ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة (زجاج عيار 24) مسابقة القصة القصيرة بقلم / إبراهيم فريد هلال .مصر

الاسم: إبراهيم فريد هلال
رقم التليفون: 01067596356
الايميل: [email protected]
خاص بالمشاركة فرع القصة القصيرة.

زجاج عيار ٢٤

بعد أن دنت عقارب الساعة من الثانية ظهراً تعامدت أشعة الشمس علي وجهٍ مجعّد يجاهد للعودة من غفوة سميكة.. غفوة أخذته فيها أحلام لها قسوة الجحيم إلى حقيقة حياته الهشّة.. إذا آلت لك الاقدار رؤيته لولّيت هرباً من منظره.. شعرٌ ثلجي غمره الشيب، يتربّع على رأسٍ تكسوه التجاعيد من كافّة المناحي، يئن جلوساً على مقعده الوثير المحتل للزاوية المقابلة للشرفة المفتوحة.. من على مسافة نصف ميل تستطيع سماع صريراً مدوياً يخرج من فمه السحيق.. صرير يجعلك تشفق على تركيبات أسنانه الصناعية؛ التي تشبه كثيراً البلاستيك المصنوع منه أغطية المراحيض.
اختلجت أنامل يده اليمنى؛ التي استخدمها كوسادة تعينه على قضاء غفوته.. بعدها، انتفض رافعاً يسراه أمام عينيه لتحجب عنه ذلك الضوء المتسلّل من خارج الشاليه حاملاً معه ذرّات الرمال الرطبة.. أحكم معطف شبابي باهظ التكلفة حول جسده أولاً، ثم دسّ قدميه داخل حذاء عصري جعلاه شبيهاً بأحد مسوخ «ماري تشيلي».. تشعر ما إن تراه أنه قد عبر آلة زمنية لتوّه.. وعلى الرغم من ملامح العجز الظاهرة على قسماته إلا أنه سيتخطّى حاجز الخمسين تلك الليلة.. نهض من مرقده وعقد النية.. السير قليلاً على ضفاض الشاطيء.. هبط ثقيلاً ثلاثة عشر درجة من الرخام ليخرج من باب الشاليه.. طابقان على مساحة خمسمائة متر أعدهما خصّيصاً لأولاده.. وارب الباب خلفه بعد أن تأكد من وجود هاتفه القيّم داخل أحد جيوب المعطف، وبخطى واهنة وصل إلى حافة الشاطئ.. الأمواج تتلاطم وتتسابق فيما بينها للوصول إلى قدميه.. لما كل تلك العجلة!!.. يتسابقون أيهم يصل أولاً إلى نهايته!!.

داعب العجوز الرمال بقدميه بعد أن دس كلتا يديه داخل جيوب الچاكيت ولم ينس إحكام الكوفية حول رقبته الهزيلة.. خمسون عاما!!.. ردّدها بصوت خفيض لم يسمعه سوي عقله.. حقا لقد سلب فيهم من الدنيا أعز ما تملك.. المال والبنون!.. ثروته جاوزت السبع أصفار وحظا من أرملته بولدين لا يشق لهما غبار.. وبنت انفق علي عرسها ما جعله حديث الصفوة لشهر.. ماذا عساه أن يبتغي من الدنيا بعد ذلك!!..
عدة خطوات قطعها جوار الأمواج الي أن شعر بذبذبات تليفونه.. نظرة خاطفة بدأها بإبتسامة حين رأي إسم إبنته علي شاشة التليفون.. رسالة نصية حوت كلمات قليلة مفادها إستحالة مجيئها لحضور ذكري عيد ميلاده هذا العام.. عذراً غير مسبب جعل الإبتسامة تحترق علي شفتيه سريعاً.. ما سر كل ذلك الجحود!!.. لقد جعلها أيقونة تخطف انظار الفتيات قبل الرجال والآن تأبي أن تحنو عليه بليلة دافئة.. لقد أصبح الجفاء لا يطاق ويستحيل إلتماس الأعذار لها كما كان يفعل كل عام.. إنه بحاجة إلي أن تسمعه صوتها لتعينه علي شيخوخته المبكرة.
إقتربت موجة أكثر من الشاطيء حتي دنت من ركبتيه ولم تنس مداعبة عينيه برذاذ رقيق تعتقد حين رؤيته أنه دموع.. فلم يأبه بها العجوز وواصل السير قليلا.. هرِم محني أشبه بالزومبي في خطوته.. رفع عاليا يمينه ليطالع الساعة بعينيه الحجريتين.. انها الثانية ونصف!!.. لقد تأخر الولدين ما يزيد عن الساعة.. مترددا أخرج التليفون من جعبة الچاكيت وأجري الأول فأتته الرسالة المسجلة بالإنغلاق.. بعدها إعتمد رقم الثاني ليجيبه (answer machine) سمع منه أن إبنه مشغول وسيعاود الإتصال لاحقاً.. اللعنة!!.. هؤلاء هم من فنا حياته لأجلهم.. من سيترك أمواله لهم لتكون عوناً في حياتهم من بعده.

إرتطمت به موجة قاسية إقتربت من صدره وكادت أن تسقطه بعد أن أفقدته توازنه.. موجة عنيفة تركت قطرات مياه كثيرة علي وجهه تظن معها أنها بكاء حاد.. موجة عاتية آثر بعدها العودة الي الشاليه.. صعد الي الطابق العلوي ليطالع صورة أرملته.. يريد أن يشكو لها ما أصابه من جحود في أولاده الثلاث.. عن ماذا يبحث في الدولاب!!.. عن ألبوم الصور التي تحوي جميع الذكريات السعيدة.. عجبا!!!.. لا توجد صورة تجمعه بأي منهم.. ألقي الألبوم وجذب آخر يحوي صور الزفاف الأسطوري لإبنته.. لأول مرة يلاحظ عدم وجود أي صورة له.. الأمر الذي جعله يشك أصلا في زواجها.. كإنه أصبح زجاج شفاف.. كالملهوف ظل يبحث وسط مئات الصور ولم يجد له صورة مع أيّ منهم سوي صورة زفافه هو علي أرملته.. صورة وحيدة بدا فيها مشوشا.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى