ط
الشعر والأدب

ثقة ..قصة قصيرة للكاتب / يوسف حسين . مصر

قصة قصيرة
#ثقة
التقيتها عرَضَاً تحت شجرة التوت الساكنة أسفل منزلي، طلبت شربة ماء فأحضرتها في غضون ثوانٍ؛ شربت هي حتى ارتويت أنا، لا أظن أنها حين ذهبت لم تترك شيئا لي ولم تأخذ آخر معها؛ في اليوم التالي، في نفس التوقيت رأيتها أمامي تبتسم وتقول-جرعة ماء أخرى إذا تكرمت-، شربت ثم همت بالذهاب فاستوقفتها متسائلا-هل تتحول الصدفة إلى لقاء- استدارت مبتسمة لي ثم حملتها قدماها كالريح واختفت؛ بالفعل تحولت الصدفة لموعد فآخر، رافقهما ثالث حتى تجاوزنا المئة لقاء، ثم اختفت؛ بحثت عنها في وجوه المارة.. في الأزقة والطرقات، طرقت أبوابًا وترددت على مدنٍ فلم أجد لها أثرًا؛ لجأت للأحلام علني أرى طيفها؛ كنت أبيت كل ليلة مستندا برأسي على جذع الشجرة، أنتظر أن تربت كتفي بيديها الحانتين.. حلما كان أو واقعا، لا يهم ..المهم أن تأتي وتطفئ نار الشوق التي أكلت جدار قلبي، انتظرتها خمسة أعوام وثمانية أيام، لم أفقد الأمل في قدومها -على الرغم من أنني فقدت الكثير من نضارتي، من روحي ومن شموخي، ااااه شموخي؛ فأنا الكائن الذي لم يبك يومًا على فراق أحد؛ بكيتها ورثيت حالي، في اليوم التاسع بعد منتصف الليل اقتلعت أنفي رائحة أعرفها جيدًا، بل تطيب نفسي لها، وجهت بصري للبعيد القادم، رغم أن السواد الحالك كان سيد المكان إلا أن نورًا نادر الظهور سطع في قلبي، أنصت بأذني التي لم تسمع شيئا منذ اختفائها فسمعت وقع أقدام، معقول هي!؛-لا. لا.. ليست هي فخطواتها كانت أخف من خف حنين وتلك الخطوات أظنها لأعرج فخطوة ثقيلة وأخرى لا تكاد تطأ الأرض، نهضت وقلبي يرتجف، الرائحة.. آه هي وإلا لما رقص قلبي فرحًا هكذا؟، ظهرت حين لمحها مصباحي الوحيد-يا إلهي ما هذا بطنها تتدلى أمامها كبالونة منتفخة-، رفعت ذراعها تستنجد بي؛ وقبل أن أفيق من صدمتي سقطت أرضا، هرولت نحوها وحملتها وهممت أن أدخل المنزل لكن عينيها أقسمتا عليّ أن أضعها أسفل الشجرة؛ وضعتها برفق ونظرت إلى وجهها الذي تحول لخرقة بالية تشبعت بالمياه، جاءها المخاض وكنت أنا الرطب الجنية؛ مسحت عنها العرق، لكنني لم أستطع أن أخفف عنها الألم، لازال الذهول يسيطر عليّ، وآلاف الأسئلة تخترق جدار رأسي، لكن شهقاتها وتشبثها بجذع الشجرة ألجمني، وجهت بصري إلى أسفل؛ إلى ذاك النفق المظلم المحفور بين فخذيها رأيت لؤلؤة صغيرة قدر بيض النعامة تطل منه؛ توجست خيفة لوهلة ثم استجمعت قواي وعزمت على إنقاذ تلك الروح البريئة؛ مددت يدي بعد أن سميت الله واستعنت به، سحبتها برفق كما يفعل الطبيب الماهر، صرخت البريئة صرخة أزهرت بستان قلبي، وضعتها فوق جسد أمها وهرولت نحو الداخل، جذبت ملاءة سرير وشفرة حلاقة حادة، ثم عدت إلى هناك، قطعت حبل الخلاص، ويا ليتني ما فعلت؛ لقد أحييت واحدة وقتلت الأخرى، انسلت روح الأم من جسدها قبل أن أعرف سرها، حملت الصغيرة بين ذراعيّ وحدقت في وجهها؛ سبحان من قذف محبتها في قلبي فهي كالدرة السنية تنفي عن القلب كل هم وغم وبلية، دخلت المنزل ووضعت الجنين فوق سريري وعدت أتأمل الفقيدة، رقصت أمام ناظري شياطين الأنس والجان، ورأيت محاكمة قد نصبت وأنا فيها الجاني؛ لقد اشتهرت منذ الصغر بالعابد الزاهد، ما العمل إذن؟؛ والمنافقون يسنون أسنانهم والحاقدون يشهرون سيوف كرههم في وجه سمعتي؟!؛ رأيت شيخًا بجلباب أبيض ولحية كثيفة يحمل فأسا بين يديه ويبتسم، عدوت نحو الداخل وأحضرت فأسا وحفرت قبرا جانب الشجرة ثم غسلت الجثة ودفنتها، نفضت عن يدي التراب وتوجهت نحو الزريبة، سحبت خلفي معزة مات صغيرها منذ أسبوع، كانت رفيقتنا في المنزل.
بعد مرور شهر توجهت إلى المدينة وضممت اسم الصغيرة إلى اسمي، اسميتها “ثقة”، لا أعرف لِم اخترت هذا الاسم؛ كل ما أعرفه أنني بحاجة لتلك الصفة كي أستطيع المضي قدما في هذه الحياة، كل يوم كان يمر عليّ وأنا أرى ثقة تكبر أمام عيني كان قلبي تنبت فيه زهرة جديدة يافعة ناضرة، مر العمر سريعًا وزحف العمران حتى التصق ببيتي وكبرت ثقتي وكثر خطابها، لكنني دائما كنت أرفضهم، لا أعرف هل عشقتها أم أنني أخاف أن أزوجها أخا لها ؟….

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى