ط
مسابقة القصة القصيرة

رجاء ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / عادل محمد فودة من مصر

عادل محمد فوده
جمهورية مصر العربية
قصة قصيرة بعنوان
رجاء
0096896308809
( رجاء )
استيقظت “رجاء”من نومها فلم يُدخلِ الإصباحُ على قلبها ما يبثُّه في الطيور الهاجعات فتنهض غاديات أو الورود النائمات فتنشط زاهرات , بل ظلَّت في ضجعتها شاخصةً إلى الفراغ شخوصَ العين القائمةِ تنظر ولا ترى , ولكنَّها تبصرُ من خلالِ غمامةٍ غبراءٍ تتدجَّى على وجهها كلَّ همومِ الدهرِ وأرزائه , تُفاضلُ بين ما آلت إليه وما كانت عليه , ما شاءَ شابٌ أن يرى خصلةً من خصال الجمال في فتاةٍ إلَّا وجدها فيها , قسماتٌ متناسقةٌ على وجهٍ يتلهَّبُ حُمرة , يتلألأُ بشراً وسرورا على جذعٍ كالبانِ يُزيِّنُه نهدانِ نافرانِ في شموخِ الجبالِ حين تُناجي القمرَ في أجوازِ الفضاء , وجهٌ دائمُ الموجِ بابتسامةٍ لا لايتجَّهمُ لها وجه السماءِ وتُجلي السحاب الثِقال , يُشعُّ بريقاً كلِئلاءِ الشمسِ في دارتِها فتتعلَّقُ به عيونُ الناظرين هفوَ الرضيعِ إلى ثديِ أُمِّه , تمشي المُطيْطاءَ حين تمشي كأنَّها على رملةٍ ميْثاءٍ فتُحرضُ من القلوبِ أقلَّها وتُردي الكثير َ منها , ذهبَ بها الغرورُ كلَّ مذهبٍ وأخذها التيه كلَّ مأخذٍ فأنشأت ترفضَ الخطيبَ تلو الآخر وسطَ دهشةِ واستنكارِ من حولها فأقلُّهم شأناً كان طبيبَ قلوبٍ بلغَ صيتُه عنانِ السماء , ولم يرِد على بالِ أحدِهما أنَّها وجدت أُنسَها في تلك الحياة كزهرةٍ في ريْعانِ الربيعِ ترنو إليها الفراشاتِ على اختلافها وتأبى أن يتعلَّقَ مصيرُها بواحدة , خشيت إن دخلَ أحدُهما حياتها فيصرفَ عنها قلوباً وأفئدةً تهوي إليها وعيوناً تتبرَّكُ بمواطىءِ قدميْها فتزيدُها ثقةً بذاتِها وتبثُّها لذَّةً تُشرقُ لها نفسُها إشراقَ الراحِ في كأسِها , فآثرت التروِّي أن تسعدَ بحياتِها قدرَ ما تستطيع كملكةِ في قفيرٍ من النحلِ يصبو إليها مُجتمعُ الذكور , أو يخفقَ قلبُها خفقةَ الحبِّ فيستدرجُها إلى مصيرِها على رغمِها وإن كان فقيراً معدماً وهذا ما لا تتمنَّاه , فليس أدعى إلى العجلةِ من الرويَّةِ مادام الجمالُ قائماً و ما زال الشبابُ في غُلوائه , وكانت قد ذرَّفت على العشرين من عمرها بقليل , وظلَّ هذا شأنُها حتى كان ذلك اليومُ وهيَ في طريقِ عودتِها من “القاهرة” بعد أداءِ آخرِ امتحانٍ في السنةِ النهائيَّةِ بكلِّيَّةِ الآدابِ حين أسلم حظُّها العاثر مصيرَها إلى يدِ سائقٍ ثملٍ متهوِّرٍ لا يأخذُ حذراً ولا يتقِ عادٍ , استوت السيَّارةُ على الطريقِ المُفضي إلى مدينةِ “بنها” , مسقطَ رأسِها , بعد أن ودَّعت صخبَ “القاهرةِ” وزحامَها فيما راحت قدمُه تضغطُ على دوَّاسةِ الوقودِ بكلِّ عزمٍ قوَّةٍ وكأنَّ ساقَه تيبَّست كعامودٍ صلدٍ من الإسمنت , وابتدأت السيَّارةُ تتنقَّلُ بين حاراتِ الطريقِ بلا داعٍ مارَّةً من الفُرَجِ بين السيَّاراتِ الأُخرى وإن كانت بنفسِ طولِها أو تزيدُ قليلاً , تقدَّمَ إلية أحدُهم أن يُخفِّفَ السرعةَ فألقى عليه نظرةً ذاهلةً استدامت برهةً من الزمانِ دونَ أن يشوبها طرفٌ أو اختلاجة , فقرَّ يقينُهم بأنَّه تناول مُخدِّراً أو ما شابه وأرمى فابتدأ يؤتي فعلَه , ووَردَ على ركبانِها من أمرِه ما رجفت له قلوبُهم رجيفَ الرعبِ والخوف , بلغَ صياحُهم مداهُ حين رأوا توقًُّفَ الطريقِ على البُعدِ عندَ نقطةِ تفتيشٍ قربَ مدخلِ مدينةِ ” بنها” وما زال هذا الثملُ زاو العقلِ لايجدُ إلى مكابحِ سيَّارتِه سبيلا , انخلعت قلوبُهم وتفجَّرت حناجرهم من الصراخِ وهم يتردُّون إلى خبَّةِ الموتِ بسرعةِ انحدارِها , لم يستطيعوا أن يأتوا بأكثر من ذلك وهو يقودهم إلى حتفهم , كانت تتوسَّطُ سيدتينِ بدينتين في مقعدٍ بمنتصفِها حين اصطدمت السيارة بشاحنةٍ متوقِّفةٍ واستقرَّت على سطحها في منحدرٍ إلى جانبِ الطريقِ بعدما تجافت على جنبيْها عدَّةَ مرَّات , راحت الأنَّاتُ والصرخاتُ تخبو شيْئاً فشيْئاً حتى استحالت نشيجاً واهناً ينبعثُ من صدورِ أُلئك الذين كانوا لا يزالون يتمتَّعون بدبيب حياة , ثمَّ لم ينشب الهدوءُ أن عمَّ والفوضى أن سكنت ورائحةُ الموتِ أن انتشرت في الأجواء , كان آخرُ ما وعت جسدُها خارجَ السيَّارةِ وذراعُها الأيمن محشورةٌ في في حطامِها , وأجسادٌ مٌزِّقت أوصالُها كلَّ مُمزَّق , سحقت عظامُها وأريقت دماؤها , فاق ذاك المنظرُ الضارعُ وآلا مُها حدَّ احتمالِها فمارت بها الأرضُ موْرةً خاطفةً فقدت على إثرها وعيَها . استفاقت بعد يومين على مهجعٍ صغيرٍ في مشفى القصر العينيي الفرنساوي , تمكَّنت بالكادِ أن تتبيَّن – من خلال غلالةٍ كانت تضلِّلُ رؤيتَها -أمِّها في ثُلَّةٍ من النَّاسِ أحاطت بها , فهمَّت أن تبسطَ إليْها يدَها فلم يُطاوعْها ذراعُها , شدَّدت إليه النظرَ فرأته ينتهي عندَ منتصفِ عضدِها , فسرت في بدنِها رعدةُ الألم ِ والحزنِ وارتمت إلى صدرِ أُمِّها مُطلقةً السبيلَ لعبراتِها وزفراتِها
– لماذا بتروا ذراعي يا أمِّي …لماذا؟…ألم يكن هناك غيرُ ذلك سبيل ؟
بكى الجميعُ لبكائها ولم تبقَ عينٌ من عيون الحاضرينَ إلَّا ارفضَّت عن كلِّ ما تستطيعُ أن تجودَ به من مدامعِها , كان أشدُّ ألماً على نفسِها من جدعِ ذراعِها انصرافُ العيونِ الطامحةِ إليها عنها وتحوُّلُ نظراتِها من الإعجابِ إلى الأسى والشفقةِ وبعضِ الشماتةِ من أترابِها ممن هاجت في صدورهن تجاهها أحقادٌ وتأجَّجت في نفوسهنَّ الغيرةُ منها , انفضَّت عنها الأفئدةُ الراغبةُ وسكنت عنها القلوبُ الواجفةُ وعزبَ عنها الرجال , رمَّثت على الثلاثين ولم يطرقْ بابَها طارق , راحت تندبُ حظَّها وتلعنُ ماضيها وحاضرَها والمُخدِّرات التي انتشرت في الناسِ فذهبت بعقولِهم وأخلاقِهم , والحكومةُ التي غضَّت حتى ذاعت وصارت تُشرى على مرآنا بلا وازعٍ من حياء , باتت تكره النَّهار وتعشقُ الليلَ البهيم بسدفتِه , ففيه سترُها وحجابُها من عيونٍ مُشفقةٍ شامتة , تجدُ في فحمتِه عصمتَها من غوائلِ الدنيا وحماها من مجتمَعٍ مُجحفٍ يرى المرأة ناقصة وإن بلغت أنا الكمال, فما بالك بجدعاءَ ذراعٍ لم يعد من حقوقِها أن تحيا حياةً شريفةً هانئة في زوجٍ وأولاد , ولن ترضى بها حياةُ العهرِ والبغاءِ وإن طابت لها , سرى اليأسُ في نفسِها مسرى المياهِ في غديرٍ منحدر من قمَّةِ جبلٍ إلى سفحِه , فعمدت إلى فراشها لا تُريمه إلَّا غرارا , تترجَّى سنةً من النومِ أن ترفقَ بجفنيْها فتندلقُ بها إلى أحلامِها , تُسلمُها إلى أمانيها العذابِ أن تتحوَّلَ عيونُ الناسِ فلا ترى عيباً ولا عوراءَ في إنسانٍ إلَّا خُلُقَه , أن ترى المرأةَ يوماً كالرَجُلِ لا يُشينه جدعٌ ولا منقصةٌ في جسدِه , احتجبت عن الناسِ ما احتجبت وهربت ما هربت من عيونهم حتى أذعنت يوماً لإلحاحِ أُمِّها أن تذهبَ في زيارةِ خالتِها بالقاهرةِ ترويحاً عن نفسِها , وذات يومٍ في مصرفِ النهار, اصطبغت الدنيا بحمرةِ الشَفَقِ بينما هي واقفة في شرفةٍ من شقَّةِ خالتِها تُطلُّ على الشارعِ تستجدي نسيماً يُرطِّبُ صدرَها في يومٍ تلهَّبَ فيه أوارُ الشمس , إذ لمحت بطرف عينِها شاباً في شقَّةٍ بالمبنى المُقابلِ ثبَّت إليها نظرَه في سكونِ الوالِه المشدوهِ فأهمَّها أمرُه , أخذا يُداولانِ بين الإقدامِ والإحجام , يغضُّ إن نظرت وينظرُ إن أغضَّت , ولبثا على ذلك حيناً حتى ذاب الإحجامُ وغاب الإغضاضُ فتعلَّقَ نظرُ كلٍّ منهما بالآخر , أحست بنشوةِ الحُبِّ تسري في بدنها , تلك النشوةُ التي سلتها منذ أمدٍ بعيد , وفي غمرةِ سعادتِها تذكَّرت ذراعَها فألقت عليه نظرةً ذهنت بها أن حافَّةَ النافذةِ المُرتفعةِ تُواري جزءَه المبتورَ وما يتراءى له بدنٌ كاملٌ غيرُ منقوص , فألمَّت بها قشعريرةٌ مُشربة بحزنٍ أغلقت على أثرها النافذة , ثمَّ عادت بعدَ ساعتين لتراه من خصاصِها لا يزالُ على عهدِه مُتطلعاً إليها يترجَّاها رجاءَ الوردِ الذابلِ دفقةَ غيْث .
ظلَّت على ذلك أيَّاماً, كلَّما فتحتها وجدته قائماً في مكانِه كأنّه لا ينامُ ولا يبرحُه , ما أن تُشرقَ عليه حتى يبلج وجهُه ويموجُ فيه الإبتسامُ فيصفو صفاءَ السماءِ بعد ثقيلِ الغيوم , بدأ التواصلُ يرتقي من النظراتِ إلى إشاراتِ اليدِ حين لوَّح إليها بيمناه فأجهضتها من فوْرِها بابتسامةٍ لا أكثرَ أن يرى من أمرِها ما يحملُه على الفرارِ وهو ما لم تعد تُطيقُه وقد بعثَ في نفسِها الرغبةَ في العيْش, وبثَّ في جسدِها الميٍِّتُ الحياةَ من جديد , كانت تعي أن ذاك الحبّ فانٍ لا محالة , ولكنَّه بارقةٌ من بوارق الأملِ لاحت لها في أفُقٍ يجتاحُه الظلامُ فتعلَّقت بها تعلُّقَ الغريقِ بقشَّةٍ مخافةَ الموت فما أجديَت له شيْئاً , لم تكن تدري أنَّها فتحت بتلك النافذةِ كوَّةً من كوَّاتِ جهنم , فقد شبَّ الحبُّ في قلبِها واستذأب عليْها الوجدُ فأضحى لا مردَّ له وسلوى عنه , واعتلجَ في نفسِها من أمره ما ذهبَ بلُبِّها وملكَ عليها نفسَها , وذات مرَّةٍ بينما كانا يتناجيانِ بالنظراتِ أشار إليها أن تبتعدَ عن النافذةِ ففعلت فألقى إليها بحجرٍ تلُفُّه رسالةٌ منه إليْها ففتحتها وقرأت ما فيها
– Ahmed Salim…..01119788794
هرعت إلى هاتفِها فسجَّلت رقمَه ولكنَّها لم تتواصل معه اتِّقاءاً مواجهةً مباشرة لن تنتهي إلَّا بشتاتٍ وفراقٍ لن يطيبا لها , وبدلاً من ذلك فتحت صفحتَه على الفيس بوك فعلمت أنَّه مهندس , يعملُ في دولة الإمارات العربية , بعثت إليه بطلبِ صداقةٍ وافق عليه من فورِه
-أهلاً بكِ
– أهلاً بكَ
– لماذا لم تتصلي بي عبرَ الهاتف ؟
– خشيتُ أن تدعوني إلى لقاءٍ وتظفرَ في مُحاججتي
– وماذا في ذلك ؟…أنا أحبُّك ويجبُ أن نلتقي قبل سفري
– وما الفائدةُ من اللقاء؟
– أنا لا ألهو كما يلهو غيري من الشباب …ولكنِّي أبحثُ عن عروسٍ وما زلتُ أتخبَّطُ حتى رأيتُكِ تُطلِّينَ عليَّ كالبدرِ في تمِّه …فماذا إن كنتُ أنا نصيبُك وأنتِ من قسمَ الله ليَ بها ؟
– لا يُمكنني الزواجَ منك …لا أرصفُ بك ولا أليق
– هل أنتِ مرتبطة…أو مطلَّقة أو ما شابه ؟
– لا هذا ولا تلك ولا ذاك …ليتني ما تواصلت معك……
أغلقت حسابَها بعدَ أن حذفت اسمَه من قائمةِ أصدقائها وعمدت إلى حقيبتِها فأودعتها ملا بسَها ورحلت غيرَ عابئةٍ بتوسُّلاتِ خالتِها أن تبقى حتى الصباح , فلم تجد بُدَّاً من الإنصياعِ لرغبتِها,فرافقها زوجُها إلى موقفِ عبُّود ولم يغادر حتى اطمأنَّ إلى ذهاب السيَّارةِ وهي على متنِها .
عادت وفي جنبيْها لوعةٌ ظلَّت جاثمةٌ على صدرها لا تجدُ في غيرِ خلوتِها ووَحدتِها ملجأً, هو منزعُ كلِّ المصابينَ والمحزونين في سرَّائهم وضرَّائهم , افترقا قبل أن يلتقيان وفي نفسِها من الوجدِ والحسرةِ عليْه ما لا تُبليه الأيَّامُ والسنون , ولبثت في حزنها برهةً من الزمان, تنطلقُ ضحكاتُها على مضضٍ من قلبٍ باكٍ وتتغنَّى بترانيمِ الفرحِ من فؤادٍ مُحترقٍ حتى طرقَ بابَ الشقَّةِ يوماً طارقٌ وكانت في خلوتِها , طال انتظارُه وتواترت دقَّاتُه كلَّما تناقصَ صبُره , ولكن لا مُجيب , فلم تجد بُدَّاً من الخروجِ إليه , فتحت البابَ فانفرجَ عنه , شلَّت الصدمةُ لسانَها فأعجزتها عن الكلامِ , عقفت خصرها وجرت إلى غرفتِها وهو في رِدفها فلحقَ بها قبل أن ترتج بابِها
– توقَّفي يا ” رجاء” …توقَّفي
أدارت عنه وجهها تُغالبُ دمعةً ترقرقت في عينيْها قبلَ أن تعودَ قائلةً في حزم
– ماذا أتى بك إلى هنا ؟ …هل علمتَ الآن لماذا لا أصلُح لك أو لغيرِك ؟
فربت على ما تبقَّى من ذراعِها
– أنا أعلمُ الأمرَ منذُ البدايةِ…وحتى من قبلِها
فتطلعت إليه في دهشةِ الموتور, فرأى دموعَ الهمِّ تموجُ في مقلتيْها ولاحظَ اضطرابَ ساقيْها فرفقَ بها وقادها إلى مقعدٍ إلى جانبِ مهجعِها وجلسَ بإزائها قبلَ أن يستأنفَ حديثَه
– نعم أعلم…عندما سافرتُ إلى الخارج وأصبح لديَّ ما يُعينني على الزواجِ , لم يتراءى ليَ في أحلامي غيرُك …ولم يخطر على قلبي سواكِ …
رمقته بعينٍ متسائلةٍ فابتدرها بإجابةٍ على سؤالها الذي لم تسأله
– لم أنسكِ في حين نسيْتِني…ولم أسلُكِ وأنت سلوْتِني…كنَّا نلعبُ سويَّاً في الحديقةِ عندما كنتِ تزورينَ خالتَكِ في طراءةِ سنِّنا …نتسابق حيناً ونركضُ خلفَ فراشات الربيع …مازلتُ أرى أجنحةَ السعادةِ تُظلِّلُنا حين كنَّا نجتمعُ على حديثٍ نتجاذبه , أو أنشودةٍ نتبارى في غنائها…ما زالت مياه النافورةِ تحتَ ضوءِ الشمسِ تتلألأً في عيناي …ما برحت أزهارُها تبثُّ شذاها في أنفي …وأفانين أشجارِها تتراقصُ في خاطري…تلك الحديقةُ التي كانت مراح لذَّاتِنا ومرتعَ أحلامنا … نظرةٌ واحدةٌ ألقيتُها عليكِ وكنتِ في الثانويةِ العامةِ كانت آخرَ عهدي بكِ…ولم أعرفَ بعدها منقطعَ سبيلِك …بعثتُ أمِّي في إثرك تتقصَّى أخبارَكِ فعلمنا من خالتِك بأمرِ تلك النازلةِ التي أحاطت بكِ …وأُقسم بكلِّ محرجةٍ من الإيمان بأنَّها لم تُغيِّرْ من أمري شيئاً ولم تُصبْ منِّي مغنماً ولا نفلاً .
لم تستطع أن تُغالبَ دموعَها المُحتشرةَ بين أهدابِ جفونِها فاستعبرت باكيةً, كفكف بأناملِه عبراتِها المنحدرةِ على خدَّيْها انحدارَ قطراتِ الندى على أوراقِ الزهورِ في ساعاتِ البكور , وأمسكَ دمعةً كانت تتأهَّبُ للهطولِ فتجمَّدت في مقلتيْه بابتسامةٍ جهد في رسمِها على ثغرِه, أرادَ بها أن يُبدِّدَ بها سحابةَ حزنٍ هبطت على وجهها, فتساءلت
– إذاً ما حدث لم يكن مُصادفة
– نعم…رتبَّنا مع أُمِّكِ أن تدفعَكِ دفعاً إلى زيارةِ خالتِك حتى تتسنَّى ليَ مقاربتُك…خشينا إن تقدَّمتُ لخطبتكِ مباشرةً فترتابينَ في أمري, ظنَّاً منكِ أنَّ الشفقةَ دافعي ومبعثي فتحرني, ولن يُجدي مع عنادِكِ إن جثوتُ على قدميْكِ استجدي عطفَك .
تمَّ الزواجُ ورافقته في سفرِه ثمَّ عادا بعد ما يقربً من عامٍ يُثالثهما ابنُهما ” عبدُ الرحمن” الذي قضى على صبابةِ حزنٍ كانت تُعاودها بين حينٍ وآخرَ كلَّما خلت إلى نفسِها .سجَّت وليدها في مهده وأسلمته إلى حنان الكرى ثم استلقت إلى جواره شاخصةً ببصرها نحو سقف غرفتها بعينٍ قائمةٍ لا ترى فاستحضرت أُمَّها حين كانت تجهد بكلماتها أن تستنزعها ما ورد عليها من همٍّ وتبثُّها صبرا جافاها وجزعاً ألم بها في أعقاب الحادث
– لا لأحدٍ أن يكتنه ما قضى الله به في خلقِه وإن كانت دلائلُه في وضوحِ نجومِ السماءِ في ليلةٍ صافية , فكم من فتاةٍ لم تُصب من الجمالِ قدراً تتقلَّبُ في بيتِها مع زوجها وأولادِها في أعطافِ العيشِ الناعمِ والنعمةِ السابغة , في حينِ نيَّفت بعضُ الجميلاتِ على الأربعينَ ومضى قطارُ السعادةِ دونَ أن يُلقِ عليهنّ .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى