ط
مسابقة القصة القصيرة

لاجئ فى الجنة .مسابقة القصة القصيرة بقلم / عبد المالك لكيرد من الجزائر

الاسم واللقب :عبد المالك لكيرد
العنوان : سطيف الجزائر
ايميل : [email protected]
نوع المشاركة : قصة قصيرة
العنوان : لاجئ في الجنة

لاجئ في الجنة

اعتاد أبو فادي اصطحاب وحيده فادي إلى كل مكان يقصده، فكان كثير التردد على شاطئ البحر أين يشخص بكل جوارحه إلى تلك الأفاق ويختلجه الخوف من الغياهب والأعماق، حتى أنه كثيرا ما كان يغوص في بحر التفكير العميق وينسى بأن عليه العودة إلى مسكنه العتيق، فادي ذلك الولد الصغير الذي اعتاد الشاطئ لا يتوانى في طرح ما يخطر على باله من أسئلة واستفهامات على والده عن سبب تردده على هذا المكان، وهذا ما دفعه إلى اشباع فضوله بالسؤال المُلِحِ على والده ” أبي إنني لا أرى لهذا البحر العملاق نهاية، فإلى أين تذهب هذه الطيور و تغدو وهذه المراكب دون خوف من الغرق؟ يا ترى ماذا يوجد وراءه؟ حينها أجاب الوالد والدمع يملأ لحظه، إنهم يذهبون إلى جنة طاب نعيمها وسيأتي اليوم الذي ستطأها أقدامنا إن شاء الله.
في تلك الليلة لم يستطع فادي النوم، بل كان شاردُ ذهنُهُ مبعثرٌ تفكيرُهُ سارحٌ في خيالِهِ حول تلك الجنة التي حدثه عنها والده، حيث أن والده لا يفوته أي مساء دون أن يتأمل تلك الجنة عند الشاطئ. أعاد فادي وكرّرَ السؤال على أمه لعلها تشفي غليله وتروي عطش تفكيره، لكن الأم لم تكن تعطيه جوابا محددا بل كانت تطيل الحديث معه وتتشعب في موضوعات أخرى بغية التشويش عليه وشغله عن سؤاله بأشياء أخرى، فهي تعلم أن تلك الجنة ماهي إلا حلم بعيد يراود زوجها الذي لم يجد حلا غير الهجرة وما له حيلة لتحقيقه، فالجشع يطبع قلوب أصحاب قوارب الهجرة غير الشرعية و لم يكن همهم إلا جمع المال من المستضعفين الهاربين من جحيم حرب أتت على الأخضر واليابس فأكلت الغث والسمين و لم تُبْقِ ولم تَذَر على تلك الأرض ما يشفع للبقاء فيها، كان أزيز الطائرات اللعين يصم الأذان في كل حين، وأصوات التفجيرات والقنابل لا تراوح ذاكرة المكان ولا الزمان، فالعيون ما عادت تحتمل رؤية الدماء، والدمع جف كما تجف الوديان إذا شحت السماء، والقلوب ماتت ولم تعد تفرق بين ما ينبت زرعها وما يكوي لحمها، هذه الحرب التي لم يُعرَف لها هدف ولا حتى طرف، وكأن العالم كلَّه اجتمع على تجويع شعب ذنبه أنه استوطن حديقة غناء وواحة فيحاء لحضارة أسسها العظماء، فاستهدفها الجبناء واستعملوا الدهماء في شراء الذمم وتسليح المرتزقة حتى جعلوها مذبحا على الهواء الطلق وهدفا للطامعين في السيطرة على الشرق، في ذلك الشرق الأوسط لا تنطفئ حرب حتى تحين ساعة أخرى، فانقضوا على الأرض و خيراتها كما تنقض الضباع على فريستها و هكذا دمروا حضارة أمة.
عزم أبو فادي الرحيل من هذا الجحيم والويل، فطلب من زوجته أن تعطيه ما تبقى من قطع ذهب زواجهما لعله يسدد ثمن الرحلة نحو الجنة الموعودة كما يراها في أحلامه، لكن زوجته لم تكن تراها جنة بقدر ما كانت تبدو لها هروبا نحو مجهول بل أكثر من ذلك هروبا من موت إلى موت، لكنها لا تملك إلا أن توافق على المخاطرة، فالجارة أم سلوى أخرجها القدر عبر قارب خشبي من جحيم الحرب إلى نعيم أوربا، و كثيرون اتخذوا هذا الحل سبيلا ونجحوا في بناء حياة جديدة في أمن وأمان عندما فتحت أوربا مصراعيها لاستقبال اللاجئين الذين أنهكتهم تلك الحرب الدائرة على أرضهم.
عند الفجر خرج أبو فادي إلى الشاطئ على غير عادته، ليس متأملا كما اعتاد بل عازما على المخاطرة هذه المرة، حيث أن المصير قدر محتوم ولا مفر من المواجهة، في ذلك الشاطئ لمح جمعا من النساء والأطفال، وبعض رجال مجتمعين ورحال على الرمال مبسوطة، وقوارب خشبية بعضها إلى الأرض و جلها في البحر، وكان بعض رجال تبدو عليهم ملامح الصيد والبحر على محركات بالبنزين يملؤون وعلى إشعالها يعملون، في حين كان أحدهم يخطب على الجميع، كان على هيئة أمير البحر، وسط مركب يضع رجله على حافته وكان يحمل كراسة وقلما كأنه يسجل الحجوزات للمهاجرين، عندما اقترب أبو فادي كان سجل الحجوزات قد امتلأ ولم يبق فيه مكان أخر، ثم سمعه يخطب في الناس قائلا:” من لم يحجز مكانه اليوم فعليه العودة غدا ولا مجال للتأخر أو تضييع الوقت و اعلموا أنه لن يصعد أحد إلى المركب قبل دفع الرسوم.
لم يكن أبو فادي متأكدا من أن ذلك القارب المتهالك سيوصله وأهله إلى جنته الموعودة، فالقارب حجمه صغير مقارنة بتلك الأعداد الغفيرة من المهاجرين، وكان محركه صغيرا لا يعطي لمن رآه حق الجزم بقوته، لكن لم يكن باليد حيلة، فتلك القنابل التي أخطأتهم في مرات عديدة كان لابد أن تصيبهم في واحدة جديدة، لتجعلهم رمادا تنثره الرياح من فوق الأرض إلى تحتها و تنهي معاناتهم، أما المأساة كلها فتكمن في أن النجاة من القنابل و القاذفات تجعلهم غنيمة للمرتزقة الذين يجوبون الشوارع والأزقة، و الذين لا يتوانون في قتل من يشاؤون ممن يعترض حكمهم، فهم تحكمهم أهواؤهم وغرائزهم الشيطانية ليغتصبوا النساء وينحروا الرجال أمام مرأى الخلائق وأهاليهم وليسْبُوا الأطفال والبنات لاستخدامهم في ما قذر من مهمات .
لما عاد أبو فادي إلى بيته وأهله وجد زوجته وابنه في انتظاره، فأخبرهما بأن موعد الفرج قريب. طاف الرجل أرجاء بيته شبرا شبرا، فقبَّل الجدران واستحضر حلو الحياة وماضي الزمان، فكان يودع كل حبة تراب ويقف عند كل نافذة وباب، ثم وقف أمام كرمة في فناء داره لكنه لم يستطع الصمود واقفا فجثي على ركبتيه وأجهش بالبكاء وأطلق العنان لدمعته المهراقة، ثم قبَّل الشجرة واحتضنها كما تحتضن الأم صغيرها، و كان كل هذا أمام ناظري ابنه فادي الذي انطلق يجري نحو والده والدمع كالسيل يجري على خده، ” أبي، لقد أخبرتني بأن هذه الكرمة تاريخ أصالة عائلتنا وقد عمرت أجيالا و توارثناها أبا عن جد فلماذا لا نأخذها معنا ؟” هنا لم يتمالك الرجل نفسه وانهار باكيا يتلعثم في قوله ” يا بني ألم تدري بأنني سأكتب خائنا !! فأنا لم أكن جديرا بحمل هذا العبء وهذه الأمانة التي عرضها عليّ جدك من دون إخوتي! ” لملم الأب أشلاءه واحتضن ابنه ودخل المنزل ليجهز بعض الأغراض بغية السفر.
احتدم الصراع و استعرت المعارك في تلك الليلة غير بعيد عن البلدة، وثارت جلبة في الحي أيقظت الجميع فتعالت أصوات بكاء الأطفال ونواح النساء، كانت هذه أخر ليلة يضع فيها فادي رأسه على وسادته، استيقظ الجميع فزعاً فخرج الرجل ليرى زحفا من الناس حاملين ما يحتاجون من الأغراض متوجهين إلى المجهول، استوقف أحد الهاربين و سأله عن السبب والوجهة فأخبره بأن جماعات المرتزقة و المسلحين ستدخل البلدة قبل الفجر، أسرع الأب إلى المنزل و نادى على ولده وسيدة بيته، فلم يعد هناك أمل في هذه الحياة مع هؤلاء المجرمين، انضمت العائلة إلى صفوف النازحين الذين كان عددهم كبيرا، كان الليل أدهما والقمر خاسفا خلف غيم كاشف، كانت رائحة الخوف تملأ الشوارع فكانوا يهرولون للخروج من البلدة قبل أن تلحق بهم الميليشيات، لقد كان العدد كبيرا والتدافع شديدا، فادي ممسك بأمه و هي تحمله تارة و تضعه تارة أخرى و كانت بدورها تمسك زوجها والجميع في خط واحد كي لا يتفرقوا و يتقطع حبلهم وسط ذلك الحشد الكبير من الناس، في هذه اللحظات تسارعت الخطوات وارتفعت الأصوات بالبكاء والصراخ ” الله وكيلكن الله لا يسامحكن، هجرتونا، قهرتونا، حسبي الله ونعم الوكيل ” و كأن الساعة زلزلت فافترقت السواعد المتماسكة وذٌهِلت المرضعة عمًّا أرضعت والزوجة عمَّن ضاجعت واختلط الحابل بالنابل، ولم يعد أحد يعرف أحدا بسبب الظلام الدامس والتدافع الشديد، ارتخت يد فادي عن أمه فغاب عنها وجوده ولم تعرف له مكان، فانطلقت بالنداء والنواح جاثية، ولم تقف بعدها فدحستها الجموع حتى أسقطتها وزوجَها، ليتأخرا عن الركب فأدركتهم صواريخ الطائرات المشؤومة التي قضت على أبي فادي و حلمه وزوجته. استمر زحف الجموع إلى الشاطئ ومع بزوغ الفجر التم شمل الأفراد في مجموعات بين الجيران والعائلات عند شاطئ البحر وكلهم يتفقد قريبه ويسأل عن فقيده، كانت القوارب تعج بالمهاجرين وكان الجميع ينتظر انطلاق المراكب للنجاة كأنهم اختاروا أن يكونوا وجبة للحيتان بدل الديدان أو أن يموتوا بطريقة أخرى، ركب الجميع وحرصوا ألا يتخلف أحد، إلا امرأة وطفلا صغيرا كانا على الأرض مذهولين في وجوه الراكبين كأنهم غرباء أجبرهم القدر على فقد أحبائهم فبقيا وحيدين. توجهت المرأة إلى قائد المركب تتوسل أن يحملها معه لكنه نهرها ووجَّه لها عبارات نابية لأنها لا تملك ثمن الحجز، ولما أكثرت عليه بالإلحاح دفعها على الأرض قائلا” خذي ولدك وابتعدي من هنا وإلا سنغرق جميعا بسببك ” توجهت تلك المرأة بنظرها شمالا فرأت طفلا صغيرا كَانَتِ الدُّمُوعُ تُرَاوِدُ أجْفَانه، فعادت تتسول مرة أخرى، خذوا هذا الولد معكم واتركوني أنا، إنه صغير ووزنه لن يؤثر على المركب، حرام أن تتركوه وحيدا يواجه مصيره!، عبثا تحاول فلم يكن هناك أحد ليعيرها اهتمامه لأن الجميع شارد والخوف يملأ صدره وكل همِّهم هو أن يقلع هذا القارب المتهالك ليخرجهم من تلك المأساة، انطلقت الرحلة وكان الأفق حالكا منبئا بعاصفة مطرية، أما تلك السيدة فعادت لتحتضن الصغير وهي مكسورة الحال تبكي نفسها و تبكيه، سألته عن أهله فأخبرها بأنه لم يرهما منذ أمس لما اشتد التدافع و لا يعرف مكانهما إلى الأن، وقفت المرأة عند الشاطئ تتأمل الأفق وهي تحتضن فادي، لما سألها، ” إلى أين سيأخذهم ذلك القارب ؟” فقالت له والحروف تتقطع عند شفتبها ” سيأخذهم إلى الجنة”، في لحظة حسرة انطلق الولد يركض والمرأة تلحقه، انتظر يا ولدي احذر أن تسقط في الجرف، فقال لها الحقي بي، سأذهب لأرى الجنة من فوق الصخر، لقد كان سريعا جدا حتى أنه وصل أعلى الجرف قبل أن تدركه وهو يشير بأصابعه الصغيرة إلى المحيط، فلم تكن لتراه إلا وموطئ قدمه يتفتت عند باب الجنة …

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى