ط
مسابقة القصة القصيرة

الزمن الميت/مسابقة القصة القصيرة بقلم / جمال بوثلجة من الجزائر

الزمن الميت/بقلم جمال بوثلجة
مسابقة القصة القصيرة بقلم / جلال بوثلجة من الجزائر

” لطالما شدتني تلك الأغاني البسيطة المفعمة بذلك الأسى القاتم .. لقد كانت نبضات قلبي تتزايد و أنا أستمع لنبراتها الخفيضة ، و كأن يداً سحرية تعزف على أوتار قلبي اللهفى ، فيرسل آهات أليمة ..
لقد كنت أتسقّط أخبارها ، و أتبع خطواتها عبر القرى المتناثرة .. و لطالما وقفت و رحت أصفق بحرارة غير مكترث لعشرات الأزواج من العيون التي كانت تتلقفني بدهشة ، و ما يكاد صوتها الدافئ ينبعث حتى ينطفئ كل شيء من حولي ، و لا يبقى سوى صوت الناي المسترسل بتموجاته ، و صوتها المستنفر لعواطفي الجياشة.
آه يا صديقي لو تعرف مدى شوقي إليها و لهفتي عليها .. إنني أجهد نفسي للوصول إليها دون جدوى .. و في كل مرة أعود إلى غرفتي ، و أرتمي على فراشي ، و أجهش بالبكاء .. صورة صاحب الناي و هو يمزقها بنظراته المتعفنة ، المملوءة بأهازيج العربدة .. و حركات صاحب الدف و هو يدور حولها ، محاولا إبهارها بحركاته البهلوانية .. ثم هذا الطابور البشري ، الذي تحاصرني فيه الأجساد و تحاصرها فيه النظرات البشعة .. كنت أسمع إلى التنهدات و الحسرات ، و تجتاحني عاصفة الغضب .. و لكنني لا أجد غير البكاء .. هل تعرف معني البكاء .. هو أن تقدم نفسك للآخرين كما يشتهون “.
) عيسى 10 سبتمبر (
” في الصباح أجد رأسي مليئا بالأفكار و المشاريع ، و لكنني ما ألبث أن أجد نفسي على الرصيف ، أين أقضي أوقاتي .. أتناول طعامي بالصدفة ، و أتخيل أشياء عديدة بلا جديد !
أتيه بين مسالك الذكريات العارية ، و أستجيب لنزواتي بلا تحفظ و عندما يعوم الظلام على بركة السماء ، أعود إلى غرفتي و استلقي على السرير .. دون أن احتاج إلى إشعال النور أو نزع الثياب .. أحلم كثيرا بالسفر .. و بفتاة تحبني .. و بوجه مشرق للسماء ..
لم انته بعد من رسم لوحتي .. أحس بأن لا قدرة لي على إتمامها .. لا تكترث لكثرة الخصوم يا صديقي ، و لا تستسلم للدموع “.
) سبيل 22 سبتمبر (
” إنك تجهد نفسك ، و تعصر فكرك محاولا أن تفهمني ، و لكنك إلى حد الآن لم تفهمني بالقدر الذي أشتهيه.. أنا فقط أريد أن أقتحم هذه الأسوار .. أن أجلس إليها .. أن أنقل إلى مسامعها عبر كلماتي صورتها القائمة في نفسي .. أقول لها بأن صوتها الرنان يسحرني ، و أن عينيها الواسعتين يذيبني وهجهما ، و أنني دائم الترحال عبر نغماتها ، ثم أطلب منها أن تغني لي وحدي ، دون أن يشاركني
أحد حتي الناي و الدف ، أريد صوتها فقط ، و أريد إحساسي ، بأنها تغني ل / عيسى / وحده .. حاول أن تفهمني عن طريق الألوان ، فان لنا لغة مشتركة .. أكتب لك هذه الرسالة على عجل ، فأنا الآن مسافر إليها فالقرية بعيدة ، و لقد بدأت الاستعداد منذ عرفت أنها تسافر دوما و بلا إنذار” .
) عيسى 30 سبتمبر (
” أعذرني يا صديقي عن هذا التأخير في الكتابة إليك ، و لكن .. الأحداث التي وقعت مؤخرا ، جعلتني أنشغل عن الكتابة .. فمند أيام مضت ، استيقطت مفزوعا على هدير صاخب ، و صرخات حادة و صوت الأحذية، و هي تقرع بثقلها على البلاط الإسمنتي للشارع، و عندما سحبت ستار النافدة فوجئت بتكتلات بشرية متراصة تزاحم الطريق، تزحف في اتجاه واحد ، بعض الأيدي مرفوعة إلى الأعلى تحمل لافتات .. ارتديت ثيابي على عجل ، و نزلت مسرعا للشارع ، لأضيع وسط الزحام الذي لم أشهد له مثيلا من قبل ، و انتبهت فجأة إلى رجال الشرطة ، و هم ينتشرون في محاولة لمحاصرة هذا الزخم البشري .. كانت الأحداث تجري بسرعة مذهلة رجال مقنعون يلتقطون الحجارة و يبدأون في تحطيم كل ما صادفهم يفتحون خزانات البنزين ، و يشعلون النار في السيارات ، كنت أرى و لا أصدق ما أرى ، ظننت أنها مجرد خزعبلات الخيال ، فيضان الأسى القاتم المترسب بداخلي .. هي اللوحة ، و الألوان
الصامتة في حجرتي .. و أفرك عيني .. ثم أصرخ .. إنها حقيقة تجري أحداثها أمامي .. و فجأة انفجر وابل من الرصاص و دوت عاصفة من النار .. و رأيت الأجساد تتلوى ثم تسقط و تحولت في لحظة صور الغضب ، إلى أنين مرير ، بعد أن تكدست الأجساد على بعضها البعض .. ساق مهشمة لرجل مسن .. و وجه مثقوب بالرصاص لطفل بريء ، و شاهدت أحد الرجال فاغرا فاه ، و قد انحدرت منه خيوطا رقيقة من الدم ، و رأيت شعر احدهم ملطخا بالدم ، بعد أن اخترقت رصاصة رأسه و تهاوت اللافتات التي تحمل الشعارات المختلفة ..
اندفع المصوّرون باتجاه الجثث الملقاة في غير نظام .. رأيت أحدهم يعدو باتجاهي .. أمسكني من ذراعي ، و دفع ناقل الصوت باتجاهي و أعطى إشارة لصاحبه المحمل بالكاميرا و اندفع سيل الأسئلة يخرب أذني .. غطيت وجهي بمعطفي و قلت له بنفور، و أنا أحاول التخلص منه :
ــ أعذرني إنني لا أفهم ما تقول .
و أضحك الآن .. لأنني كلمته بلغته ، و تذكرت قصة صاحبنا الذي ذهب إلى انجلترا ، و اتجه نحو الشرطي ، ليسأله عن أحد العناوين ، فقال له :
ــ عفوا .. هل تتكلم الإنجليزية ! !
أروي لك هذا لأنني أعلم بأنك لم تقرأ الجرائد ، فأنت دائم السفر ”
) سبيل 18 أكتوبر (
” لم أعد أحتمل يا صديقي .. لم أعد أحتمل هذه اللعبة القذرة .. طواحين الهواء تسحقني .. في كل مرة أعقد العزم للوصول إليها .. أن أقتحم هذه الأسوار .. و أن أستجيب لندائها الظامئ و في كل مرة لا أجد غير التصفيق بحرارة معبرا لها عن أسمى معاني الانكسار ..
تمنيت يا صديقي لو كنت معهم .. لو وجدتني كتلة مرمية في الطريق مع أولئك الذين حدثتّني عنهم .. كل واحد يموت من أجل قضية و عند الناس نبقى قضية واحدة .
لم يعد يخيفني الموت ، لقد تعودت عليه .. تعودت أن أموت في صوتها الدافئ .. و في نداء الناي .. و لهفة الدف .. و حرقة الآهات .. ليتني أجرؤ ذات يوم على تصويب رصاصة إلى رأسي لأهشمه و تتبعثر الأفكار” .
) عيسى 26 أكتوبر (
” الشوارع بلا وجوه و لا ذاكرة .. القبعات الزرقاء .. البزات الخضراء .. القنابل المسيلة للدموع بطاقات التعريف .. التفتيش .. حظر التجول .. و في كل لحظة يترقبك كل شيء .. الموت .. الاختطاف .. الاستجوابات ازداد عدد الموقوفين ، و المتهمين بالسكوت عن قضية أو الدفاع عن قضية .. بالأمس كنت أسير بمحاذاة الجدار ، عندما أوقفني أحدهم .
ــ بطاقتك !
ــ ….
ــ إلى أين أنت ذاهب !؟
ــ ….
ـ ممنوع العبور من هذا الاتجاه !!
و قضيت نصف يوم أبحث عن معبر لاتجاهي .. و لكن كل الاتجاهات أعدمت فعدت إلى غرفتي .. لم أدر كم مر علي من الوقت و أنا مستلق على فراشي في الظلام ، و لما احسست بشيء ما ينمو بداخلي .. أشعلت المصباح الكهربائي ، و بدأت أرسم تكالبت الأفكار في رأسي ، و بدأت الخطوط تظهر على اللوحة .. و بعد ساعات من العمل ، تشكلت الصورة ، كانت عبارة عن رجل كبير مصنوعة من الإسمنت المسلح ، تدوس على إحدى اللافتات الملقاة بجانب جثة ملطخة بالدماء ، كتب عليها بالخط
العريض « نعم للديمقراطية » تأملت الصورة جيدا ، ثم وجدت يدي تمتد لتضع عليها خطان متعاكسان ، ثم رميتها بعيدا ..
لم أدر كم استغرقت في اللوحة الثانية ، و بعد مدة ظهرت صورة مركبة من عدة أجسام ضعاف فوق بعضها البعض ، و في الأعلى رجل برأس صغير و جسم منتفخ ، و هو يأكل شيئا ما .. و لكنني و في الأخير ألقيت بها جانبا ، و عندما أحسست بالوهن من جراء تتابع الصور ، رميت بأدواتي جانبا ، و عدت للاستلقاء .. و فجأة ومضت في ذهني فكرة لم أدر مصدرها .. نهضت على عجل و رحت أنقب في درج مكتبي عن رسائلك ، ثم انكفأت أطالعها في لهفة ، و لما انتهيت من قراءتها ابتسمت لفكرة عنت لي ، و أمسكت بالريشة و بدأت أرسم “.
) سبيل 03 نوفمبر (
” لقد قررت أخيرا أن أتراجع عن قراري ، حين أدركت مدى جبني لوضع حد لأفكاري ،و لكنني سأبعثرها بطريقة أخرى ..
مند أيام و أنا أخرج كل يوم بندقيتي و أعيد تنظيفها .. سأتخلص منها في المحطة القادمة .. لن أصارع بعد اليوم طواحين الهواء سأنهي هذه المهزلة بطلقة واحدة ..
لقد فرحت لأنك بدأت في رسم لوحتك .. يؤسفني أنني لن أراها و ربما لن أكتب لك بعد اليوم “.
) عيسى 18 نوفمبر (
” الموت لا يخيفنا ياصديقي ، و لكن .. الطريقة التي نموت بها .. لست أدري إن كانت رسالتي هذه تصلك قبل أن تنفذ ما عقدت العزم عليه ، و لكنني أقول لك بأنها لن تموت أبدا لقد فات الأوان .. أقسم لك بأنها لن تموت .. أعرف أنك لن تصدقني و لك الحق في ذلك .. أرجوك لا تحاول.”
( سبيل 25 نوفمبر
” لما طال انتظاري لرسالتك قررت أن اكتب لك على جناح السرعة لأستطلع الأسباب ، لقد ساورتني المخاوف ، و لعبت بي رياح الظنون أتوسل إليك أن ترد على رسالتي هذه في اقرب وقت ممكن .”
) سبيل06 ديسمبر)
” فعلا ياصديقي ، أنت على حق إنها لم تمت ..
كنت قد أخفيت البندقية تحت جلبابي ، و زاحمت التكتلات البشرية و لم يعد بيني و بينها سوي مساحة ضيقة ..
با لله يا فرخ الحمام
و منك صايدني غرام
كان صوتها ينطلق ليزرع في الجموع الأهازيج و الآهات ..أحسست بالدموع تغزوني ، و بتشنجاتي تعلو .. أخرجت البندقية ، صوبتها باتجاهها .. جحظت عيناها أمام هول ما رأت انطفأت الأنوار فجأة و عم الهرج .. و رغم هذا ضغطّت على الزناد ، و اختلط دوي الطلقة بالصرخات الحادة و العويل و النواح .. أسرعت للخروج من الحلقة ، و رحت أعدو متعثرا في أخاديد الأرض..
تناهى إلى سمعي نباح الكلاب ، و صياح متعال.. أنفاسي تكاد تنقطع لم أعد أقوى على الجري فرحت أمشي بتثاقل ، بينما أنا كذلك أحسست بيد تمسكني بقوة من ذراعي ، ثم بحرارة تنبعث من مؤخرة رأسي .. و تناهى إلى سمعي صوتها الدافئ و أنا أهوي على الأرض..
بالله يا فرخ الحمام
و منك صايدني الغرام
و لما استيقظت لم أر شيئا ، و كان الظلام يسيطر على كل شيء ..
نهضت من مكاني و رحت أتحسس ما حولي ..جدار..جدار..باب..قضبان و حينها عرفت أنني داخل زنزانة.
و في الأخير لم يبق سوى نشيجي المتعالي يسبح على بركة الصمت و الآن يا صديقي أسألك : كيف عرفت بأنها لن تموت ؟ !
(عيسى 16 ديسمبر)
« ..
صديقي الوفي..
أسفت كثيرا لحالك ، و رثيت لك، و لكنني لست بأحسن حال منك ..لقد قضيت أكثر من شهر في رسم اللوحة ، و لما أفقت ذات يوم من غيبوبتي اندهشت لمرآها ..وجدت نفسي أمام امرأة جميلة ..بعينيها الواسعتين ، و وجهها المستدير، و فمها المكور و أنفها المستقيم، و هي تقف أمام ناقل الصوت، و رجل هزيل الجسم، غارق في الذهول ، جاث على ركبتيه أمام قدميها متضرعا في خشوع و قد
غمرهما شلال النور..أما الآخرين فقد كانوا يتماوجون في الظلام ..صاحب الناي ..و الدف..و طوابير البشر..
لم أصدق ما رأيت ..حملت اللوحة و رحت أعدو بها في الشارع..أمسك بالمارة ، و أريهم اللوحة، و هم نافرون هاربون مني..لم أفهم..رأيت نظراتهم تنغرس في جسدي ثم تولي مدبرة، كأن بها مس جنوني، نظراتي المتوسّلة لم تجد شيئا أمام الاشمئزاز الذي كانت تتقيؤه عيونهم ..أحسست بلسعة من البرد تلفح جسدي..انتبهت لنفسي فإذا بي عار تماما، و تذكرت حينها أنني و عندما أبدأ في الرسم أنزع جميع ثيابي و قبل أن أخف خطى العودة، وجدت نفسي محاصرا بشرطيين .. حاولت أن أفهمهما دون جدوى رموني في سيارة ما لبثت أن أطلقت العنان لصفيرها المرعب.. الأحداث لا تجري ببطء الألوان و لكنها تخضع دائما لسرعة الزمن .. أدخلوني وسط مئزر أبيض، و عاملوني بلطف .. تجرعت يا صديقي جميع أنواع الأدوية، و تعرض جسدي لكل أنواع التعذيب و في الأخير وجدت نفسي هادئا داخل غرفة .. و أمام إلحاحي الشديد أحضروا لي اللوحة التي علقتها في الجهة المقابلة للسرير ، التف حولي جمع من المآزر البيضاء، و رحت أبكي و أغني و عيناي مسمرتان في اللوحة.
بالله يا فرخ الحمام
و منك صايدني غرام
يصفقون .. يضحكون .. يسيرون بلا اتجاه .. ينزعون عن وجوههم الخيوط العنكبوتية .. و يضحكون من الذاكرة، و أنا يا صديقي لا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا.
( سبيل 31 ديسمبر )

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى