ط
مقالات بقلم القراء

جولة حرة.. مقال بقلم الكاتب / عاصم صبحي

جولة حرة

تحايلت علي قلمي بسؤال مباغت فقد استشعرت غيابه لفترة قد طالت ، لم يبدر منه حتي و لو محاولة لجذب انتباهي إلا أني لم أكن لأترك صديقي دون السؤال عن سبب غيابه و عزوفه عني .
ما لك قد تعودت الكسل ؟! أراك قد استحليت الجلوس بلا حراك .. أشيخت أم ماذا ؟!
أري أني قد استفززته فها هو ينهض في شموخ و هم باحضار الورق واضعاً إياه أمامي مبتسما لسان حاله يقول هيا أكتب ، لكن من منا سيفضي بمحتواه .
هنا شعرت أنه يلقي بالكرة في ملعبي ، فأنا إذًا من يقع علي عاتقه البدء ، كلانا نعلم أن سبب الغياب هو كثرة ما يجول بخاطري و خاطره فزحمة الأحداث قد أدت إلي نوع من التخمة فلا أنا قادر علي المبادرة و لا هو بقادر علي المغامرة فهو إذا انطلق قل يا رحمن يا رحيم .
عرضت عليه فكرة لاقت لديه كل استحسان ، قلت له ما رأيك في جولة حرة خارج أجواء الغرفة نكسر بها الروتين و نجدد نشاطنا علي أن نعود إلي طقوسنا ؟!
خرجنا دون أن أطلعه علي وجهتنا و هو لم يسأل لسان حاله يقول وديني مطرح ما توديني .
كانت الوجهة إلي السوق .. نعم السوق ، سوق الخضراوات بالتحديد سوق زنانيري أحد أهم أسواق الاسكندرية بمنطقة كليوباترا ، سوق عريق نسبة إلي عراقة ذلك العب الذي يسمي زنانيري ، فتلك المنطقة لها باع كبير في تاريخ الاسكندرية .
يكتظ السوق بالمحلات العامرة بمختلف أشكال و أنواع و أصناف الأطعمة و مواد الغذاء منها الحديث – المحلات – و منها القديم قدم السوق ذاته ، تري الباعة الجائلين يفترشون الرصيف علي الجانبين كلٌ يعرف حدوده و مكانه الذي يدفع عليه أرضية بالطبع ، يمتاز السوق باختلاف نوعية زبائنه ، فتري جميع فئات و طبقات الشعب ترتاده و تتسوق منه كل احتياجاتها ، بالتالي تتفاوت أسعار السلع ملبية جميع القدرات المالية فالكل مرضي .
إذًا فقد فاجأت صديقي بتلك الجولة ، لم يبد لي اندهاشه بل لاحظت أنه فهم القصد و المراد و السبب الخفي وراء اصطحابي إياه إلي السوق .. وجدته يتطلع في وجوه الناس سواء باعة أو زبائن ، وجدته يتفرس ملامحهم ، ينتبه لردود أفعالهم ، يستمع لأحاديثهم ، وجدته يسجل كل كبيرة و صغيرة باهتمام كأنه كاميرا تسجل صوت و صورة و تمرر ما تلتقطه علي عقله الذي يدرس و يحلل بالتالي يستخرج و يستخلص العبر من تلك الجولة .
أراك قد استمتعت بجولتنا هذه يا صديقي ، هل لنا أن نأتي بالورق الآن ؟!
الناس من كل شكل و لون ، لا أعني لون البشرة بل لون الطبع ، لون المعاملة ، لون القلب ، إذا كنت من مرتادي الأسواق الشعبية سوف يسهل عليك أمر تحديد ألوان الناس حيث قد اكتسبت الخبرة ، خبرة الاحتكاك و التعامل مع صاحب المحل و صبيه ، مع الباعة مفترشي الرصيف سواء من ساكني الاسكندرية أو المقيمون خارجها مثل كفر الدوار و ضواحيها و قراها و هؤلاء أغلبهم نساء صغار و كبار في السن يسعين علي قوت يومهن .
سوف يكون لك بحكم خبرتك هذه صداقات بل دعني أقول ألفة بينك و بين بعض البائعين ممن ميزتهم عن سائر بائعي نفس السلعة ، فهذا قد ألفته احسن سلوكه و أمانته و نظافة أو جودة سلعته ، تراني بدأت بالسلوك و الأمانة !!
كذلك زبائن السوق باختلاف طبقاتهم ، تراهم منهمكون في شراء احتياجاتهم من شتي الأصناف ، منهم من يشتري دون فصال و دون مناهدة و غلبة ، و منهم من يجبرك أنت كمشتري أن تخرج عن شعورك لصالح البائع ، رجال و نساء علي فكرة ، الحمد لله أنا من الصنف الأول دون فصال و دون مناهدة .
تسير الحركة داخل السوق في تناغم و انسيابية لا يعوقها عائق إلا لو شب خلاف هنا أو هناك بين أحد البائعين و بين أحد زبائنه أو بين البائعين بعضهم بعض ، و هذا عامة أمر نادر رغم أن الكل باعة و زبائن خلقه في مناخيره .
الكل مشغول لا أحاديث جانبية لا ابتسامة و لا كلمة ود ، الكل يعلو وجهه الوجوم كأن علي رأسه الطير ، لا تجد صبح يا فلان و لا علان ، اشتري و امشي لا وقت للود و لا الابتسامة حتي كأن الكل عايش و مش عايش ، تشعر و كأن الناس قد سرقت منها الروح ، إلا أنهم قد اعتادوا هذا ، فلم يعد يجدي حتي ابداء التذمر من شئ ما كله محصل بعضه ، أمس كاليوم كالغد و ربما إلي أسوأ … لكن كيف هذا و السوق عامر بخيرات ربنا و بأسعار تناسب جميع الفئات و الحركة تسير بمنتهي الأمان لا شئ يعكر صفو الأجواء إطلاقًا ..
الأمان .. هنا المكمن علي ما يبدو ، لقد سعي الشعب سعيا للحصول علي أمانه الذي اعتاده و الذي ميز بلده مصر عن سائر دول العالم تلك النعمة التي من بها الله سبحانه و تعالي علي مصر ، هي بالفعل موجودة و لا ينكرها عاقل ، إلا أن الناس تراهم قد فقدوا أمانهم النفسي ، أمانهم الاجتماعي ، فهم مثقلون بمتطلبات الحياة اليومية ، كذلك هي الأسرة المصرية الحاضنة لأطفال في عمر الزهور يدرسون بمختلف المراحل الدراسية ، تلك الأفواه التي تكاد تسد بما قسمه الله لها ، البعض يحمد و يشكر و الغالبية للأسف تجحد نعمة الله ، تري لماذا ؟!
تري الناس يعيشون يوما بيوم لا يدرون ماذا يخبئ لهم الغد ، فبالتالي هم في حالة قلق و أرق دائم لا يملكون رفاهية الاستمتاع بوقتهم فهم ليس لديهم وقت من أصله لكي يستمتعوا به ، مربوطون في ساقيه و لا حول و لا قوة إلا بالله .
إذًا كانت هذه جولتك يا صديقي ؟! .. شعرت أنه يأنبني لكنه ما لبث أن ابتسم فها هو قد عاد لنشاطه و حيويته التي اعتادها ، فما كان ليعاودها إلا إذا استفززته و استنفرت قدراته و همته ، و ها أنا ذا أعده بجولة ترفيهية المرة القادمة .. إلي اللقاء .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى