ط
مسابقة القصة القصيرة

ليل وألم ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / سمير دعاس من الجزائر

مسابقة مهرجان همسة الدولي لعام 2016
الاسم واللقب: سمير دعاس
البلد: الجزائر
رقم الهاتف: 213776377955
البريد الإلكتروني:[email protected]
نوع العمل: قصة قصيرة
العنوان: ليل وألم
في مساء أحد أيام الشتاء الباردة، عندما تعلن الرياح قدومها بعنف.. فتخاف منها الشمس وتبخل بأشعتها.. فيحجبها سحاب قاتم مرسوم عليه حالة الطوارئ.. فيختفي الحنان بين سطوره ويرتعش كالطفل العاري الذي يحتاج إلى التدفئة وهو بجانب النار…
غسلت الأمطار آخر بقايا الثلج الناصع البياض في الساحة..
وقف الشيخ العجوز.. )عمي محمود(. ذلك المجاهد العظيم حقا، والذي شاب رأسه ولم يشب قلبه.. وشاخ جسده ولم يشخ إيمانه .. وانحنى ظهره، ولكن عقله ظّل مستقيما سديدا.
وقف متأملا، مسندا لجسمه الذي أنهكته سنين الحرب إلى عمود يراقب جداول المياه الرقيقة والسريعة تنصب من كل جانب… وعلى حين غرة وقعت عيناه على حذاء مطاطي عرفه من فوره، وكان قد قطع عند مشط القدم كما يناسب قدمي زوجته المنتفختين… رفعه عن الأرض وأدخله إلى الغرفة، ومرة أخرى ملأ فؤاده فراغ رهيب مثل الذي طفى عليه حين حملوا نعشها بعيدا..
هناك وبأحد قرى الشرق الجزائري. حيث الوديان العابقة بالعطر والزهر، وألوان الطبيعة الساحرة، كان المستعمر الفرنسي يفعل فعلته بأهالي تلك القرى. ويعيث فيها فسادا.. بكل ما أوتي من رعونة واستدمار..
في ذلك المساء الممطر كان عمي محمود مع موعد أخر كله أحزان وأشجان… فكم كانت الصدمة كبيرة إلى قلبه حين جاءه بعض الرفاق يحملون ابنه الوحيد وهو ينزف دما من كل جسمه.. وطرحوه أمام عتبة البيت، وهم يتمتمون بصوت خافت: لقد استشهد جميع رفاقه.. وجراحه بليغة يا عم…
نظر إليه بنظرات مُلتمعة يؤكد بريقها الحاد على الرغبة في البكاء.. وقد أوشك أن يهمّ به لكنه تشجع كعادته ولملم دموعه، اقترب من ابنه الطريح أمامه قائلا: لن أدعك تموت …
وأضاف: يجب أن تعيش! ثم نادى بأعلى صوته: تعالوا ساعدوني على وضعه فوق كتفي..
ثم وما إن أحسّ باستناده فوق كتفيه بادر بالخروج من قريته، ومضى يمشي دون أي التفاتة إلى الوراء .
كان الجو مظلما وممطرا بعض الشيء.
وبعد مدة من الزمن نادى على ابنه: أنت يا من تجثم هناك فوق.
أخبرني إن كنت تسمع شيئا أو تلمح ضوءا من أي جهة.
– لا أرى شيئا – قال الابن
– لابد أن نكونا قريبين- قال عمي محمود
– نعم لكن لا أسمع شيئا.
استمر الخيال الطويل والأسود للرجلين يتحرك صعودا وهبوطا، يتسلق الحجارة، يصغر ويكبر..
كان خيالا واحد يتأرجح.
وبعد توقف المطر من الهطول، كان القمر يتصاعد من الأرض مثل كتلة مستديرة من اللهب.
– المفروض أن نكون قد وصلنا إلى تلك القرية الآن، أنت يا من لا يعوق أذنيك عائق، هناك فوق، أرهن السمع جيدا، وتأكد إذا كان يصل نباح الكلاب.
لا تنسى ذلك…
– لم أنسى لكنني لا أسمع شيئا، ولا أثر لأي مخلوق..
– التعب يقسم ظهري… أنزلني إذا – أجاب الابن.
نكص على عقبيه حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة، وتوقف لدقائق استجمع أنفاسه وهناك عدلّ حمولته دون أن يلقيها على الأرض، لم يفكر في الجلوس على الرغم من ساقيه الخائرتين، لأنه لو فعل لما استطاع من جديد رفع جسد ابنه الجريح الذي ساعده الآخرين قبل ساعات، في تحميله على كتفيه، ومن وقتها وهو يسير به هكذا.
– كيف حالك؟
– في غاية السوء.
كان يتحدث قليلا كل مرة أقل من سابقتها. تمر عليه أوقات يبدو فيها نائما، وأوقات أخرى يتملكه فيها البرد.. كان يستدل على الوقت الذي تمتلك فيه ابنه القشعريرة من هزاته له، ومن رجليه الملتصقتين بجنبيه، وأيضا من يديه الملفوفتين حول عنقه عندما تحركان رأسه حركات توقيعية… حيث يصرّ على أسنانه حتى لا يعض لسانه، وعندما يذهب هذا عن ابنه كان يسأله:
– تؤلمك جراحك كثيرا؟
– شيء من هذا القبيل.. كان يجيب.
– كن قويا وتحمل..
حتى هو لم يعد يقوى على هذا الحمل. فبعد مضي ساعتين من المشي كان يحس وكأن جسمه تخدّر كليا..
ولكن ستّون سنة لشيخ مثله تكفي وتزيد كي يتمرن على استيعاب الألم وكتمانه.
أضاف قائلا: لا تخف سوف تُشفى وتقوى على مواجهة هذا المستعمر الكّلب.. وضغط بشدة على الكاف عند نطق هذه الكلمة.
قال له في البداية :” أنزلني هنا .. واتركني هنا .. اذهب وحدك. سألحق بك غدا أولما أسترد بعض عافيتي” .طلب منه هذا ما يقارب من الخمسين مرة. أما الآن فلم يعد يقوى حتى على مجرد طلب هذا.
كان القمر هناك، في مواجهتهما، قمر كبير ملون يغمر عيونهما بالضوء، ويبالغ في تسويد خياليهما على الأرض… وكأنه يسمع حوارهما.. ويحس بآلامهما. ليضفي على هاته الرحلة مزيدا من الشجن والحزن والألم.. في قالب جد مأساوي…
– لا أرى موضع قدمي ولا أدري إلى أين تأخذاني..
– لم يجبه أحد.
أراد أن يخفف عن ابنه بعض الشيء وحتى عن نفسه هو أيضا فأضاف: لا بأس يا بني بين الحين والحين لا بد من آهة هنا.. وأنّة هناك.
وفي حقيقة الأمر كان يشعر بالأنّات وكأنها إبر.. والآهات وكأنها خناجر.
– هو الآخر كان معتليا هناك فوق، ملفوفا كله بنور القمر، وبوجه ممتقع ينزف أحيانا بالدم، عاكسا ضوءا معتّما. وهو هناك تحت.
– ألم تسمعني؟ أقول لك: إنني لا أرى أمامي.
بقي الآخر صامتا.
واصل سيره متعثرا.كان ينكمش ثم يفرد قامته ليعود للتعثر من جديد. ثم يحني ظهره مجددا ويمشي كما لو كان مصابا في عموده الفقري.. (في حقيقة الأمر فهو يعاني من ضغط دموي مرتفع وروماتيزم مزمنة تمنعانه من الانفعال أو حمل أي ثقل)… لكن الأُبوة فيه حالت دون ذلك.. فهو يرى أن حياة ابنه واجب شرعي لا بد منه..
فلا يريد أن تكون مصيبته مصيبتين بعد وفاة زوجته..
– ليس هذا هو الطريق. أخبرونا أن القرية على مرمى حجر بعد الجبل، وها نحن قد تركناه وراء ظهرنا ولم تظهر بعد، ولا يُسمع صوت يستدل به على قربها.
– أنزلني يا أبي.
– أَتشعُر بالألم؟ – نعم.
– سأوصلك مهما بعدت الشُّقة. وسنجد هناك من يعتني بك. يقولون إنا بها طبيبا، وسأحملك إليه، احتملتك ساعات لأعتني بك ولن أتركك طريحا لينال منك هؤلاء الكلاب…
ترنَّح قليلا، خطى خطوتين أو ثلاث يمنة ويسرة، ثم انتصبت قامته من جديد.
– نعم سأحملك.. كن قويا فقط.
– أنزلني.. خرج صوته هذه المرة ضعيفا، قريبا من الهمهمة، أريد الاضطجاع ولو قليلا.
– نَم حيث أنت..
كان القمر يواصل صعوده، بلون يقترب من الزرقة، فوق سماء صافية، غمر الضوء وجه عمي محمود المُبلل بالعرق، وأغمض عينيه لكي لا ينظر أمامه، ولم يكن باستطاعته طأطأة الرأس الذي تتشبث به يدا ابنه.
– لا أفعل هذا من أجلك بل من أجل المرحومة والدتك، أفعله فقط لأنك كنت ابنها.
كانت ستؤنبني لو تركتك ممدا هناك، ولم أحملك لمن يداويك، كما أفعل الآن. وأراد أن يأمره ببعض الكلمات حتى لا يشعره بمسافة الطريق ولربما أنساه بعض آلام جراحه.
كان يتصبب عرقا أثناء كلامه، ولكن هواء الليل كان يتكفل بتجفيف عرقه، ويعود فيعرق من جديد فوق عرقه الجاف.
– سينكسر ظهري، لكني سأصل بك إلى القرية.
– أنظر حواليك لعلك ترى أو تسمع شيئا.. تستطيع فعل هذا من حيث مكانك، لأنني بدأت أشعر بالصَمم.
– لا أرى شيئا.
– عاقبة هذا وخيمة بالنسبة إليك يا بني.. تذكر هذا. أُنظر جيدا..
– أنا عطشان.
– تحمل.. لا بد أننا قريبين الآن، نحن في الثلث الأخير من الليل، لا بد أن يكون قد تناجى إلى أُذنيك نباح الكلاب، أو صوت الرصاص.. لأن الثوار في هذه القرية في مواجهة دائمة مع الفرنسيين..
لقد كان الليل طويلا.. وطويل. ليل لا ينتهي طوله وفجر لا يبزغ… وتباشير صبح لا تظهر.
– أرهن السمع جيدا. لكن الابن وكأنه مُخدر كليا.. فلم يعد باستطاعته سماع صوت، عدا عزف الرياح ووقع المطر الذي بدأ ينهمر على جسديهما…
– أعطني ماءا.. قال الابن بصوت جد خافت
– المكان يخلو من الماء. لا يوجد سوى الحجارة، تحمل حتى ولو كان الماء موجودا فلن أُنزلك لتشرب، لأنه لا يوجد أحد يساعدني على حملك ثانية وأنا وحدي لا أقدر.
– الألم يزداد والعطش يقتلني والنعاس يثقل رأسي.
أحسّ بتراخي ركبتي ابنه الذي اعتلى ظهره، وبعدم تحكمه بقدميه، وبشعوره في التمايل يمينا وشمالا.
– ها هي ذي القرية. شاهد أسقف المنازل وهي تلمع تحت سقوط الأمطار.
– تولد لديه انطباع بأن ثقل ابنه يسحقه عندما أحس بانثناء مفاصله، وارتخاء عضلاته ويداه اللتان لم تبقيا متشبثتان بعنقه.
– أعلم أنك نائم يا بني.. أغمض عينيك فقط..
ولم يكن يعلم المسكين أن الثقل الذي أنهكه صار جثة هامدة فوق كتفيه.. بعد أن نفذت آخر قطرات الدم، التي ظلت تنزف دون توقف.
غريبة فعلا الأقدار.. حملته أمه تسعة أشهر في بداية حياته، واليوم يحمله والده عند نهايتها…
وصلا إلى أول بيت في القرية. مال على أحد جدرانه، وأَنزل ابنه (جثة ابنه) بكل هدوء. وألقى بجسده.
هو الآخر.. كان منهكا تماما، ومنَّكل الأوصال.
أخذ نفسا عميقا، وأمعن النظر في نور الفجر المنسكب على الدنيا قائلا: ألم يأن للصبح أن يبزغ !!
نظر إلى ابنه الممدد، وحاول إيقاظه من نومه – كما كان يعتقد- لكن لم يتلقى أي رد. فعلم حينها أنه فارق الحياة، اغرورقت عيناه وشدَّ على يديه حَسرة وألما.. وأدرك أنّ رياح الردى العاتية قد هبّت منذ حين وأطفأت شعلته الأخيرة.. وحَطَّمت قلبه مرة ثانية.
وصرخ صرخة كادت تخرج معها أنفاسه: ألم أقل لك تحمل.. يكفيني فخرا أمك الشهيدة.. وقبّل جبينه الندّي،
ثم حمله بين يديه، ودموعه تتساقط دون توقف.
هذه المرة استطاع حمله دون أيّ مساعدة. ولم يحس أبدا بثقل جثته.
تقدم بخطوات ثقيلة إلى الأمام مسترجعا بذاكرته آخر كلماته: كيف حالك؟
في غاية السوء.. لا أري شيئا.. أنا عطشان.. أعطيني ماءا.
– سمير دعاس / الجزائر

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى