ط
مسابقة القصة القصيرة

ثمرة الخطيئة .مسابقة القصة القصيرة بقلم / وهيبة سليمانى من الجزائر

قصة قصيرة:ثمرة الخطيئة لمسابقة همسة للقصة القصيرة 2015
اللقب: سليماني
الاسم: وهيبة
العنوان: 1شارع ولد التركي بن يوسف قصر البخاري، المدية، الجمهورية الجزائرية

[email protected]

ثمرة الخطيئة
مشت تجر وراءها أذيال الأسى والهموم وطعنات الزمن.. فقد تعودت قبل أن تخطو إلى الشارع، تحيط نفسها بأسلاك شائكة تحمي سريرتها المجروحة من فضول الغرباء، تعقد ما بين حاجبيها و تئِد ابتسامتها قبل أن تولد على شفتيها القرمزيتين مهما كانت الأشياء حولها مضحكة.

– لن ابتسم للرجال.. قالتها وهي تشيح بوجهها عنهم حتى لا يقرؤوا قصائد الحزن فيه.
ابتسم لها رجل فبادلته بنظرة جافة خالية من معالم الحياة.. لا أحد يعلم سر هذا الكره للجنس الآخر.. وحدها من تعرف السبب.. وحدها من تتوه بين جدران الصمت وتسير كميّت بين الأجداث..
ظلت تحمل في قلبها مقبرة أسرارها لثمانية عشر سنة.. بالأمس القريب كان لها قلب ينبض حبا لكل من حولها.. توزع ابتسامتها ذات اليمين وذات الشمال وتمشط خصلات شعرها الذهبي بين النسائم وتتلذذ بسماع كلمات الإعجاب والمجاملة.. ولا يكسر أنفها المرفوع فوق شفتيها، استفزازات الحاسدين.
الحزن طيف لا يفارقها ، جعلها كالجسد الهامد البارد فوق التراب.. محتبسة الدموع ميتة أكثر من الأموات.. تحدق دائما في الفراغ وتنظر إلى الأفق وتتخيله يبتسم بثغره الملائكي.. تراه هناك يبكي ويفتح فاه يبحث عن ثديها.
تخيلته في نفسها.. أحست برغبة جامحة في أن تحتويه.
في صدرها جرحٌ عميق ينزف باستمرار.. كل يوم تستنشق ذرات الأسى ثم تطردها بتنهيدة طويلة وتعود إلى تكهناتها المخيفة وتمور في باطنها شتى الأفكار فتُفزع شفتيها الباردتين.. يتدفق الدمع المخزون، يبكى القلب المحتقن بالمآسي والهموم في ابتسامة باردة.
رمت جسدها المثقل بالهموم على المقعد الحجري المقابل للشاطئ الصخري، حيث سلمته مكرهة.. بل انتزع منها كما ينتزع القلب من بين الضلوع.
– تعال إني هنا ممزقة.. أنا هنا أتألم.. أسافر في مهب الدمع كي ألقى ابتسامتي بابتسامتك.
– تعال يا فلذة كبدي أحملك بين ذراعي وأحقنك حنانا طالما اكتنزته لك.. لقد فقدت طعم الحياة بعدك.
ارتشفت السعادة لحظة واستنشقت نسمة هادئة حملتها الأمواج المتلاطمة أمامها.. لامست مخيلتُها عينيه المشرقتين.. شريط حياتها الماضية مرّ في ثوان على وجهها.. كان حلما جميلا انتهى بغلطة!.
هبت واقفة، وهي تنفض الغبار عن مؤخرة معطفها الأسود.. الأسود كظلمة الندم الذي يعذب نفسها المسجونة مذ سلمته نفسها فخذلها.
أحبته بقلبها وجسدها فصارت بقايا شتات، تجاعيد أحلام.. نغمة حزينة بين شفتي الحياة.
حاصرها باهتمامه، وأغدق عليها كلمات الحب المعسولة، فعوّدها أن تتوق لسماعها.. قدّمت له قبلة.. و.. وقدمت الكثير من التنازلات.. وتنازلت عن أغلى شيء لديها.
أدركت أنها مجرد علكة مضغها وامتص حلاوتها ثم بصقها على الأرض!.

ولما تحركت ثمرة الخطيئة في أحشائها.. اختفى، وعاد بعد سنة مجبرا ليأخذه منها ويعوض زوجته العاقر به.
غاص قلبها بين جوانحها لتلك الذكرى، وشهق الصمت بداخلها، وتفجر الألم والأنين.. لقد اكسبها الحزن كل هذا الصمت.
سارت وهي تائهة في حلقتها المفرغة لتخطو خطوة نحو الطريق، أفاقت بعدها من غيبوبتها على سرير المستشفى..
فتحت عينيها، رأته واقفاً على رأسها.. شابّ يتنفس أنفاس الحياة، جميل الشكل والمظهر، أحست أنها لحظة ارتطام قلب بقلب.. أو بصيص من نور أضاء أعماق نفسها بابتسامته وعينيه الواسعتين.. ظل يحدق فيها و قد أمسك يدها بلطف وأحاطها بكفه.
– سامحيني.. حاولت أن انحرف بسيارتي عنك دون جدوى.. كنتِ مندفعة بلا مبالاة تجرّين قدميك على الأرض تحاولين عبثا التغلب عن تعب أو هم أثقل كاهنك على ما كان يبدو.
نسجت خيوط البسمة حول روحها المترددة في حلقها محاولة الخروج .. وملأتها الحياة من جديد:
لا ذنب لك.. كنت غائبة بفكري عن الدنيا.. لقد جعلني القدر ميتة بين الأحياء.
قاطع حديثهما رجل طويل أسمر اشتعل رأسُه شيبا، دخل غرفة الإنعاش في عجلة من أمره، كان يبدو من هندامه ذا مركز مرموق، بنظرة حادة حملق في وجهها دون أن يغوص في تفاصيله والتفت لابنه يسأله عن حالها:
– السلامة والعافية إن شاء الله.. هل صحَت من غيبوبتها؟!.. أعرتكَ سيارتي فارتكبت حماقة.
– الحمد الله يا أبي لقد عادت إلى وعيها..
– آه.. الحمد الله.. كيف الحال الآن يا سيدة؟
قالت “الحمد الله” بنبرة مبحوحة قبل أن تتحجر الكلمات في حلقها وهي مندهشة.. همست في نفسها: رائحة الغدر الكريهة تتدفق عفونتها منه رغم هندامه ومظهره المزيف.. إنه هو.. القذِر!
ضخت من صدرها دفقة هواء وتفاقمت مشاعرها داخلها فاض كدر على وجهها، ثم كزت على أسنانها قبل أن تسأله: ألم تعرفني؟!
ونظر إلى ابنه الذي كان يتطلع للخارج من النافذ ثم عاد بنظره إليها يدقق فيها باستغراب..
عرفها.. هي من كانت تطرق أبواب الضمير داخله من حين إلى آخر.. هي من كانت تترك فيه جزءا من الحقيقة أن تقطنه وتخبره بجبنه وذنبه.
انزلق الدمع من عينيها جدولين، انحبست أنفاسها في صدرها واعتراها بركان داخلي:
آه.. هذا ابنك؟!
حاول أن يتهرب من سؤالها، وتاه في التفكير وأحس فجأة أن أمعاءه تتقطع وهو يحاول التخلص من هوس هذا التفكير.
ظلت أسارير وجهه ساكنة، وهزة رأسه ففهمت اعترافه الضمني.
غصة أليمة في صدرها.. الفرحة برأي ابنها كادت تخرج من عينيها دموعا.. الكلمات راحت تتراكم على شفتيها.. كان بمقدارها أن تقول له أشياء كثيرة.. فكرت فيه قبل أن تفكر في نفسها.
وعضت شفتيها وهي تنظر إلى أبيه خلسة بوجهها الشاحب وعينيها الجامدتين، سرق الحزن نورهما مرة ثانية بعد أن لمعا لثوان، ومنعته بنظرة أبلغ من اللسان أن يكشف له الحقيقة!.
مال عليها وقبّل جبينها كأنه يعترف لها بجميل فهمست في أذنه: أريده فقط أن يعيش سعيدا.
نادته إليها وعانقته حتى كادت ضلوعه تتكسر وقبّلت كفه لتحقنه بحنان طالما حملته في صدرها حتى كاد يفيض من عينيها وقبلته قبلة الوادع الأخير.. توارت في دهاليز نفسها وحزنها كطير يتلاشى في الأفق.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى