ط
مسابقة القصة القصيرة

البقع السوداء .. مسابقة القصة القصيرة بقلم / حسنين خزعل نعمة من العراق

حسنين خزعل نعمة
[email protected]
22 سنة
العراق – بغداد
قصة قصيرة بعنوان ” البقع السوداء ”

كنا نسير أنا وأبي على رصيفٍ في شارعٍ تم ترميمه مؤخراً ,فقد كان نظيفٌ جداً مصحوباً بغروبٍ جميلٍ , فالعاملُ يعود من عمله و العاشق ينتظر حبيبته والناس تتجول في الأسواق , كانت أرضيةُ الرصيف ذات بقعٍ سوداء وأخرى بيضاء .. لطالما أحببت اللون الأبيض فكنت أتجنب السير على البقعِ السوداء واقفِزُ من بقعةٍ بيضاءٍ لأخرى.
في هذه الأثناء , قال لي أبي” أنا لإنسان بِلا هدف لا يستطيع العيش في هذه الحياة , فالحياة لا تحتاج لأُناسٍ لا يحملون أهدافاً وبالمقابل هي تأخذ منا الذين أتمموا أهدافهم بإخلاص”وهنا صادفتنا أرضية كبيرة ذات بقعٍ سوداءٍ كثيرة ويليها بمسافةٍ بعيدة البقع البيضاء , فقال أبي” وأحيانا يجب عليك إن تجتاز طرقاً لا تحبها للوصول إلى هدفك أو قد تجبرك الظروف على السير في طرقٍ لا ترغب بها للوصول لهدفك ”
وبعد أربعة سنوات مات أبي بحربٍ دامت لثمانِ سنوات وأيُّ حرب هذه التي تستمر كلُ تلك الفترة .. بعد انتهاء تلك الحرب فشلت لثلاثِ سنواتٍ متتاليه في نفس المرحلة الدراسية .. فأجبرني الطريق للذهابِ بعيداً نحو التجنيد الإلزامي حيث كانت هذه المرحلة غير مستقرة في حياتي وكان لي وقتها حبيبةً تنتظر عودتي كل أسبوعٍأ وأسبوعين, وبعد سنين من الخدمة دارت حربٌ ثانية .. نعم كنت جندياً بلا هدف و بالرغم من ان الغلبة كانت لنا في البداية ولكن سرعان ما انقلبت علينا .. شعرت بخوفٍ شديدٍ بأن الحرب ستأخذني بعيداً الى الموت الذي لا مفرَ منه فتذكرت كلامَأبي بان الحياة لا تحتاج الى أشخاصاً مثلي .
كان مقر وحدتنا العسكرية قريبٌ من مواقعِ المواجهات وكانت الطائرات تحوم فوقنا , وحدث إن حصل تبادلُ أطلاقاتٍ ناريةٍ فأصبحتُ حينها أرتعش من الخوف , ذلك الخوف من رصاصةٍ قد تتوغلُ في هذا الجسدُ البدين فكنت دائما أُغمضُ عينيَّ من شدةِ الخوف ومن صوتِ تلك الطلقات النارية .. كم تمنيتُ أن أقومَ بتغييرِ تلك النغمة الى صوتِ لحن عذبٍ , كم تمنيتُ أن تكون هذه المواجهة هي منافسةٌ لأفضلِ ناي كم تمنيتُ أن يحملوا العودَ بدل أحزمةِ السلاح , لكني أفقت من شرود أفكاري على صوتِ طائرةٍ قريبة فقمت بتغيير مكاني متوجهاً لمكانٍ كنت أظنه أكثرأماناً .. وإذا بهذا الصوت يقترب أكثر ويليه صوتُ إطلاقِ قنابلٌ متوجهةً نحونا .. أحسست فجأةً بصفيرٍ قويٍ في أذني وبدأتْ ملامحُ الصورة تختفي من أمامي ..وكان أخر شي أتذكره هو غيوم السماء البيضاء .
استيقظت من غيبوبتي .. ورأيت السواد , كل شي من حولي اسود فلقد أخذت مني الحرب بصري ولم تأخذ روحي .. لم اعرف نعمة البصر تلك إلا بعد زوالها وعلمتُ وقتها معنى السواد .. معنى ألّا ترى من تحب .. معنى أن يصبح طريقك فقط اسود ولا يوجد به إي قطعة بياض .. وما أزعجني أكثر .. معنى ألا ترى نفسك مرة أخرى وتشعر بإحساس الوحدة إحساس الاشتياق إلى نفسك .. إحساس ألا ترى الناس بعينك بل بإذنك .. بان تسمع وتتخيل منظر ما يقولون وأشكال من يلقون السلام عليك وما نقل إليّ من خبرِ خطوبة حبيبتي السابقة .. أربع سنوات من العزلة في السواد كانت قد صنعت مني إنسانأخر .
وبعد تلك العزلة , فقد اجتزت المرحلة التي فشلت بها عدة مرات ودخلت معهد الفنون الموسيقية .. وأحببت من جديد أحببت تلك الألحان الجميلة .. وسلكت طرق جديدة وهي طرق الأوتار .. وصرت أرى نفسي مجددا في نفوس الذين يستمعون إلى عزفي .. بعد خمس سنوات أخرى من حياتي في المعهد كنت قد تخرجت من المعهد مع امتياز بمرتبة الشرف .. في تلك اللحظة أحسست بان لنفسي قيمة وأحسست لولا فقداني لبصري لَبقيت ذاك الإنسان الفاشل الخائف من الموت بلا هدف ولكن فقدان البصر هو نعمة بالنسبة لي فأحيانا نفقد أشياءاً ثمينة كنا مرتبطين بها لنكون أحراراً من جديد لفعل أشياءأهم مرة أخرى .
واصلت العزف طول سنوات حياتي وقد سافرت دول كثيرة كنت احلم بها في طفولتي ووجدت إن من أحبني بوضعي هذا هو من أحب لحني وأحب دمي .. فتزوجت والان أرى أحفادي أمامي واخبرهم بان الحياة هي طريق مكون من بقع سوداء وأخرى بيضاء كما قال ليأبي ذات مره .. وبالفعل نستطيع البقاء في طريق البقع البيضاء ولكن لن نحس أبداً بطعم الحياة ولذة العيش مالم نجرب تلك البقع السوداء ولو قليلاً .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى