ط
مسابقة القصة القصيرة

مأساة على مسرح الحياة مسابقة القصة القصيرة بقلم /زهير عبد الجوادي

زهير عبد الجوادي
من ولاية الوادي الجزائر

مسلبقة القصة القصيرة
الاميل : [email protected]

مـأسـاة على مسـرح الحيـاة

الحياةُ في سفـرٍ مستمرّْ ، والإنسانُ البائسُ دومًا يقتفي آثارها وسط مَمرّاتِ المَلَلِ الثُّعْبانيّة ؛ فمَرّةً تُرعِبُه الحقيقةُ المُختبِئةُ بين زوايا الدَّيْجُور ، ومرّةً يفاجِئُه رذاذُ الأفراحِ الغريبةِ المُتشرّدة ، فيسْتَحِمُّ برذَاذِها ولكن سُرعانَ ما تَجِفُّ على ظَهر قلْبِه وتتحوَّل إلى بُخارٍ من الكَدَرْ ، يَظلُّ يُنادي من بين أنياب الشّقاء طالباً النجدة صارخاً في آذانِ الزمنِ الأخْرس ، مُخترِقاً ظلام العبوديّة والاضطهاد ، فلا يَلبثُ الصوتُ أن ينكسِرَ على صُخور الدَّهْر ويتناثر فُتَاتُهُ بين تجاويف الأزَمات الهائجة .
الآنَ تبدأُ المأساة … فمَع إشراقةِ الصباح تُخْتَزلُ أنَّاتُ الأرصِفةِ الجائعة بعد ليْلٍ عَصِيبْ وتُفيقُ الأرجاءُ المُتناثرة من سُكْرةِ الكَرى … النُّفوس المُنْسحِقة تَجُرُّ وراءها أذيالَ تعاستِها وتنْقادُ نحو الأفق المَحْجوبِ بالهواجس .
لَكَمْ تمنَّى في قرارة ذاتِه ، وهو يَشُقُّ طريقهُ الطويل أن يُوَفَّقَ في الحصُول على ثمن الدواء … تذكَّرَ ابنَهُ وهو يئِنُّ في توجُّعٍ مَقِيتْ ، مسكينٌ هو لم يعُد يَحْتمِلْ ، الفقرُ أضْنى جسدهُ الهزيلْ ، والمرضُ سَحَقهُ كما تَسْحقُ الرياحُ الزُّهورَ المُشْرَئِبَّة …. بالأمسِ فقط أخَذه إلى الطبيب حين أَدْرَكَ خطر المَوقِف ، ودون أن يُكمِلَ الفَحْص قال له وقد إِنتَصَبتْ إِبتِسامَتُه الشَّوْهَاء على ملامح وجهِه المُحْتقِن :
– مُجرّدُ تَعبٍ بسيط ، سأكتب له بعضَ الأدوية التي تُساعده على الشّفاء فكُنْ مُطْمئِنًّا…
رجع به وقد أصبح مَدْيُوناً لذلك الطبيب الاستِغْلاليّ…. عادتْ بهِ الذِّكرى إلى طيْفِ زوجتهِ الجميل قبل عامين ، تَذكَّرَ يومَ كانتْ تَحْتَضِر جرَّاء َالجـوعِ والشّقاء ، قالت له وقْتهَا: أنَّ الحياةَ ما هيّ إلاّ غَرْبَلةٌ للآخِرة ، تَنْفِينَا نحنُ البُؤساء مِن مَمْلكتِها لأنّنا أَرْفَعُ مِن أَنْ نَنْحنِي لمطامِعِها ، والناسُ لا يُدرِكون ذلك إلاّ مَن عَرَفَها أو إِنْسَحَقَ بينَ عواصِفها … يَأْبَى الإنسانُ أن يَموتَ جَبَانًا … بَكى يومَها بِحرارة … عَرَفَ مَعنَى الوحْدةِ بَعْدَ إِمْرأةٍ عَظيمة ، وإِنْتبَه مِن شُرُودِهِ وهو يُكَفْكِفُ دمْعَةً سَخِيَّةً مِن مَدامِعِه ، رمَى بنَظْرةٍ شَارِدةٍ صَوْبَ الفضاءِ البعيد وإِسْتمرَّ في المَسير .
الطريقُ طويلٌ ومُتشَعِّبٌ تَشَعُّبَ الحياة ، والشّتاءُ جَمَّدَ كلَّ شيء حتىَّ القلوب … البارحَةَ
فقط جاءَه صاحبُ الغرفةِ التي يَسكُن فيها والتي تقابِلُ عِمارتَهُ الشَّاهِقة ، هيَّ غُرفةٌ
شاغِرة يكادُ سقْفُها يَتَداعَى مِنَ القِدَم أبْقَاهَا صاحِبُها لا لشيءٍ سوى تَخْليدًا لكلْبِه الذي كانَ يَرْعَاهُ ومَاتْ ، طلَبَ منه في قَسَاوَةٍ بَغِيضَةٍ ثمنَ الإيجَار ، و هدَّدَهُ بالطَّرْدِ إلى الشارع أو إلى أيِّ مكانٍ آخَر ، كانَ المَبْلغُ جائِرًا على أمْثالِهِ ، إِسْتَعْطَفَهُ وَقْتَها حاوَلَ أن يُفْهِمَهُ بأنَّهُ بائِسٌ ولا يَمْلِكُ حتّى ثمنَ طَعَامِهِ.. راجِيًا منهُ أنْ يُمْهِلَهُ ريْثَما يُشْفى إِبنُه ، ولكنْ كانَ كَمَنْ يَسْبَحُ ضدّ تيَّارٍ جارِفْ ، أَمَرَه ُفي لهْجَةٍ جافّة أنْ يَتدَبَّرَ أَمْرَهُ صارخًا في وجهه قائلا : نحنُ أيضاً بُؤساءْ لأنّنا نَؤُمُّ أمثالكُم ، هذا الأمرُ لا يَعْنِينِي …
وإِنْصَرفَ ويدُهُ تُدَلِّكُ بَطنهُ المُنْتَفِخَة وتَرَكَ الرّجُلَ يَلْتهِبُ مِن شِدّةِ الغيْظِ والحَنَق …
توقَّفَ للحظاتْ أَحَسَّ بالجـوعِ الشديد يُمزّقُ أحْشَاءَهُ ، إنَّه لم يَطْعَم شيئاً مُنذُ أوّلِ البارحة ، نَظَرَ إلى رِجْلَيْهِ الحافِيَتَيْن لقد أيْبَسَهُما البردُ وصيَّرَهُمَا كُتلةً واحِدة ، فكَّرَ أن يَشْتَري ما يَسُدُّ رَمَقَهُ ، كادَتْ تَسْتَهْويهِ الفكرةُ ، بَيْدَ أنّه ُصَفَعَها كما يَصْفَعُ شيئاً مُحَرَّمًا… تَخيَّلَ مَصيرَ إِبنهِ المُزْري ، أَلْقَى نَظْرةً أخيرةً على المَحَلِّ الذي يقِفُ قُبالَتهُ وغادر وهو يَلُوكُ حَسْرتَهُ المَريرة ، أخَذَ يَسْتجْدي المَارَّة ، بَعضُهُم رَأَفَ بحالِه ومَنَحَهُ دُريْهِماتٍ ممّا عندهُ ، والبعض الآخر كان يَسْخَرُ مِن هَيْئتِه البَالِيهْ .
شَعَرَ بالضّجَرِ مِن سَيْرِهِ الطويل ، فانْزَوَى تحت ظِلّ شجرة كثيفة الأغصان وبَسَطَ منديلاً أمامه ، أخذ يجُولُ بنظرِهِ في أرجاء المكانْ … لا شيءَ غيرُ عادي : المَحَلَّاتُ هيَّ نفْسُها ، المارَّةُ يُرَصِّعُونَ الأرْصِفةَ ذهاباً وإياباً كعادتهم ، بائعُوا العرباتِ المُتنقّلة يَصُمُّونَ الآذانَ بإشهارِ مبيعاتهم … كلُّ شيءٍ عاديّ إلاّ حالَتُهُ أخَذَ يسْترجِع ما دارَ بِخُلدِهِ … سأل نفسه : أيُّ حياةٍ هذه التي أتَخبَّطُ بين شِباكِها ؟ أيُّ حياةٍ هذه التي إِنقطَعَ فيها التّواصُلُ بينَ مُتَأَوِّهٍ يَغْزُوهُ الأفُقُ الحزينْ ، يقِفُ في مُفتَرقِ الطُّرق يقْتطِعُ منَ المَارَّة بعض رَذَاذِ الجُيُوبِ الشّحِيحَة ، وبين مُتَرَنّمٍ أسْكَرَه ُإِمْتِلاءُ بطنِهِ فَراحَ يَنتَقي أحلامَهُ الورْديّة ليُسافِرَ إلى الصباح ، وهكذا يظلُّ الواقِفُ واقِفًا بينَ غَفْوةِ الحظِّ ، ولَسْعَة الواقِع ، يَبْتَلِعُ الأماني جمرًا سائِغًا ، يَخْتَزِلُ بقوّةٍ جسُورَ الآهات ، ويَمْضي في المَسِير وقَدَمَاهُ تَدْمَى من أَشواكِ الدُّروبِ الجارِحَة ، ويَظَلُّ الثَّمِلُ ثَمِلاً يَعْتلي المَجْدَ ويتَّخِذُ من جَمَاجِم الضُّعفاءِ سُلَّمًا لِعِزّهِ … وتنَهَّد طويلاً وهو يُشَيِّعُ أحَدَ المُتصدّقِينَ بأدْعِيَتِهِ المُعْتادة ، إِسْتَرْعَى إِنتِباهَهُ صَوْتٌ نِسْويٌّ
كان لسيِّدةٍ مَوْفُورَةُ الصِحّة ، مُتوَرِّدة الخُدود تَقـول في نَبْرَةٍ تُمازِجُها القَهْقَهَة مُحَدِّثَةً
صديقتها : إنَّ العملَ في الشركةِ هوّ الذي أتَمَّ سعادتي وهنائي .
تَذَكَّرَ حالتَهُ ، إنّهُ طالما عَمِلَ وتَعِبَ ولكن أيُّ عملٍ ذلك الذي أَباَدَ معالِم جسدِه وكانَ في كلِّ مَرّةٍ يَضْمَنُ للطبيبِ رِزْقاً جديدًا ؟ أيُّ عملٍ ذلك الذي يُودِّعُ فيه شمسَ الشروقِ قاصدًا شمسَ الغُروبِ وبِأبْخَسِ أَجْر ؟ حتّى الأمَلُ الذي طالما ساوَرَهُ إِضْمَحَلَّ في عُبَابِ الأزمات وأصبحَ مُجَرَّدَ تِمثالٍ مَنْحُوتٍ وسَطَ ساحةِ الرُّوح صَعْبٌ أنْ يُنْفَخَ فيهِ ليَصِيرَ حقيقة .
قَضَى ساعاتِهِ سَارِحًا في غَيَابَاتِ خيَالِهِ لا يُنَبِّهُهُ إلاَّ إِرْتِطَامُ النقودِ التي يُلْقيِها المارّةُ مِن حينٍ إلى آخَرْ … لَسَعتْ سَمْعهُ أخيرا دقَّاتُ منتصف النّهار ، جَمَع ما حَصَدَهُ من جلوسه وإِبْتَسَمَ رَغْم أَلمِهِ : « ها قد إِكْتَملَ ثمنُ الدّواء » ـ هكذا قال في نفسه ـ حَثَّ الخُطى مُوسِعًا إيّاهَا صَوْبَ أوّلِ صيدليّة …. ، هَجَرَ الصّمتَ الذي طالما عَقَدَ لسانه ثمّ أَنْشَأَ يَتَرنَّمُ بألحانٍ قديمة .
كانت وَطْأَة الشّمسِ حارّةً رغم الشّتاء … عَلَى أنّهُ كادَ يطيرُ فَرَحًا حين وَفَّرَ ثمن الغَذاءِ أيضاً ، إِنْدَفَعَ قافِلاً إلى مأْواهُ وقد إِشْتَرى غذاءَهُ ودواءَ إِبْنِه ، تَخَيَّلﹶ وَقْعَ المُفاجأةِ على قلبِهِ الصّغير ، راحَ يتَصوَّرُها بشَتَّى الأَشكال إلى أنْ وَصَلَ إلى الحيِّ الذي يَقْطِنُهُ .
فجأةً توقَّفْ … ماذا يَرى أمامه ؟ بِضْعُ رجالٍ مِنَ الإسعافِ تَنَاثَروا قُربَ الغرفَةِ المُتَداعِيَة وحَشْدٌ مِنَ الجيرانِ إِلْتَفُّوا حولها ، إِقْتَرَبَ مَفْزُوعًا ، تَعَالتْ زفراتُه ، أصْبَحَتْ خَفقاتُ قلبِه كأنّها مَسمُوعَة ، سَمِعَ الجميعَ يُردِّدُونَ عبارة « إنا لله وإنا إليه راجعون » .
أَحَسَّ بالسَّواد يَلُفُّ عيْنَيْه ، صُداعٌ رهيبٌ يكادُ يُفجِّرُ رأسه ، رَمَى ما يَحمِله وإِنْطلَقَ يُشَتَّتُ المَنَاكِبْ ، يَخْتَرقُ الجَمْعَ كما يَخترقُ الضِّياءُ الظُّلمَةَ القاتِمة ، حاول البَعْضُ مَنْعَهُ لكنّهم لم يُفلِحُوا ، حينَ وَصَل كان كلُّ شيءٍ أمامَهُ كَالكَابوسِ المُخيف ، الولدُ جُثَّةٌ هَامِدَة بينَ أَطْلالِ غُرفةٍ مُوحِشَة ، لَمْ يُصَدّق ما رآه ، إِقْتَربَ بِثِقَلِه المُوهِن ، حَرَّكَ الجُثّة فَطَالَعَهُ وجْهُ إِبنِهِ المُتَبَسِّم خَلْف سَتائِر الموت ، ولَمْ يَتَمالَك أنْ صَرَخَ صرْخةً مُؤْلِمَة تَجاوَبَتْها أَرْجاءُ الفضاءِ الواسِع ثُمَّ خَرَّ مَصْعُوقًا بِلا حَرَاك فوقَ جُثَّةِ وَلَدِه .
النهـايـة

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى