . فكانت هذه الكلمات بلسمًا لجراح قلب إبراهيم الكسير المكظوم .
وفى خضم هذه المشاعر الحزينة المتلاطمة تلاطم الأمواج العواتى , تناسىَ الجميع أمر المولود فلم ينتبهوا إليه , فأراد هو أن يلفت انتباههم , أو أنه شعر بفطرته أنه فقد أعز وأغلى ما يملك , فأراد أن يستعلم بقرون استشعاره هذا المُصاب الجلل , وأخذ يخطو أولى خطواته فى مسرح الحياة , وأرجله تتساقط للوقوع , كالذي يتخبطه الشيطان من المس . فانكشفت عن أعينهم أغشية الغفلة , واتسعت إعجابًا وتعجبًا , وعندما وصل الوليد إلى رأس أمه أخذ يلعقها بلسانه , كأنه يقول لها : انهضِ يا أمى من أجلى .
فساد سكونٌ عميق , وحارت فى العيون نظرة قلقٍ وخوفٍ ورجاءٍ , وإذا بالعانية الإلهية تنشر رداء الرحمة رأفةً بهذا الوليد المسكين , فدبت الحياة فى أوصال أمه من جديد, وبدأ يُسمع لأنفاسها حفيف , وشمخت برأسها من على الأرض , فوجدت وليدها فى وجهها فأخذت تلعقه بلسانها حبًا وحنانًا , فبادلها هو الآخر اللعق , وأخذ يضرب رأسه برأسها فرحًا , وبشرًا , وسرورًا , ولسان حاله يقول : أخيرًا عدتى إلىّ يا أمى .
حينها هلل الجميع وكبروا , وكان ذلك تزامنًا مع مخايل فجر يوم جديد تسبق انبلاج النور الوهاج , وأخذت المآذن المشرعة السامقة , يعلوا صوتها بصوت الحق يسطح فى الرُبا , شذىً وعطرًا فواحًا يلف المكان , فاهتزت مشاعرهم , واستيقظت قلوبهم , عاليةً خفاقة فى سماءات الإيمان .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى