ط
الشعر والأدب

صندوق العروس ..قصة قصيرة بقلم الكاتب الفلسطينى / هانى الهندى

10464403_789869394391078_1061513640957906026_n

تأتي نسمات الهواء القادمة من شمال القرية محملة برائحة الحصاد، تغازل ضوء البدر في ليلة صيفية تموج القرية فيها فرحا، تتناغم فيها طَرَقات أرجل شباب الدبكة مع أنغام الشَّبابة وتشابك الأيدي في ساحة القرية بين الكروم. 
رغم مظاهر الفرح في بيت والد العروس، إلا أن المشهد يختلف تماما، حيث يتعانق الفرح مع الدموع، وتعلو زفرات الغناء حزينة، إنها الليلة الأخيرة التي تقضيها زينب بين أسرتها, الكل يبكي في ليلة الحنا، ليلة الدموع الساخنة، ليلة تمتزج فيها مشاعر الفرح الحزني ومشاعر الخوف من المجهول، يرتفع صوت الباكيات على العروس وأمها وهن يرددن بأنغام حزينة : 
” يا لامِّ يا لامِّ وِحَشِّي لي مِخَدَّاتي وِطْلِعْتِ مْنِ اْلبيتِ مَا وَدَّعْتِ خَيَّاتي
يا لامِّ يا لامِّ وِشِدِّي لي عَلى النَّاقة اليومِ عِنْدْكْ وِبُكرة الصُّبْحِ نِتْلاقي”

رفضت فاطمة أن تذهب في تلك الليلة الى مكان الفرح رغم إلحاح والدتها، وأخذت مكانا في زاوية معتمة من الحوش تحت شجرة التين القريبة من بيت العروس، تستمع إلى تراويد النساء وتبكي بمرارة :
ـ ” الله يسامحك يابا “

كان من المفروض أن تكون هي العروس لو وافق والدها أن يزوجها قبل أختها الكبرى، ولن تنسى فاطمة تلك الليلة التي حاولت فيها والدتها ان تقنع والدها بزواج فاطمة قبل أختها 
ـ يا ابو العبد، هذا العريس الرابع الذي رفضناه، والبنت الكبيرة لا تعترض على زواج أختها قبلها .
انتفض واقفا ومن تحته انتفضت “الجنبيَّة ” وقال :
ـ والله عال، أنا بدي أمشي على شور البنات يا ام العبد ؟!
ثم صفق باب الحوش خلفه وهو يتمتم غاضبا “هذا العريس الرابع .. هذا العريس الرابع ” .

وظلت فاطمة تعيش على أمل ان العريس قادم يوما ما، ومع توالي الأيام وانقضاء السنوات أحست فاطمة بالضياع وان القادم لن يأتي .
تألمت أمها كثيرا عندما رأتها تجلس تحت دالية العنب التي تنتصب أمام باب الحوش الخارجي، تتدلى منها قطوف العنب الأسود، تنظر فاطمة إلى القطوف وتقول: “طول عمرك يا عنبي أسود”. ثم تتابع الرسم بإبرتها وخيوط الحرير على قطعة قماش بيضاء لوجه وسادة، وكانت قبل هذه القطعة قد أنجزت الكثير من المطرزات على أمل ان تحتفظ بها في صندوق العروس. تُخرج من صدرها تنهيدة طويلة وهي تغني:
” صندوق العروس يا معبأ أحلام بالكحل والحنا وبريش النعام 
والبنات يطلّن من بين الخيام يا غزلان الحي التموا ع العروس “

تسمعها أمها، تقترب منها، تجلس بجانبها، تحضنها، يرتفع صوتهما بالبكاء وهي تقول : كفى يا فاطمة .. كفى، هذا نصيبك يا ابنتي 
ويطنُّ في رأس فاطمة صوت الصبايا يرددن أغاني ليلة الحناء 
يا لامِّ يا لامِّ وِحَشِّي لي قَراميلي وطْلِعْتِ من البيتِ ما وَدَّعْت أنا جيلي

تمسح دموعها بكم ثوبها 
ـ الحمد الله رب العالمين .. لكني كنت أحلم كبقية الصبايا بصندوق العروس أخبئ بداخله أشيائي؛ وجوه المخدات , والمكحلة , والمرآة , والمشط , وزجاجة العطر التي اشتريتها من المدينة …
ـ هذا صندوق عرسي يا فاطمة , فيه أوراق الأرض وأول ثوب طرزته لمناسبة الأعراس في القرية، وفيه حطة وعقال المرحوم والدك, هو لك يا ابنتي فخذيه 
ابتسمت فاطمة 
ـ ربما يكون من الحق البنت الكبرى 
ـ هي في بيت زوجها الآن
ـ وأنا في بيت والدي , هل هو من حقي لأني تجاوزت الثلاثين من عمري ؟

وتعود أغنية صندوق العروس تطنُّ في أذنيِّ فاطمة مع تنهيدة منهنهة متعبة. 
و ذات مساء ربيعي دخلت أم فاطمة تحمل سلة الفرح والبشرى لابنتها , فقد حدثتها جارتها أن شقيقها الأرمل يريد أن يتقدم لخطبة فاطمة على أن يتم الزواج في موسم الحصاد.
وهكذا عاد الأمل الى فاطمة من جديد، وعادت البسمة والأثواب المطرزة الزاهية والأغنيات، وليلة الحنا تنتظر موسم الحصاد .
أخذت فاطمة تعدّ الساعات و ترقب الأيام، تتمنى أن يأتي موسم الحصاد مبكراً هذا العام، تنهض من نومها قبل شروق الشمس لترسل بصرها نحو الحقول وتقول :انتظرتك سنوات وسنوات يا موسم الحصاد , فلا تتأخر كثيرا .
كانت فرحتها أكبر من فرحة الفلاح عندما رأت الحقول تعج بالفلاحين، مناجلهم تعانق سيقان القمح بحنان وهم يرددون : “منجلي يا من جلاه راح للصايغ جلاه” 
يجمعون المحصول أكواما صغيرة قبل نقلها بواسطة الجمال إلى الجرن , وفاطمة تراقبهم بفرح .
وقبل أن ينتصف اليوم الثاني من الحصاد، سمع الفلاحون أصوات الرعيان يهرولون نحوهم ويصرخون : يهود ….يهود … يهود 
دبَّ الفزع والخوف في قلوبهم، تركوا الحقول وأسرعوا الى القرية , كان اليهود قد دخلوها وقتلوا بعض شيوخها وأطفالها . فهرب سكانها الى التلال المجاورة على أمل ان يعودوا إلى قريتهم بعد أن يغادرها اليهود 
ارتفعت أعمدة الدخان في الحقول، صرخت فاطمة فوق التل : صندوق العروس وهرولت نحو القرية، حاولت بعض النسوة ان تمنعها , انتفضت من بين أيدهن وهي تردد صندوق العروس صندوق العروس 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى