ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة .غودالوبى ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / زهير بوعزاوي. المغرب

الاسم الكامل: زهير بوعزاوي
الدولة: المغرب
رقم الوتساب: 0636979101
الفئة: القصة القصيرة
غودالوبي

أفزعني صوت أمي وأيقظني من نوم عميق، تثاءبت وعدت إلى النوم من جديد.. وقع أقدام ثقيلة تقترب من مضجعي والغطاء يجر من فوقي بقوة:
-لن تنامي كل اليوم، هيا قومي لدينا ضيوف على الغداء، علينا الإعداد والتجهيز، سيعاتبنا والدك إن لم نقم بما أمر به….
هممت بالعودة لأحلام بقيت معلقة، لكن نظرتها الحادة وملامحها المتجهمة، نفضت عني غبار العجز والكسل، استفقت متأففة وحملت دميتي الصغيرة الشقراء التي أسميتها غودالوبي، تيمناً ببطلة مسلسل مكسيكي مدبلج شغفت به، ولم أفوت أي من حلقاته، تلك الدمية صنعتها من أغصان بترتها من شجرة السرو المتواجدة في حديقة بيتنا، و قمت بخياطة فستان لها من بقايا إزار رث أحمر اللون، أصبحت رفيقة دربي ومؤنستي، نلعب وننام معاً، لا يفصلنا عن بعض إلا صراخ أبي المتسلط، فكلما غضب يهددني بتهشيم الدمية وحرقها وحرماني من مشاهدة التلفاز..
استفسرت أمي عن الضيوف القادمين إلينا وسبب الزيارة، لم تجبني ولم تشف غليل فضول أذكى حيرتي، ولا أراحت بالا تزاحمت به التساؤلات..اكتفت بالقول أنها تجهل من يكونون.
توجهنا نحو المطبخ، وبدأنا نحضر الطعام، نسيت أمر الآتين وطفقت أقفز بفرح، وألاعب غودالوبي أقبلها وأحضنها، تجتاح السعادة كياني الصغير، أمسكها من يديها الخشبيتين ،أرقص معها وأغني لها أغنية:
هيا يا غودالوبي الصغيرة
تناولي من الجزر قطعة
ستكبرين وتصبحين جميلة
ونذهب معاً إلى الحديقة
ونلعب لعبة الغميضة

تقاطع أمي مرحي، وتصرخ في وجهي، اليوم لا تبدو حنونة ولا عطوفة وثمة شيء يزعجها، أواصل مساعدتها في صمت، صوت طرقعات الآواني وحده يؤثث الفضاء الواجم..
يدخل أبي في تلك اللحظة مثقلا بأكياس من الفواكه والمشروبات، يتقدم صوبنا وهو يحجل في مشيته، يضع حمله الثقيل، يجلس على كرسي خشبي، تناولته أمي كوب ماءٍ يعبه بسرعة، ويطلب مني الخروج..:
-أريد التحدث مع والدتك على انفراد..
غادرت المطبخ بتلكئ وأنا أغمغم في استياء، قبعت خلف البيت، تحت نافذة المطبخ مباشرة وأصخت السمع، شيء ما يحدث وعلي معرفته..فيبدو أن الزوار هذه المرة ليسوا هنا لاقتناء أبقار ولا التفاوض حول غلة الزيتون..
-إسمعيني جيداً يا فاطمة، ابنتنا عائشة قد كبُرت وأصبحت فتاة جميلة، يتمناها كل شباب القرية، ولا يخفى عليك عيب البنات ومشاكلهن، قد تجلب لنا الخزي والعار، ونصبح أضحوكة بين الناس وعوائلنا و أهل القرية، لما لا نزوجها لابن صديقي التاجر الكبير الحاج عمر، ونرتاح من القيل والقال، الضيوف القادمون إلينا هم خطاب ، ما رأيك ؟

سمعت لطمة أمي على صدرها، وارتعاش صوتها وتهدجه وهي تحاول الدفاع عني:

-إتق الله في البنية يا رجل ، عائشة ما زالت صغيرة على الزواج،ولم تبلغ سن الحلم بعد، وابن عمر يكبرها بعشرين سنة أو أكثر، هذا ضرب من الجنون، لن أسمح بحدوث هذا أبداً، لن ألقي فلذة كبدي في هذا الجحيم ..

أرعد أبي وأزبد، سب وشتم، صرخ وجأر، وتوعد أمي بالويل الذي ستعانيه منه إذا وقفت عائقا بينه وبين مراده وخرج يزفر من مناخيره كالثور ..
بقيت مختبئة وأنا أرجف حتى توارى في الزريبة قبل أن أعود الى المطبخ، وجه أمي ممتقع و قد غادره ذاك النور المشع الذي ألفته، حضنتني بقوة، وبكت بحرقة، تمازجت دموعنا فقد فهمت أخيرا أن الأمر جلل، ساد سكون هادر في قلبينا وكأن الزمن توقف تلك اللحظة، فاستحال المكان من حولنا مقفرا و بلقعا خاليا من الحياة، قطعت هذا الجمود وقلت بصوت تشوبه حشرجة:

-أمي هل حقاً كبرت؟

لم تجبني، سوى بدموع تعبر عن حجم المعاناة التي تنخر أحاسيسها، ضمتني لصدرها ،كان قلبها يركل في صدرها كعصفور يحتضر.. صاح أبي واضعا حدا لعناقنا:
هااه.. هيا.. الضيوف قادمون، حضري الأطباق وزيني العروس…وعليك الطلاق بالثلاث، إن حاولتِ فعل عكس ما قلته أو تضعينني في موقف حرج مع الحاج عمر وعائلته…

لم يكن أبي يخرف كما اعتقدت، بل ينوي تحقيق ما قرره.. ولم أرَ أمي مهزومة وضائعة إلا هذه المرة، فالحمل ثقيل على كاهلها، وأنا غير قادرة على مواجهة أبي ..هذا الرجل الذي لم أعد أعرفه..

استسلمت لأمي، زينتني ودموعها تنهمر كشلال، تئن وهي تسرح شعري، جدلته ضفيرتين، وضعت لي من عطرها الأثير وألبستني فستاناً قشيباً..

– أمي، زيني غودالوبي أيضا.

– دعي الدمية، عليك التصرف بنضج الآن، لم تعودي طفلة، ستصبحين زوجة يا عائشة…

– لقد قلتِ أنني مازلت صغيرة، كيف غيرت قولك؟ لن أتزوج أبدا، مازلت أريد اللعب مع غودالوبي.

-أصمتي.. يا عائشة.. أصمتي، والدك سيقتلنا إذا سمعك تتفوهين بهذه الحماقات. لا مجال للهروب من القدر المحتوم، وهذا قدري وقدرك علينا الرضى به وتقبله، إبقي هنا حتى أناديك.

خرجتْ مهرولة، دون أن تلتفت إلي، بقيت وحدي أعانق غودالوبي بشغف، نهضت إلى الشرفة، مددت بصري على طول المساحات الخضراء، أغازل الهواء النقي، كنت أنتظر فصل الشتاء حتى أصنع رجلاً من الثلج، وألعب بندفه مساءً، ونتقاذف أنا وأقراني بكراته، لكن حالياً، الفصل القادم لا أعلم عنه شيئاً، ربما هو جحيم كما وصفته أمي، نادتني:

– عائشة ..أحضري الصينية وتعالي.
– ما شاء الله.. ما شاء الله.. كم هي جميلة كِنتي، يا لحظنا الحسن، سنظفر بفتاة من أصل وحسبٍ ونسبٍ مشرفين !.

وضعت الصينية على المائدة، والحديث مستمر من طرف الحاج عمر:

-نتوكل على الله إذن، جئناكم طالبين راغبين في ابنتكم المصون عائشة لابننا البكر هشام، إذا وافقتم طبعاً..

– من سيرفض نسبكم يا حاج، قبلنا طلبكم، لنقرأ الفاتحة وبعد يومين سنعقد قرانهما بحول الله، بلا هرج ولا مرج، هكذا قال أبي، وأشار لأمي يإحضار طعام الغداء، هللت النساء وتبادل الجميع التبريكات والتهاني، وأنا أكتفي بالمراقبة كأن الأمر لا يعنيني..فلم يطلب أحد رأيي ولا استشاروني..

عدت إلى غرفتي وغودالوبي شيء ما كاتم على صدري، ومشاعري مشوشة، لقد كنت قبل يومين طفلة تلعب ولا تعرف من أمور الدنيا شيئا.. والأن صرت زوجة وسأفارق بيتنا وأمي وصويحباتي.. لكني لم أكن أدري أنني سأترك غودالوبي..حبيبتي غودالوبي، حين أردت الصعود على متن السيارة التي ستأخذني إلى المجهول، وإلى بيت زوج لا أعرفه ولا يعرفني، وبينما أمي تودعني بدموع حارقة، أمسكني أبي من ذراعي بشدة وانتزع مني غودالوبي حقق ما كان يهددني به دائما، وجعلني اكتشف معنى قسوة لم أنسها طوال حياتي، لقد تخلص مني، سلب براءتي وكسر دميتي ومعها قلبي ..

تحولت بعد عام فقط من زواجي، من طفلة تداعب دميتها إلى أم تلاعب طفلتها ثم أطفالها، كبرت، شاب شعري وتجعد وجهي، وكلما غفت حفيدتي في حجري، ألعب بدميتها.. فالطفلة الصغيرة ذات الروح المشاغبة ترفض أن تكبر، وتأبى أن تبقى غودالوبي وحيدة هناك.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى