ط
مقالات وأعمده

“طريق الحرير”.. سيمفونيّة السّحر و الخيال في 10 أيام من “الشارقة القرائي للطفل”

 

 

رسالة الشّارقة/ أسمهان الفالح

في رحلة تجارية هي الأصعب على مر التاريخ، يأخذ مهرجان الشارقة القرائي للطفل هذا العام زوّاره إلى “طريق الحرير”، حيث تنطلق رحلة تمتد على مدار 10 أيام، متضمنة تفاصيل غاية في الجمال والغرابة، بها الكثير من المواقف والحكايات والمشاهد التي يمرّ بها الرحالة وينسجون عنها حكايات لا تنتهي حتى تبدأ أخرى.

اليوم الأول.. شيان روعة الشرق

من “شيان” عاصمة الصين قديماً انطلقت الرحلة في يومها الأول، أحكم الرحّالة بضاعتهم على ظهور القافلة المؤلفة من 10 جمال بعد أن غاب آخر شعاع للشمس، حثّ الجمال والحجيج والعلماء والتجار الخطى نحو “طريق الحرير”، الذي يعد أكثر طرق التجارة شهرة في التاريخ، فهو لا يعدّ درباً واحداً وحسب، بل عدّة طرق برية وبحرية، شكّلت شبكة من مختلف أصقاع العالم استطاع التجّار من خلالها أن يتبادلوا مختلف أشكال الحرير وغيرها من السلع الضرورية.

وبعد أن هبط الليل، بدأت القافلة بالتحرّك صوب الغرب، متجهة نحو بغداد، الطريق كان يبدو أن لا نهاية له، فالمسير في ذلك الوقت لم يكن سهلاً، والخيارات ليست واسعة على الاطلاق، إما سيراً على الاقدام، أو إن كان الحظ وافراً تركب جملاً لفترة وجزيرة سرعان ما تضع الحمولة عوضاً عنك، منذ هذه اللحظة سيبدأ العدّ، 182 يوماً وليلة واحدة، ستّة أشهر كاملة، ستمر بها بالكثير من المشاهد التي لن تغيب عن الذاكرة أبداً.

وعلى امتداد خطّ سير يبدأ من الصين وينتهي في بغداد، وبعد الاستيقاظ من قسط مريح من النوم في نهار كان يبدو أنه لطيفاً، حيث تسنى للقافلة أن تريح رحالها، وتبرك جمالها، ويستريح مشاتها، فكلّ ما سيكون في الأيام المقبلة هو ترحال في وديان وجبال وصحراء شاسعة، والكثير من الحكايات والدهشة، مواقف كثيرة تلوح في الأفق، فهذه الرحلة التي تقطع القارات وتروي الحكايات لن تتوقف عند هذا الحدّ، البضاعة تنتظر استقراراها في متاجر البلاد البعيدة، وأشعة شمس النهار القادم بازغة لا محالة.

اليوم الثاني من طريق الحرير

من شيان إلى تورفان.. أفقٌ لانهائيّ من الرمال في صحراء “جوبي”

في اليوم الثاني من طريق الحرير الذي يروي حكايته في 10  أيام متواصلة “مهرجان الشارقة القرائي للطفل”، يتواصل مسير الرحّالة، لا أحد على امتداد هذا الطريق سوى نجوم تتلألأ في السماء، وقافلة تسير منهكة، الرحالة كلّهم يدّبون على الأرض كخطوط النمل وهي تبحث عن وجهة بعيدة، الجمال تثغي، واللهاث يتصاعد من أنوفها، مرّ شهاب اخترق عنان السماء وأضاء لوهلة أفق الطريق، بقي نهار وليلة على الوصول إلى النهر الأصفر، هناك تصبّ المياه العكِرة، غدير من الرمال المسحوقة مع الماء يكسر إيقاع المكان، يحمل النهر تسمية صينية “هوانغ”، فهو ثاني أطول نهر في الصين، وسادسها في العالم، لقب باسم “يوغونا الصين” بسبب الفيضانات المدمرة التي يسببها النهر.

بعد أن تصل القوافل إلى هذا النهر سيكون هذا آخر عهدهم بالماء، حتى الوصول إلى مشارف صحارى “جوبي” المترامية الأطراف، التي يصل امتدادها إلى مسافة ألف وخمسمئة كيلو متر، وعرضها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ثمانمئة كيلو متر لتصل مساحتها الاجمالية إلى مليون ومائتين وخمسة وتسعين كيلو متراً مربعاً، أي أن ما سيواجه الرحالة هو مدّ من الرمال الذهبية النقية.

وبعد أن وصل الرحالة إلى النهر واكتشفوا ضفافه المليئة بالحكايات والأحراش والبراري التي تتزركش بألوان كثيفة قرروا أن يريحوا جمالهم وحمالهم ويبحثوا عن راحة تحت فيء الأشجار، وبالفعل اراحوا قوافلهم وأخذوا قسطاً من الراحة، وبعد أن اكتفى الجميع صاح منادٍ بالرحيل، وهمّ الجميع وبدأت الطرق تتوالى والصحراء تقترب، بقي مسير يوم واحد لبلوغ الرمال، تلك الصحراء المقبلون عليها قاسية والحرارة بها تغلي في النهار، وتكاد تجمّد الشجر ليلاً، سيعبرون الصحراء على امتداد رحلة ستروي لهم الكثير من الحكايات حتى وصولهم إلى غايتهم.

ها هي الرمال تقترب بلسعات على وجوه الجمال والرحالة جميعاً، سرعان ما يبدأون في ربط الأغطية القماشية على وجوههم وأعينهم، لا مجال هنا للتراجع، الهواء كثيف يحمل أطناناً من الرمال على أجنحته، يطير بها صوبهم، وهم يتقدمون بصعوبة، يزحفون زحفاً كأنهم يطاردون وهماً، تتباطأ حركتهم، تسير فوقهم الشمس كخيط من النحل النشيط، أشعتها ما زالت طرية، لم ينتصف النهار بعد، كلّ شيء من حولهم يرتبط بوحدة اللون كأنهم في محيط أزرق، كأنهم يسبحون في سراب لا نهائيّ، رحلة بدأت كي لا تنتهي يقول واحدهم: ماذا بعد؟! إلى أين الآن؟! يصرخ آخر: كيفّ…! ولماذا؟!! أين آخر هذه الصحراء؟!، صمت، ثغاء الجمال يكسر إيقاع الهدوء، والريح مازالت تدق نواقيس الخطر.

هبط الليل، الرحالة يسيرون بشكل متواصل انخفضت درجات الحرارة، بات الهواء طرياً، نفّض الرحالة الغبار عن ملابسهم ورحالهم، سقوا جمالهم، شربوا، أكلوا، منهم من رمى بجسده على الرمال الباردة التي سرعان ما تحولت إلى وسادة من زبد، خليط من المشاعر، هذا يضحك، وآخر يروي حكاية لا شأن لها بالرحلة، يحاولون سريعاً أن يجمعوا قواهم لاستكمال المسير، هدأ الليل، دقّت القافلة أقدامها في الرمل وانطلقت صوب تورفان، مدينة الشمّام والفواكه النادرة، ووادي العنب والموت.

يصف العالم الصيني تشانغ هينغ (139-78 ميلادي) مدينة شيان بقوله: ممرات طويلة، وشرفات أرضية واسعة، وأروقة، وصالات متصلة تأخذ شكل السحب، ساحات خارجية مسوّرة غريبة الشكل، وغير عادية، ألف بوابة، وعشرة آلاف باب، مداخل مزدوجة، ومداخل معزولة، متقاطعة ومتداخلة.

تتواصل حكاية رحالة طريق الحرير في مهرجان الشارقة القرائي للطفل، حيث يرون في يومهم الثالث: “حملنا إلى أقاصي الأرض، وصل بنا إلى بلاد لا نعلمها، وجوه لم نألفها، صحراء شاسعة على مدّ البصر، اليوم الثاّالث من طريق الحرير

طريق الحرير من شيان إلى تورفان.. الخروج من الصحراء إلى جنة في النصف الغربي لآسيا

ريح، صمت، رمال، لا صوت ولا نبت ولا حياة، كلّ شيء يتحول فجأة إلى هالة من اللون الذهبي، وسراب يغطي مساحات كبيرة من الذهول، هذا هو الطريق، نعرفه جيداً، ولا يعرفنا، سارت عليه أقدام كثيرة حتى نسي ملامحها، كم مرّ عبر السابقون طريق الحرير هذا من أوله حتى نهايته، وكم مرّة خرجوا ولم يعودوا؟ هذه الطريق تبتلع أبنائها، ونحن نمضي بخطى حثيثة حتى نبلغ تورفان”.

تورفان، مدينة هادئة، غنية بالأكلات الشهية والفواكه والنباتات الموسمية، بها كروم العنب تنساب من تحتها جداول ماء عذبة، أهلها وديعون يستقبلونك بسلال العنب التي تنمو هنا منذ ألفي عام، والتين المجفف والدهن الحيوانيّ ذو الرائحة العطرة، يمكن لك أن تشمّ رائحة الطيب من بعيد، بيوت نحتت من الصخر وأخرى من الطين، هذه هي المدينة، احتواء بعد تعب، بعد مسيرة ذلك اليوم الذي ظننا أنه لا ينتهي، وبالفعل، خطت أقدامنا على أول طريق مؤدٍ إلى تورفان، العيون تلمع، الأقدام تسير بسرعة، من هنا فصل آخر في الحكاية، غابات كثيفة من الحكايات التي يحملها الرحالة بعد تلك الصحراء القاحلة، أوقات لا يمكن أن تنسى أبداً.

اخترع سكان المدينة نظام ريّ فعال ومتطور، 17 ألف بئر تغذي شبكة مائية تتكون من 1700 قناة مازالت تضخّ الماء حتى اليوم، شبكة مائية بتقنية أحضرها تجّار طريق الحرير من إيران، ليكون واحداً من أكثر أنظمة الريّ تطوراً والتي تعتمد في مصادر المياه على تجميع الأمطار وتوزيعها، حيث بات هذا النظام أحد الأنظمة التي مازالت المدينة وما يجاورها تعتمد عليه حتى اللحظة في ريّ المزروعات.

الصحراء تجربة مرعبة، القافلة دخلت والرياح تزمجر بالرمل، والعيون لا ترى الطريق فقط نهتدي إلى نجوم عالية تمسك حبال الجبال وتجرّها، ضباب يكتف المكان، شجر يكاد يرى، شارفت الشمس على الصعود إلى أعلى تعتلي عرشها وتبدأ في بث سهام القيظ، لكن سرعان ما انتهت تلك الكيلومترات التي أكلت من أقدامنا وجمالنا وتركت حمولة كبيرة من الرمل على أكتافنا ومسامات جلدنا، فدخلنا المدينة فارغين من كلّ شيء لا نحس بتعب ولا بنعاس، مجرد فراغ هائل.

ما الذي يمنع مدينة من أن تظل على حالها حتى نهاية التاريخ؟ قال رجل حكيم من المهاجرين معنا، ضحك آخر، وأجاب: المدن تبقى على حالها، وحده الزمن من يتغير ويغيّر الناس، ردّ الشيخ: ليس صحيحاً، ذلك النهر الأصفر الذي قطعناه لا يسكنه أحد، من قال أن الأنهار ليست مدناً أو تاريخاً؟، بقي هذا السجال بين الرجلين مشتعلاً بعد دخولنا إلى مزرعة أحد الأشخاص في تورفان، أكلنا من العنب والتين المجفف منا من نام على مسطبة من رخام، آخرون تقافزوا كالأرانب تحت داليات العنب وغفو كالأطفال، آخرون اندهشوا من رؤية القطوف وهي تتدلى وتلمع حبّاتها بوهج محبب، وها نحن طوينا صفحة ونروي أخرى، حتى نصل في النهاية إلى هناك.

الزمان يغيّر كلّ شيء، المدن، والناس، وحتى الحكايات، لكن طريق الحرير هذا بقي طوال قرون على حاله، شاهداً على الكثير من الحكايات التي ترويها أقدام الرحالة، وتشهد عليها آثارهم في صفحات التاريخ، حتى ولو تغيرت أسماء المدن، واختلفت آثار الطرق، وبات الناس يقطعون مسافات هائلة بوقت قياسيّ مستخدمين وسائل نقل استثنائية وحديثة لم تكن لتخطر على بال أولئك الأشخاص الذين قضوا من أعمارهم الكثير وهم يمشون على طرق ساحرة، هذا الطريق الطويل البعيد، شاهد على وجود الإنسان، وجدارته في الحياة.

بعد أن جفّت النيران في مواقد الحطب في المدينة، أشعل أهلها قناديل الزيت الصغيرة الموضوعة على نوافذ المنازل، كل ذهب إلى ليله مطمئناً، وبقينا نحن والجمال تحت الأشجار وقرب مصبّ الغدير الأعلى نرقب بعيون مغمضة النجوم وهي تغيّر مكانها، فهي الدليل عند الصباح الذي سيحملنا على أجنحته نحو حكاية أخرى، نبدأ من خلالها سرد احداث نرويها ونعيشها ونتعلم منها، قبل أن تغيب الشمس مرّة واحدة وإلى الأبد.

و تتتالى حكاية الرحالة في هذا العرض الممتع الى  أن تبلغ يومها الأخير.

اليوم الأخير من رحلة طريق الحرير.. حين تغمض العيون عن حكايات كثيرة

من “سمرقند” إلى بغداد .. حكاية النهاية  

قال أحد الحكماء أن الأرض لا تنتهي فهي مسير طويل وشاق نحو النهاية، لا أحد في الحقيقة يدري ما هي النهاية، ربما تكون مجرد بداية ما، ربما تكون منتصف الأشياء، وربما تكون لا شيء، هكذا هي الطرق الوعرة والمعبّدة بالهباء، تتخذ مسارات لا قرار لها، فكلما حفرت الأرجل معالمها على وجه الأرض، كلما زرعت الكثير من الحكايات التي لا يمكن لها أن تصمت، وها نحن نحطّ رحالنا في المشهد الأخير الذي رواه مهرجان الشارقة القرائي للطفل في دورته الـ11، عبر قافلة الحرير التي شقت القارية آسيا وعبرت جبالها وصحاريها.

“سمرقند” آخر المدن الجميلة، أجمل المدن الأخيرة، هي نقطة التوقف النهائية أمام القافلة قبل وصولهم إلى بغداد، المدينة التي صنعت منذ طفولة التاريخ، بعد قليل سيواصل الرحالة مسيرهم بعد أن يستجمعوا قواهم وشغفهم وبضاعتهم التي باعوا جزءاً منها للأهالي والمحال، والأخرى التي ابتاعوها من هنا ليذهبوا بها غرباً صوب الأقصى من الأرض الخضراء، بدت عيون الشيخ وكأنها محمّرة، سألوه ما بك يا شيخ؟ قال: لا شيء ربما هي مجرد حرارة الطقس وأشعة الشمس لا أدري لا عليكم هيّا بنا لننطلق، وبالفعل تجهّز الجمع وهمّوا بالرحيل.

ليس سهلاً أن تودّع مدينة بأكملها، أن تلوّح وهذا كلّ ما في الأمر، أطرقت القافلة في سمعها نحو نداء أخير من أهالي المدينة يوصونهم أن كونوا بخير، وانطلقت القافلة بعد أن خبأت في ذاكرتها الكثير عن حكايات وروائح وأطعمة المدينة وتاريخها، كانت سمرقند مدينة لا تتكرر، في الطريق سيلتقي رحالة القافلة بمشاهد لم يروها من قبل، الطريق إلى بغداد ليست بالصعبة بل ممهدة بالكثير من الجمال، وبمجرد ما تاهت الصحراء خلفهم انتهى الصعب.

“آمو داريا” أو نهر جيجون، فاتحة مائية لعبور البلاد، شقّ طويل يصل إلى 2.525 كيلو متر، يقصّ كلّ من أفغانستان وطاجكستان وأوزباكستان، يقطع ثلاث بلاد، فهو الرئة التي تمدّ سكان تلك البلاد بالحياة، ما أن شارفت القافلة على الوصول إليه حتى بدأت بالفرح هناك مصبات مائية .. فأينما وجد الماء وجد الفرح، وهكذا حتى وصلوه ليلاً، متعبين منهكين، تكاثروا حول ضفافه، أشعلوا نارهم، منهم من قفز للسباحة، منهم من خاف من الاقتراب، الآخرون اكتفوا بالجلوس ومراقبة صفاء صفحة ماءه حتى ما أنهكهم النعاس وناموا.

بعد أن خرجت الشمس وأطلت برأسها على القافلة حتى استفاق الجمع، بدأوا في لملمة متاعهم، تأكدوا من أن النار أطفأت بالكامل، استداروا الكل في مكانه الرحال على الجمال، لكن أين الشيخ؟ الكل موجود إلاه، أين تراه ذهب؟ بدأ الصياح ياااشيخ… أين أنت.. هيا سنذهب!!.. بعد بحث متواصل وجده أحد الصبية سانداً ظهره إلى جذع شجرة خرّوب كبيرة، هندامه مرتّب، طاقيته المعهودة ترتاح إلى جانبه، وجهه صافٍ لا يشي بشيء، لكنه بارد كقطعة ثلج، مدّ أحد الرجال ليحاول ايقاظه فتهاوى مثل ريشة كسرتها الريح.

دُفن الشيخ على ضفة النهر، لقد أصيب بحمّى نادرة، مرض غريب لم يعرف عنه أحد شيئاً يسبب احمراراً في الأعين ويشبه السمّ بهدوء يقتل صاحبه، لقد صمت الجميع بعد أن ودّعوه بحفنات من تراب وورود مجففة كانت معهم من تيان شان، نثروها لآخر مرة، وأداروا راحلتهم وهمّوا إلى الغرب.

ليس الموت إلا حكاية تتوقف دائماً عن الرواية، فالقافلة سارت في نهاية الأمر بوجه ميمم صوب بغداد، هذه المدينة التي وقفت على بوابة الحياة ولم تتنازل عن كبريائها يوماً، مرّ عليها الاشوريون والبابليون والسومريون والحضارات الغابرة، مرّ عليها كلّ البشر، ومازالت تستحم في كلّ صباح من دجلة وفي المساء من الفرات، تصبّ بها كلّ المياه، فتستيقظ فاتنة مع كل أشعة شمس، هكذا كانت في أول نظرة لها من بعيد، مدينة بأسوار عالية وكأنها دوماً على أهبة الحرب، تساءل الرحالة عن ماهية هذه البوابات، أجاب آخر: هي مداخل المدينة، ودرءاً للغزاة، أهلها وادعون خلفها، نيران قدورهم متقدة، والعيون تلمع، هذه مدينة ساحرة، سنصل لها وسنبقى بها إلى أن نعود في العام المقبل.

دخلت القافلة بوابة بغداد، استقبلهم الأهالي بالأرزّ والوردّ، الزائر إليها لا يخيب، والناس هناك يشمون رائحة الغريب من بعيد فيهدئون من روعه ويطفؤون غربته، في بغداد رائحة مختلفة، جميلة، نقية، كمسحة المطر على جبين الأرض، مثلما تترك الأم قبلتها على جبين الوليد، لقد كانت الدهشة هي كل ما اعتمل في داخل الرحالة، هذه البلاد لم يروا مثلها من قبل، مزينة بالنخيل، هادئة مثل القصب، دخلت الجمال من البوابات، وحبال يجرونها من التعب، وجوه القافلة متعبة، عيونهم تشخص في المكان، يتفحصون الأسواق والأماكن والأبنية وكأنهم لأول مرّة يدخلون مدينة حقيقية، هذه بغداد قصر الذهب والقباب، مدينة السلام، بيت الحكمة.

بركوا في جمالهم عند بئر في منتصف الحيّ الأول في المدينة، محال لبيع الخضراوات والأعشاب ومستلزمات العطارة، جزارين، باعة طيور وأسماك، الأرض مرصوفة بشكل مثاليّ، لا هي حجارة ولا رخام، رائحة يمتزج بها البخور والحطب، هناك طعم للرائحة، بدأ الرحالة بالتجوال في المدينة، منهم من حمل بضاعته ومضى يبحث لها عن مشترٍ، آخر ذهب ليبحث عن عطور فاخرة، وآخر عن جلود، وقسم آخر ذهب إلى أزقة الحي للتعرّف على جمالها، وبعد أن أنهكهم المسير في شوارعها، بحثوا عن أمكان للراحة والنوم، ربطوا جمالهم في حظائرها، استعدوا للذهاب وقبل أن ينزل الليل وفي زقاق من الأزقة لمحوا الشيخ وهو يمشي خفيفاً هادئاً ويقطع الطريق ويختفي في آخره.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى