ط
مسابقة القصة القصيرة

قصىة (موعد مابعد الظهيرة) مسابقة القصة القصيرة بقلم / سيدة نصرى . تونس

مسابقة القصة القصة القصيرة
موعد ما بعد الظهيرة
مرة أخرى سماء المدينة تكفهر ويشرع الرذاذ بالتساقط تطوح به نسمات صقيعية, الثانية ظهرا ..تبتعد عن كشك المحطة , تركّب رقمه, هذه المرّة لن تتردد ستمضي قدما , حسمت أمرها .
بعد رنتين جاءها صوته رقراقا معتقا مرحبا – أهلا بالناس الملاح – سألها عن مكان تواجدها – في محطة الياسمين – ردت.. ثم تساءلت فيما بينها – لما فعلت ذلك ؟ – وظل السؤال معلقا. في المحطة الأولى نزلت من الحافلة بمشقة فحقيبتها الكتانية الزرقاء كانت ثقيلة , أسرعت بدخول محطة المترو- وتوارت بين المسافرين , تأخر المترو أو هكذا بدا لها .كانت متوترة , مرهقة , وجائعة .عنا لها أن تذهب لشراء “سندويتش ” لكنها قمعت تلك الرغبة خشية التأخر وتسمرت مكانها – هل سيتأخر طويلا ؟ – سألت رجلا كان يقف حذوها – لا أظن – بلا مبالات واقتضاب رد .معظم المسافرين شباب وجلهم نساء وفتيات في كامل أناقتهن والإشراق في بناطيلهن المسرفة الضيق ,تلك التي تكشف أكثر مما تستر عن أنوثة متوثبة وفاتنة .
حمدت الله حين استقرت داخل القطار بعد محاولات مستميتة و تدافع بالمناكب والأيدي والكلمات المشدودة . كان الجو خانقا داخل المترو, وبدت كما التمثال في وقفتها والحقيبة بين قدميها من شدّة الازدحام , تشاغلت بتذكّر أسماء المحطات التي عليها إجتيازها قبل الوصول الى المحطة التي ستأخذ منها المترو للوصول للمحطة التي عليها أن تأخذ منها القطار الى حيث الحطة التي أوضح لها بإسهاب النزول فيها .لم يتحرك القطار بدا كأنه يئن بحمولته البشرية ويتعمد الإبطاء , صداع يستبد برأسها مع خواء بالمعدة.. الرحلة استنفدت الليل بطوله ولا زالت لم تبلغ غايتها – الأهم – صحيح قضت مترة ما قبل الظهر بين الأنهج والمؤسسات لكنها كانت مشاغل ثانوية .وكادت تباغتها ابتسامة لولا أن كبحت جماحها في اللحظة المناسبة . القهوة التي تناولتها مع ” الكروسون ” تبخر مفعولها, وجوالها لم يكف عن الرنين لكن لا يمكنها الرد فقد كانت تخشى عمليات السطو فقد طالت حتى رجال الأمن أنفسهم . لقد حذرها الكثيرون من مثل هذه الأماكن المزدحمة التي غدت مرتعا للصوص والنشالين ووجهتهم المفضلة وسط انفلات أمني مريع في مدينة أصبح كل شيء فيها مباح فالزمن حر- والظروف متاحة لكل النشاطات , فالقانون في إجازة ثورية – منذ إستهداف المنظومة الأمنية برّمها من عتاد ومقرّات ورموز يشتبه في ولاءاتها .
في المحطة الرابعة بدأ الانفراج وبدأت الزحمة تخف , أخيرا تراءى لها مقعد شاغر تركته سيدة ثلاثينية , إنقضت عليه وتنفست الصعداء. مد متسوّل متوسط القامة يميل الى الامتلاء يده إليها يطلب صدقة بنبرات وقحة تحمل ملامح العداء , في نظراته التائهة وحركته المخدرة حقد دفين . انكمشت في مقعدها وتجاهلت نداءه . عاد جوالها للرنين وهي تترك القطار .. سألها أين وصلت – مازلت في المحطة – أخبرته. حثها أن تأخذ سيارة تاكسي – فهي أقل معاناة أجاب بأنها تقاطعها لأن سواقها أيضا لهم أساليب مبتكرة في اللإحتيال وكم مرّة رفضوا- إستغاثاتها – في زيارات سابقة بدعوى أنها ليست في طريقهم مع أن التاكسي تكون فارغة , كم تعجّبت من موقفهم الإستفزازي ذاك , ففي هذه المدينة المتوسّدة للخليج والسّابحة وسط الخضرة و البحيرات كل شيء يسير عكس المنطق , فأجابها – : كلنا في لحظة إنعتاق متخمّرة وكل شيء فيها منفلت لن يتأخر أكثر… – قطعت المكالمة وقد كاد المترو يمر ويتركها .
تلك الضاحية التي غدت مدينة واستقلت إداريا عن المدينة لا زالت تحافظ على ورنقها المعماري الخاص وحدائقها المضمخة بشذا النرجس والفل والياسمين سبق وإن عرّجت عليها منذ عشر سنوات وهي في طريقها إلى المطار, سائق سيارة الأجرة مر لإيصال بعض الأغراض إلى زوجته أحد الوجهاء أصحاب الأذرع. الإقتصادية الأخطبوطية التّي تشمل البلاد على إمتداد جغرافيتها .. تغيّرت كثيرا ,حتى بدت لها متاهة , سألت إمرأة تقف قبالتها عن المسافة التي بقيت عن المحطة التي حددها لها – مازالت بعيدة – قالت .
الزمن يضغط ولحظاته تتآكل وفي كل محطة يبدو لها يترنح ويتباطؤ عن قصد هذا المترو اللعين.
أكثر من عقد مر منذ التقته تلك الليلة , كان المكان يضج بالمدعوين و الموسيقى . كانت تجلس الى يميينه زوجته المصون , بقامتها الممشوقة المشدودة وملامحها وهيئتها الأرستقراطية, بأناقتها المحتشمة وقطع المسوغ التي توشي معصميها الممتلئين والجيد .
هل هي وسامته أم الكاريزما التي تسربل حضوره من لفتت انتباهها . لمّا تواصلا – صدفة – إفتراضا أكّد لها أنّ ذاكرتها باهرة – حين ظهرت لها صورته على شاشة حاسوبها بلا مقدمات بدت لها متحوّلة وذات ملامح متداخلة وتختلف كثيرا عن الصورة التي تتصدر صفحته تلك التي تحتفظ بها في أدراج الذاّكرة .
توقّف المترو في محطته الأخير وكانت شبه خالية .أمامها كشك محمي ب ” بتيندة ” تحميه من غوائل الطبيعة, يبيع السجائر والمياه الغازيّة والفواكه الجافّة, يتحضّب حوله مجموعة من الركاّب والطّلبة .
اندفعت نحوه بكلّيتها تدعوه وتمدّ يدا وشبح ابتسامة تحط على هامته الفارهة , ظل الكهل الستيني جامدا يرمقها ببرود وحيادية مقيتة , غمغمت واعتذرت وارتدّت اندفاعتها خجلة , يينما ظل الرجل يرمقها بسحنة موصدة . زحمة السيارات والمشاة , المطر ,السّماء المربدة وضجيج ساعات الذّروة جعلها ترتبك ويضطرب تركيزها ..عادت تطلبه , قال لها أنّها تركت محطته خلفها . طلب منها الانتظار هناك ريثما يلتحق بها .
كان يسير الى جانبها , يطلب منها حمل الحقيبة التي تخففت من أثقالها.رفضت . كان الشيخ بصوت منكسر وبملاح شبه حزينة , ولم تكن تستمع اليه فقد كانت مشغولة بما دار بينهما في مقهاهم – كما قال. في البيت الذي تركت صاحبته كل شيء على حاله. دولابها وما يحتويه , شرشف السرير السكري , بصماتها ورائحة عطرها مازالت متشبثتة بأواني المطبخ بالرغم من مرور خمس سنوات مذ غابت . رفضت في البداية دعوته وتحت إصراره قبلت , وهي تلج غرفة الاستقبال داهمها شعور أنها لصة تتسلل الى بيت إمراة في غيابها . كان الشيخ يتحدّث عن المرحومة بحنين يخالطه الأسى والوحشة , أثناء سرده لحكاياتهما كادت دمعة تغافله وتتدحرج ولكنها تكلست في المحجرين الغائمين ..حدثّها عن الأبناء والأحفاد بعاطفة جيّاشة أيضا عن العهد الذي قطعه لها بأن يظلّ وفيّا لحبّهما مهما كلّفه الأمر من عنت ووحدة . توقف المطر عن النزول وبدأ الظلام بشر سدوصفرالمترو, فصمتا معا ودّعها .. وحين تلاشت وغيبها الطريق تحرك عائدا وغاب في عتمة المساء .

” سيدة نصري / توزر – تونس / رقم الجوال 0021696667126 “

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى