ط
مسابقات همسهمسابقة القصة

: مبروك يا سـعده.مسابقة القصة القصيرة للكاتب/حسـن عبدالحميد الدَّراوي من مصر

للمســـابقة …

قصة قصيرة من واقع القرية المصرية

إسم المتســــابق : حســــــن عبدالحميد الدَّراوي

النص بإســـم : مبروك يا ســـــعده

مـبروك يـا سِــعْدة

استيقظت على الزغاريد وهي تدوي في دارها المتواضعة وقالت بصوت عالٍ : ” اللهم اجعله خير !! ” ثم سألت : إيه فيه إيه يا جماعة ؟ عالصبح كده زغاريد !! اللهم اجعله خير !! .
أمها قالت لها : خير وألف خير كمان يا ست سعدة ، هوا فيه خير أكتر من كده ، اللهم لك الحمد ، أهو أنا لما أموت دلوقتي هاستريح خالص خالص ، إنتي هاتتجوزي وتروحي بيت العدل .
قالت سعدة بدهشة : عَدَل … عَدَل إيه يامه !! إيه الحكاية ؟ ما تفهموني بقى .
قالت الأم في سعادة بالغة : فرحك يا سعدة الخميس الجاي .
تلك الكلمات جعلتها تقف عاجزة عن الرد فهي ليست مستعدة للزواج الآن ، ولم تفكر فيه مطلقًا لأنها ما زالت صغيرة ، غير أنها تساعد أمها في شغل الغيط ، ولكن إصرار الأب على زواجها جعلها تفكر وتفكر ، ولكن ماذا ستفعل ؟
الأب سعيد وفرح لزواج ابنته ، وما على سعدة إلا أن تستجيب لرغبة أبيها حتى لو لم تر الخاطب ، أو تعلم عنه شيئًا ، مَنْ هو ؟ ما اسمه ؟ .
تلتفُّ فتيات القرية حول سعدة في هذا الصباح الباكر مهنئات مباركات على الزواج ، وتقول إحداهن : الله ، دا الفرح هايدخل عزبتنا ياولاد . وتقول أخرى : يارب يكون فرحي الأسبوع الجاي .
وتلتف الفتيات القرويات حول سعدة ويقلبن الطست ( وعاء كبير من النحاس ) وينقرن عليه نقرات الطبل والفرح ووقفت واحدة منهن وحزمت وسطها بالطرحة ( غطاء رأسها ) ، وأخذت ترقص رقصات شعبية وتغني أغنيات شعبية .
كل فتيات القرية في فرح وسرور متمنيات لها السعادة في بيت العدل ، داعيات أن يلحقن بها في القريب العاجل ، فاليوم هو الثلاثاء وغدًا الأربعاء يوم الحنة ، والدخلة يوم الخميس .
وفي اليوم التالي ذهبت الأم بسرعة إلى المدينة لشراء فستان الزفاف ، وتجلس الخياطة في انتظار القماش القادم من المدينة لتقصه وتفصله للعروس وهي تنادي بصوت عالٍ : فين العريس يا بنات علشان يديني فتحة المقص .
الخاطب لـم يأتِ إلى الآن ولا تعرفه سعدة ولا فتيات القرية، والد سعدة يسمع الحوار فيخرج عليهم ويقول : العريس راجل ابن راجل ، ويوم الخميس هاتشوفوه كلكم .
سعدة سمعت هذا الكلام وأخذت تتخيل العريس وترسم له صورة في ذهنها وتقول : لا شك أنه رجل ابن رجل ، ولكن كنت أتمنى لو رأيته أو عرفت اسمه أو سمعته يتكلم أمامي أو رأيته وهو يشرب ( الجوزة ) .
هكذا تعيش سعدة لحظات الخيال وترسم لزوجها صورة افتقدتها ، فلا يوجد في ذاكرتها إلا الخيال لصورة تجمعها من أفواه الفتيات أو من كلام أبيها عنه .
واحدة من البنات تقول لها : هوَّا طويل وشنبه طويل . وأخرى تقول: عمامته صفرا وطاقيته صوف وجلبيته البلدي صوف وخرازانته مابيسيبهاش من إيده أبدًا .
ووسط هذا الحوار تأتي الأم من المدينة حاملة القماش وفستان الفرح ، وانصرفت الفتيات إلى الرقص على طبل الطست مرددات الأغاني والأهازيج ورافعات الزغاريد .
وقفت سعدة أمام الخياطة لتأخذ المقاسات والخياطة تبتسم وتقول : عقبالكم يا حبايبي . وتسرج الأضواء لينبعث ضوؤها من اللمبات نمرة خمسة ونمرة عشرة لتنهي الخياطة عملها بسرعة وتأخذ القماش معها إلى منزلها لتسهر عليه وتُجِدَّ في إنهاء تفصيل وخياطة القماش في أسرع وقت فغدًا الحنة وبعد غدٍ الدخلة .
الهواء في اليوم التالي أمام بيت العروس عليل وأشعة الشمس قد وَلَّت منذ وقت قصير ، ودرجة الحرارة معتدلة ، ومهما يكن فدرجة حرارة الصيف في القرية معتدلة يطيقها كل الناس ، فلا مراوح ولا مكيفات ولا ثلاجات لتبريد الماء ، لا حاجة لأهل القرية إلى كل هذه الرفاهية ، حيث لا يوجد كهرباء ولا يوجد مال لشراء ثلاجة أو مروحة ، والكل سعيد وهانئ بهذه الحياة الهادئة البسيطة .
وَدَّعت سعدة صاحباتها لحلول المساء والقمر أرسل ضوءه الخافت على وجوههن المشربة بالسعادة والهناء ، وذهبن إلى دورهن استعدادًا لعمل شاق في اليوم التالي وهو حنة العروس .
كل واحدة منهن تغادر المكان تقول لها : مبروك يا سعدة ، مبروك يا عروسة ، عقبال الحبايب .
ذهبت سعدة لتنام في وسط الدار ملتحفة بلحاف يخرج القطن من أطرافه ، مفترشة حصيرًا صنع من أعواد يابسة يترك أثرًا في جسم من يجلس أو ينام عليه .
وما إن هدأت الحركة وذهب الجميع في سبات عميق حتى خرجت الأرانب من جحورها تسرح وتروح هنا وهناك ، بل تثب وتقفز فوق رأس سعدة وهي نائمة ، وسعدة لا تستطيع أن تقاومها بل استيقظت من نومها لترى ما تفعل الأرانب .
وتسأل نفسها : لماذا هذه الليلة بالذات تخرج كل هذه الأرانب زمرًا ، فلعل هناك سببًا لا تعرفه لهذا الخروج ، صداقتها لهذه الأرانب صداقة حميمة ، ربما كان هذا هو السبب ، هل هي خرجت لتبتهج وتفرح بها ؟ أم أن هناك شيئًا آخر ؟ تلك مجموعة منها تقف على شكل دائرة وكبيرها يتوسط الدائرة وتقوم بحركات لا تفهمها سعدة .
وتلك مجموعة أخرى تنام كل واحدة منها مستندة على الأخرى ، والعروس لا تفهم تفسيرًا لهذا ، ولكنها ذهبت بعيدًا وقالت لنفسها : ربما كان هذا جانًّا أو شيطانًا ، وبسرعة أيقظت أمها لتخبرها بما شاهدت ، ولكن الأرانب اختفت في لمح البصر ، وجاءت الأم ولم تَر شيئًا فقالت لابنتها : نامي يا بنتي ، الفجر لسه عليه بدري !!
كانت سعدة خائرة القوى ورأسها يروح ويجيء فهي لم تذق طعم النوم حتى أُذن لصلاة الفجر ودبت الحركة في المنزل بل في القرية كلها .
وجاء يوم الأربعاء ـ يوم الحنة ـ وسعدة لم تنم ولم تذق طعمًا للراحة ليلة أمس ، يسيطر عليها القلق وتسرح بعيدًا بعيدًا .
أم سعدة تنادي : قومي يا عروسة الفطور جاهز ، جبنة حلوة ترد الروح وبطاطس مسلوقة وشوية كمون وفلفل أحمر وعيش متقمَّر على المسخنة .
سعدة ما زالت في غمرة من الفكر ولم تنتبه ولم تسمع ما قالت لها أمها . أم سعدة تنادي مرة أخرى : ياللا إدَّلَّعِيلك شوية يا عروسة … قومي يا حلوة … قومي غيري ريقك … ياللا يا بنتي ورانا شغل كتير النهارده .
انتبهت سعدة لصوت أمها هذه المرة وخاصة جملة “شغل كتير” فقالت مندهشة : شغل إيه يامَّه ؟!!
رددت الأم كلمات سعدة في استنكار : شغل إيه يامّه ؟!!! شوفوا البنت يا ولاد ، إنتي عبيطة يا بت ولاَّ بتستعبطي ، النهارده حنتك وبكرة دخلتك .
ـ حنة إيه ودخلة إيه يامَّه ؟!!!
ـ يا بِت حنتك النهارده ودخلتك بكره .
ـ أنا يامَّه ؟!!
ـ أيوه يا بت بلاش دلع ماسخ .
ـ طيب يامَّه هاقوم أهوه أَغير ريقي وبعدين نشوف أمر الله .
أبوها عبد الجبار يقف في وسط الدار وينادي : يا خضرة ، يا سعدة ، إنتو فين ؟ فين الفطور ؟ أنا عندي شغل كتير النهارده ، يا رب سلم وهيئ خير .
نهضت سعدة وحملت اللحاف وبقايا القطن المتناثرة منه ووضعته في مكان بعيد وردت على أبيها : أيوه يا با أنا جيت أهوه والفطور أهوه .
تحمل خضرة المشنة وفيها العيش ( الخبز ) وفيها الفطور وتضعه أمام عبد الجبار والقلة ( إناء الماء ) بجوار المشنة وتقول له : اتفضل يا خويا، الفطور بالهنا ، ماطرح ما يسري يمري .
وبعد أن يشرب عبد الجبار الشاي بعد الفطور يركب حماره قاصدًا القرية المجاورة ليقترض خمسين جنيها من أحد أقاربه وهي مصاريف الحنة والفرح وفي نفس الوقت يدعوهم لحضور الحنة والدخلة .
وفي القرية المجاورة يقابله الأهل والجيران بالتهاني ، ويؤكدون على أنهم سيحضرون الفرح غدًا لكن الفتيات والسيدات سيحضرن الحنة هذا المساء ليضعن النقطة في يد أم العروس .
ويجلس عبد الجبار على المقهى منتظرًا صديقه الذي سيقرضه الخمسين جنيها ليذهب للمدينة لشراء البطاطس والطماطم واللحم … ، أما الأرز فهو موجود في البيت بكثرة لأنهم يزرعونه .
ويأتي الصديق ويعطي عبد الجبار ما رأى أنه يكفي لإقامة عُرس ابنته ، وينصرف عبد الجبار قاصدًا المدينة ليعود منها محملاً بمتطلبات العُرس .
عاد عبد الجبار وجلس يستريح من عناء السفر ، وبعد العصر فرش الحصيرة أمام بيته تحت ظل شجرة الجميز حيث الثمر المتساقط منها على الأرض بكثرة ينادي على مَنْ يأكله فقد طاب ونضج ، فنادى على ابن أخيه ليجمع منه ما طاب ثم يذهب به إلى السوق غدًا ليبيعه .
أتى الجيران إلى عبد الجبار ليجلسوا معه ويتجاذبون أطراف الحديث عن العُرس وما سيتم فعله غدًا ، وفي هذه الأثناء يهل عليهم سالم ( الخاطب ) راكبًا حماره ، فألقى عليهم التحية فردوا عليه السلام ، الجميع ينادونه : أهلاً وسهلاً يا عريس ، إتفضل ، تعالى جنبي هنا .
سالم جاء ومعه مجموعة صغيرة من أقاربه ليعقدوا القران ، وعلى الفور ذهبت المراسيل إلى الشيخ يوسف ( المأذون ) ليأتي ومعه دفتر عقود القران ليوثق الزواج بشهادة الشهود وبحضور حشد من أهل القرية .
وفي الدار علمت سعدة والفتيات بحضور العريس وسمعت عبارات الترحيب به ، فأرادت أن تراه للمرة الأولى وكذلك الفتيات ، وبالفعل رأينه من بعيد ، وإحدى الفتيات تقول لها : الله، دا شكله حلو . وأخرى تقول : هوَّا مكشر ليه كده ؟! وأخرى تقول : يا بختك يا بت يا سعدة ، دا راجل حِمِش . كل هذا ورأس سعدة يدور ويدور ، وهي تسمع كلام هذه وكلام تلك .
وأخيرًا جاء الشيخ يوسف والكل يهلل مِنْ حوله ويرحب به ، واستقر في مكانه في صدر المجلس والجميع يلتفون حوله ليسمعوا ما يقول ، فيقول الشيخ يوسف : فين العريس ؟
قال الجميع في صوت واحد : أهوه يا عم الشيخ . فقال له : فين بطاقتك يا عريس ؟
رد سالم : إتفضل يا عم الشيخ . فطالعها الشيخ ثم قال متعجبًا : الله ، دا إنت متجوز قبل كده ، ومعاك واحدة على ذمتك !!!
قال سالم : أيوه يا مولانا وعاوز أتجوز تاني عشان الخلفة ، نفسي في حتة عيل يشيل اسمي .
أومأ المأذون برأسه متفهمًا وقال : طيب ، خير ، على بركة الله ، فين وكيل العروسة ؟ سارع عبد الجبار قائلاً : أنا أهوه يا مولانا . فمد يده إليه قائلاً : هات بطاقتك .
ناوله عبد الجبار بطاقته ، فقال المأذون : المنديل يا عريس . على الفور ناوله منديلاً جديدًا فأخذ يد عبد الجبار ويد سالم وشبكهما معًا ثم وضع يده فوق المنديل وأملى عليهما وهما يرددان خلفه : ردد عبد الجبار: زوَّجْتُك موكلتي على سنة الله ورسوله . فرد سالم : وأنا قبلت زواجها على سنة الله ورسوله .
انطلقت الزغاريد مدوية في بيت عبد الجبار ، ولكن سرعان ما سمع الجميع صرخة ، وإذا هي صرخة سعدة وقد سقطت مغشيًّا عليها، وعلى الفور أتت إحدى السيدات بفحل بصل وضربته بقوة حتى تهشم وقربته من أنف سعدة لتقوم الرائحة القوية للبصل بإفاقتها .
في هذا الوقت استمر الرجال في إنهاء مَرَاسم عقد القران ، وأتى بعضهم بالشربات ـ وهو المشروب الذي يوزع في هذه المناسبات ـ ووزعوه على الحضور ، وفي النهاية هب الجميع مهنئين عبد الجبار وسالـمًا .
شرب سالم الشربات ثم انتحى بعبد الجبار جانبًا وقال : زي ما اتفقنا يابو العروسة ، أنا جاهز ، الفرح يوم الخميس إن شاء الله .
البنات يُـِحطن بسعدة في محاولة لإفاقتها ، وقالت إحداهن للأخرى : بسرعة هاتي كوز ( إناء ) ميه من الزير . ورشت الماء على وجهها ، وأم سعدة حائرة لا تدري ماذا تفعل .
مجلس الرجال تحت الجميزة قد أنهى مراسم عقد القران ، وعاد الشيخ يوسف من حيث أتى متأبطًا دفتره وممتطيًا حماره بعد أن قال لهم : بعد شهر كل واحد ييجي ياخد قسيمته .
وعاد سالم إلى قريته ممنيًا نفسه بيوم الدخلة ، وبدأ النهار ينقضي وحل محله الليل فأرخى سدوله على تلك القرية الهادئة الهانئة هي ومجاوراتها من القرى فلا تسمع إلا نقيق الضفادع وصوت صرصور الغيط ، وكأنها هي أيضًا تهنئ سعدة بِعُرْسها .
عبد الجبار وضيوفه جلسوا في المندرة ( القاعة ) على ضوء اللمبة نمرة خمسة الخافت يخططون ويوزعون الأدوار استعدادًا ليوم غدٍ ، نادى عبد الجبار على بعض الصبية قائلاً : صب الشاي لعمك أبو أحمد يا ولد ، هات الجوزة يا ولد وغير مَيِّتها ، روح يا واد طمني على بنت عمك سعدة .
وبعد برهة أتى الصبي قائلاً : يابا عبد الجبار ، سعدة عيانة قوي وبيقولوا عاوزة تروح للشيخ يشوف عندها إيه . رد عبد الجبار مستنكرًا : الشيخ ؟!! شيخ إيه يا ولد ؟! سيبوها وهيَّا تبقى كويسة بعد شوية ، بس اسقوها كوباية ميه بسكر .
وتناول الحاضرون موضوع مرض سعدة وأجمعوا على أنها ستكون بخير ، ولكن أم سعدة تقف حائرة خائرة القوى لا تدري ماذا تفعل ، فكما يُطْلَبُ منها تنفذ وكما يُشَارُ تنفذ ، فسعدة ابنتهن جميعًا وكلهن حولها ينتظرن إفاقتها .
انصرف الرجال متهيئين لعمل شاق في الغد ، وانصرف النساء واحدةً تلو الأخرى وسعدة مازالت في إغماءتها ، لم يتبق إلاَّ الأم والخالة بجوار سعدة ، دخل عليهن عبد الجبار مستفسرًا : إيه يا جماعة الحكاية ؟! فيها إيه البنت ، دا الفرح بكره واحنا مجهزين كل حاجة .
ردت الأم : فرجه قريب إن شاء الله ، من هنا لغاية الصبح تكون بخير بإذن الله ، ماتخافش يا خويا ، سلمها لله .
انصرف عبد الجبار لينام فالوقت أصبح متأخرًا والساعة بلغت التاسعة ولابد أن يستريح من تعب ومشقة هذا اليوم ليستقبل تعب ومشقة يوم جديد .
وعند الفجر عادت الرعشة إلى سعدة ، وصدر منها صوت أنين ، وكانت الأم قد قررت أن سعدة لابد أن تذهب إلى الشيخ ليرى ما بها ـ وتلك عادات وسلوك أهل القرية ـ وقالت لأختها: هاتي سَمَلها ( شيء مما ترتديه أو تستعمله وتعرقت فيه ، ويسمى الأطر ) .
وفي الصباح ركبت سعدة الحمار وأمها وخالتها تسيران خلفها قاصدات الشيخ .
وعند الشيخ سمعت أم سعدة كلامًا غريبًا تسمعه لأول مرة : البنت ملبوسة . وقرر الشيخ على الفور أن الجان ركبها وتلبس بجسدها ولابد أن تحضر حلقة زار أو حلقتين ليخرج الجان من جسدها .
تعود الأم وأختها حائرتين ، فالفرح اليوم ، وماذا ستقول لعبد الجبار ؟ وماذا سيفعل عبد الجبار في هذا الأمر ؟ إنها إرادة الله ، ولا راد لقضائه .
رجعن جميعًا إلى البيت وعبد الجبار في انتظارهن وقصت أم سعدة عليه القصة فدار رأسه من الحيرة ، ثم قرر أنه لابد من إخبار سالم بالأمر ليشاركه الحل لأن سعدة الآن زوجته بعـد عقد القران ، فربما لا يعجبه الأمر فيطلقها أو ينتظر حتى تُعَالج وتشفى بإذن الله .
ركب عبد الجبار حماره قاصدًا دار سالم في قريته ، وكان أن قال : يا سالم ، أنا هاقولك اللي حصل من طأطأ للسلام عليكم . ثم قص عليه ما حدث ، فما كان من سالم إلا أن قال : مافيش مانع يا نسيبي ، يتأجل الفرح لغاية ما سعدة ربنا يشفيها شهر أو شهرين أو تلاته ، المهم ربنا يشفيها .
عاد عبد الجبار مسرورًا لما قاله سالم ، وبدأ برعاية ابنته وحرص على ذهابها بنفسه كل ثلاثاء إلى حلقة الزار عند الشيخ ، وانتشر خبر تأجيل فرح سعدة في القرية كالنار في الهشيم .
وبعد ذهاب سعدة عدة حلقات مع أمها وخالتها كل ثلاثاء أراد الله تعالى أن تتحسن صحتها شيئًا فشيئًا وازداد اعتقادهم في الشيخ بأنه رجل مبروك ، ويجيء يوم من أيام الثلاثاء التي تعودت فيها سعدة على الذهاب إلى حلقات الزار ، وعند صلاة الفجر توجهن كعادتهن لبيت الشيخ ، وفي هذه الحلقات تشاهد أم سعدة العجب العجاب ، نساء يتصببن عرقًا ، ونساء يرتمين أرضًا ونساء يتكلمن بكلام غير مفهوم ، وتستمر هذه الحلقات ساعة أو ساعتين ثم يأخذن قسطًا من الراحة ، بعدها تبدأ الحلقة الثانية ، وفيها تسمع دقات الطبول والدفوف وأصواتًا مختلفة تهذي بكلام لا معنى له .
بعد أربع جلسات وبعد صلاة العصر عادت سعدة منهكة متعبة حالها حال أمها وخالتها وقد أذن لها الذي يعالجها بالزار حينئذ أن تتزوج فقد شفيت والحمد لله وخرج من جسمها الأسياد مِن الجن على حد قوله .
أسرع عبد الجبار يزف الخبر إلى سالم ، فحددوا موعدًا للعرس وهو الخميس القادم ، لكن سعدة أسرت إلى أمها حديثًا : يامه أنا مش عاوزاه ، أنا مش هاتجوز الراجل ده ، دا شكله شِين خالص يامه .
دهشت الأم من كلام ابنتها وقالت في ذهول ممزوج بغضب : يا مصيبتي ، عيب يا بت ، هوا فيه واحدة تقدر تقول عاوزا ده ومش عاوزا ده؟!! دا كانت الناس تاكل وشنا ، ده نصيبك ولازم تحمدي ربنا عليه ، وإوعي تقولي الكلام ده لحد ولاَّ تقوليه مرة تانيه . ردت سعدة بخنوع ويأس : حاضر يامه .
أقيم العرس كما تحدد له يوم الخميس والجميع فرحون إلا سعدة ولكن ما بيدها حيلة ، لا تقدر على قول شيء أو تغيير شيء .
وتمر أيام وشهور ، وسعدة لم تنجب ، والجميع يسألون عن السبب ، وهي ترد : كله بأمر الله .
لكن سالمًا لا يعجبه الحال ، وهو لا يحب المرأة التي لا تنجب ـ وخاصة الولد ـ ويقول للناس ولنفسه : أُمَّال أنا متجوز ليه؟!!!
أشارت أم سالم عليه بأن تذهب سعدة للشيخ مرة أخرى ليحل لها مشكلة الإنجاب ، وعرض الأمر على عبد الجبار فوافق وذهبت سعدة وخالتها وأمها للشيخ ، ويعطيها الشيخ الأحجبة والكتابات لتعلقها كما أمرها الشيخ .
تمر شهور وشهور ولا تفلح الأحجبة ولا الكتابات ، وتقول أم سعدة : يا ولاد ، الخلفة دي بأمر الله ، ولو ربنا رايد هتخلف البت ، ولو مش رايد مش هانقدر نعمل حاجة .
سالم مشتاق للإنجاب ، وسعدة لا تنجب ، وسالم يهدد ويتوعد بأنها إن لم تنجب فسيتزوج الثالثة بل والرابعة ، وحتى لو لم ينجبن جميعًا فسيطلقهن ويتزوج أخرى لتنجب له الولد .
*****

قصة مبروك ياسعدة من القصص الحية التي وقعت وتقع في الريف المصــــــري وهي من كتاب

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى