ط
مسابقة القصة القصيرة

آهات دفينة..مسابقة القصة القصيرة بقلم / :أحلام كنيسي من تونس

الاسم:أحلام كنيسي
البلد:تونس
قصة قصيرة

آهات دفينة

منذ نما ادراكي بما حولي وجدتني في بيت صغير يضمني مع أمي وأختي،لا أعرف أبي ولا توجد له أي صورة لدينا،وكلما تضايقت من همز ولمز الأصدقاء بالمدرسة ،هممت غاضبا اليها لأسألها عنه ،تصمت ولا تجيب ،لا عائل لدينا غيرها ،أجهل عملها ،ولا أعلم من أين تأتي بالمال ،في وضح النهار تكون كالملاك الطاهر ،ترفل بثوبها الفضفاض ،نجلس بجانبها تحضننا ،تحدثنا عن الأخلاق وعن الحلال والحرام ،ولكن حين يجن الليل تتغير حتى لا نكاد نعرفها ،تخفي ملامحها وراء المساحيق وترتدي ثوبا يظهر مفاتن جسدها ،توصيني بأختي وترحل ،أحتضنها وأهدهد شعرها فتستسلم لنوم عميق ،أما أنا فتهجرني الغفوة فأنتظر عودتها على أحر من الجمر ،تغزوني الوساوس ،فألهث وراء مفاتيح الكلمات لأفكها ،كلما غصت فيها أرتمي في جحيم ملتهب ،وأقف على ماهية وجودي وامتداد جذوري ،فأغرق في بحر دموعي وأنا أردد بصوت خافت مخنوق”ماذا لو ولدت على الرصيف نتيجة ثمرة محرمة ومن أب مجهول ؟”يرتخي فجأة الحبل الخانق الملفوف على رقبتي عند سماع صرير الباب ،قد عادت متسللة مع خيوط الفجر ،بصورة غير واضحة وبملامح كئيبة،تسرع الى الحمام فيتغلب بكاؤها على صوت الماء المنسكب عليها،أضع يدي على أذني كي لا أسمعها.
أصبحت رجلا راشدا وبت أعلم تقريبا عملها المخجل حد الموت ،طلبت منها أن تمكث بالبيت وسأتكفل بكامل المصاريف ،رفضت وهي تسخر مني وراحت تعد لي “هل بامكانك أن تدفع الكراء ،وتوفر لنا أكلنا ولباسنا وتسدد الفواتير ومصاريف دراسة أختك” شعرت بدوار ووجدتني أقف أمام جدار عال دون أبواب للأمل، فتغيرت طباعي وأصبحت أكثر عصبية ،أصرخ في وجهها كلما حدثتني ،وما عدت أطيق البقاء في البيت ،طوال النهار أتسكع ،وفي الليل أختبأ بأي مكان وأنام ،تعرفت في رحلة ضياعي على مجموعة من أصحاب السوء ،طلبوا مني العمل معهم ،اقتنعت حين رأيت المال ،وفكرت بأني قد أنقذ أمي وأختي من الانهيار،أتقنت العمل والتمويه والهروب بسرعة البرق عند سماعي بدورية تفتيش ،بت أتنقل من مكان لآخر أبيع لأولاد الاثرياء حبوب مخدرة ،كنت أسعد حين أبيعهم ،يسكنون قصور ويمتلكون سيارات فارهة ولكنهم مدمنون ، أتسأل في حيرة ماذا ينقصهم ؟..جمعت بعض المال وقررت العودة ،لم يكن في جيبي غير حبتين يجب التخلص منهما ،لن أدخل بهما بيتنا،دون تفكير وضعتهما في فمي وبلعتهما،ما شعرت بذاتي وأغمي علي ،هكذا أصبحت أروج وأستهلك ،ضاع عقلي وما عدت أذكر اسمي أو عنواني ،بت كالخفاش لا أظهر الا ليلا في الفجوات الحالكة السواد الممتلئة بالكلاب الشاردة .
ما عدت أدرك كم من الوقت مضى وأنا غائب عن البيت هل هي شهور أو أعوام ،وفي ليلة كنت أحتسي شرابا مع الأصدقاء ،وشوش لي أحدهم بأن أذهب معه لمكان آخر أكثر متعة ،رن الجرس فتحت فتاة استقبلتنا بضحكة تكاد تصم أذني ،كان هناك الكثيرات يحوم حولهم أشباه الرجال ،كدت أختنق ومرت أمام عيني صور أمي ،شعرت بسكاكين تطعنني في كل اتجاه،هممت بالرحيل ،استوقفني صديقي وهمس “هناك فتاة جديدة سأتنازل عليها اليك”وأشار الى الغرفة ،دفعني وهو يقهقه”انها بانتظارك” ..ولجت الباب وأنفاسي تتقطع وقلبي يكاد يتوقف ،كانت ممدة على السرير ،ارتميت على كرسي ألملم نفسي ،أخرجت المال الذي بحوزتي وأنا أفكر بأن أعطيها اياه ،ربما لديها ابن جائع أو أم مريضة أو لا أهل لها وأجبرت على هذا الطريق ،وجدتني أبحث لها عن أسباب ،لكنها ظلت واجمة لا تتحرك ،قلت “ربما نامت أو محرجة” اقتربت منها ألقيت التحية لم تجب ،كانت خصلات شعرها تغطي ملامح وجهها ،أردت أن أبعدها كي أراها وأوقظها ،لمحت ورقة بين يديها ،التقطتها وأنا أرتعش ،كتبت “أرجو أن تبحث عن أخي وتخبره بأني نقية ولم أدنس ،أخبره أن يدفنني بمكان طاهر وهذا اسمه بالكامل …” سقطت الورقة وأنا أحاول أن أستسيغ الكلمات ،بدأت أصرخ وأصرخ وألطم وجهي ،احتضنتها هززتها لا حياة فيها ..قال الطبيب كمية السم التي تناولتها كانت كافية بقتلها في ثواني …كل يوم أزور قبرها لأبكيها علني أكفر عن سيئاتي وعن ذنبي باهمالها ..أما أمي فانقطعت أخبارها بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى