ط
مسابقة القصة

منيكان .ملخص .مسابقة الرواية بقلم /غزة عباس عطا الربيعي.العراق

اسم المتسابق_ غزة عباس عطا الربيعي

اسم الشهرة_ شهرزاد الربيعي

تلفون _ واتس اب_ 009647901819250

العراق _ بغداد

رواية ( منيكان )

1_بالنسبة للأرواح, عفواً, أقصد الموتى, لا يهم البداية أو النهاية في سرد حكايتهم, المهم هو ما هم عليه الآن, انهم موتى, وقد نهتم أو ننسى, ولكن, ذلك لا يهم أيضاَ, المهم مواقفنا كأحياء ازاء الأحداث من حولنا, وهذا ما اعتقدته قي البداية, لم أعلم ان للأموات خيار في عالمهم الآخر, عندما اختاروا عالمي ليعيشوا فيه, أقصد لوحاتي التي رسمتها في عام 2016, كان ذلك عندما قرر أبي ألعودة الى مسقط رأسه، بعد عشرون عاماً من الغياب، لا أدري ما الحكمة لعودته فقط ليدفن هناك، انها رحلة طويلة وعلي أن أُرافقه بها، وربما لن يحتمل عناء السفر مع مرض عضال عانى منه طويلاً، وأقفل في وجهه كل منافذ الهروب، ليلاقي حدفه. في الفترة الأخيرة اشتعلت لديه جميع ذكريات الوطن دفعة واحدة وانتشرت في جميع مفاصل عمره انتشار النار في الهشيم، العمر ألذي هرب منه كل تلك السنين، كان يقول ان الذكريات ترفع لديه درجة الحمى، يزيد من آلامه ووحدته رحيل أُمي بنفس المرض قبل خمسة أعوام ولم يعد لديه هنا في باريس غيري، والآن علي أن ارافقه الى بغداد، ليقضي باقي أيامه مع أُختيه وأخيه وليدفنوه بعد ذلك في مقبرة العائلة، ربما كان لديه أسرار لا أعرفها أو أشياء عليه انجازها، وربما حسابات أو ارث يريد تصفيته قبل رحيله، في البداية خشيت أن عودة أبي برفقتي كان القصد منها أن يفرض علي البقاء هناك أو أن يعرض علي تغير مسار حياتي، لكنه ترك لي حرية الاختيار في العودة الى باريس حتى انه أبقى على منزلنا هناك وحَوّل كل ما يملكه وعمل عليه في غربته باسمي, وخلال وقت قصير وبمساعدة عائلة ابي استطعت أن أتماهى مع الحياة رغم صعوبتها, وفي الوقت نفسه احسست بكم الفقد الذي عانى منه الناس من حولي خلال عقود من الحروب, وآخرها, حرب احتلال العراق عام 2003, كان الخراب عضيماً لم ينجو منه حتى المتاحف الاثرية ومتاحف الفن التشكيلي, فقد نالها ما نالها من السرقة والخراب, وهذا اكثر ما همني وقتها باعتباري فنانة تشكيلية درست الفن قي باريس. واستطعت ان أملأ وقتي بالرسم هناك وكانت النتيجة اني رسمت عوالم غريبة لأتي اعتقدت اني سأهرب بها من واقعي, مرض ابي ونهايته المحتومة, والواقع المأساوي في ذلك البلد. وتبنى عمي العناية بأبي ومرافقته طيلة الوقت متفهما تعبي وحالتي النفسية التي بدت واضحة كحزن دائم على ملامح وجهي،بعد ايام عرفت ان أبي المتشبث بأسباب الحياة من فرنسا الى العراق، فقط ليجد شخصاً من زملاء الحرب كان قد استدان منه مبلغا يبدو انه كبير في أيام الثمانينيات، أيام حربه الأولى، وهو يعلم بأن ذلك الشخص كان قد أُسر في تلك الحرب وعندما عاد في بداية التسعينيات لم يعيد ما بذمته للرجل، ويعلم جيداً ان ذلك الرجل كان قد انتحر بعد عودته من الأسر، جاسم، صديق قديم وجار، لم أكن أعلم ان في ذمة أبي دين قديم لشخص كان قد انتحر. كعادتي في زيارة أبي كل يوم ذهبت لأتفقده، لكني سمعت نشيجه وهو يبكي وكان عمي عنده يحدثه ويخفف عنه، مواسياً اياه قائلاً بأنه قد فعل ما عليه أن يفعل، وانه قد أخلص النية في تسديد دينه، ولكن بكاء أبي كان يزداد وكأنه هو الذي أُسر بدَين قديم لم يسدده، لم أستطع مواجهة أبي وهو يبكي، ذلك الرجل الذي كنت أظنه قوياً شديداً لم يحتج شيئاً من أحد في يوم من الأيام، وكون ثروة لا بأس بها في الغربة، كنا نعيش حياة مرفهة، كيف لم يفكر في تسديد دينه طوال ثلاثون عاماً أو ربما أكثر؟ كان يقول لعمي، انه استدان من جاسم ذلك المبلغ قبل أن يُأسر بفترة وجيزة، ولم يُسَلّم الدَين لا لأبيه ولا أخيه، ويبدو ان جاسم لم يبلّغ أحداً من أهله بالأمر، فلزم أبي الصمت، ولكن عندما عاد الرجل من أسره، وكان من المفروض أن يلتقيه وأصدقائه الآخرين في مقهى حسن عجمي، أبلغ أبي كل الأصدقاء بأن الموعد قد أُجل، محاولة منه في عدم مواجهة جاسم وألذي ربما لم يفكر أصلاً بنقوده، ربما اعتقد أبي ان جاسم سيطالبه بالمبلغ فهرب منه، وربما ظن بأنه سيفشي السر للأصدقاء فمنعهم من رؤيته، وعلم بعد ذلك بأنه انتحر في نفس اليوم، قال أبي انه كان من القوة بحيث استطاع أن ينسى بسهولة ما حدث، وانشغل بهجرته مع أمي وبناء حياة جديدة، ولكنه يعتقد الآن انه دفع ثمن فعلته في فقدانه لأمي ومرضه بعدها بنفس الداء، ويريد الآن بيأس أن يسدد دَينه، لكن عمي أخبره ان ابن جاسم قد قتل، وان أخيه مالك قُتل أيضاً، وكريمة زوجته أيضاً فقدت كل معنى للحياة بعد ابنها فرحلت هي الأخرى الى العالم الآخر، ولم يستطع أن يستدل على أبيهم، لقد انفرط عقد العائلة منذ سنين ولم يعد بإمكان أبي أن يجد مفتاح قيوده, ومات ابي بعد يومين من فقده الأمل الذي كان يعيش من أجله, وأنشغلت أنا بعدها برسم اللوحات حيث كنت أنوي اقامة معرض قبل رحيلي عائدة الى باريس, أعمل ليلا في غرفة في بيت عمي, يرافقني في الغرفة (منيكان) دمية لعرض الملابس نصف محترقة كنت قد وجدتها على الرصيف أمام منزل عمي وقررت الأحتفاض بها, وبعد أن أقمت المعرض في قاعة مشهورة للفن التشكيلي في بغداد, وأثناء العرض وبحضور المحتفين بلوحاتي, وجدت في لوحاتي أشياء وأشخاص لم أرسمهم فيها, أشخاص يجلسون مجتمعين، يركضون خلف بعض في مرح، أطفال يلعبون، شاب وفتاة يجلسون في دعة وسلام مبتسمين لبعض، ربما كان يغني لها أغنية قديمة، أو كانت تقرأ له شعر، ذئبان صغيران يجريان خلف بعض أو يتصارعان متمرغان على الأرض، قط يتمسح بساقي رجل يجلس قرب سيدة يحدثها، يا للعجب، انه نفس القط ألذي رأيته البارحة، مع المنيكان على الرصيف أمام بيت عمي، هل أستطيع أن أقول للموجودين حولي ان كل هذا موجود هنا في لوحاتي، و اني لم أرسمه؟ بل انهم احتلوها، دخلوها عنوة وفي غفلة مني، ولكن كيف دخلوها، يا الهي، انها الدمية، انها موجودة هنا، تلاعب القط والذئاب، ماذا، انها تنظر لي وتُلوح لي محركة يدها المحروقة الذائبة لحد الكوع، ترى من يكونوا هؤلاء.

2_ الحديث كله لروح شاب يلتقي روح حبيبته بعد اشهر قليلة من موته _ ليتك أتيتِ معي، هناك كل شيء حقيقي؟ لا تقليد لصوت الرصاص والمدافع، لا مؤثرات موسيقية، لا سجادة حمراء لدخول حفلة الموت، ماذا قلت؟ من كتب النص؟ آه يا حبيبتي، لا يسأل جندي عن من وضع النص لموته، لا يجروء أحد على البوح باسم المؤلف، قد تكون الدول، وقد يكون الجنرالات، الشركات، رجال الدين، لكن، لم يصدف أبداً أن كتبتْ امرأة نصاً للحرب، لكانت كل الحروب تنتهي لو كتبتها امرأه، لا إنارة تُسلِط الضوء على بطل الحكاية، لا وجود لبطل في الحكاية، من البطل؟ أنا أم الجندي1 أم الجندي2 أم الجندي3؟ الجنرال؟ لكن الجنرال يخرج من الحكاية قبل بدأ الأحداث، قولي لي أنتِ، لو كان عليكِ أن تختاري بطلاً لتلك ألقصة فمن تختاري، الشهيد، الهارب، الخائن، الشجاع، الأسير، كلهم يقعون تحت طائلة القادة والرؤساء، الفرق في هذه المسألة أن الأفلام والمسرحيات لها أبطال أكثر واقعية من الحرب، هم بشر تتنازع فيهم كل ضروب المشاعر، وإذا قُدِّر لنا أن نعيش بعد الحرب فإننا سنعيش نفس الحياة، لا أحد يهتم للدور الأول فغالباً من يهتم هو الخاسر، هنا الأحداث خلف المسرح والكاميرا، لا قناع لوجه الموت، هنا نموت على وقع الأوامر العسكرية، وأرواحنا معروضة للبيع باقل من سعر التكلفة، لا شبيه للموت المتربص بين لحظة وأخرى؟ لكن، ما هو دوركِ في الحكاية ؟ ماذا تتوقعين؟ أن الدور الاول في مسرحنا مرصود للأنثى، أم لا دور للأنثى هنا؟ ماذا تقولين؟ الحوار؟ مالي أراك غريبة اليوم ؟ السيناريو؟ ارتجالي وفق الأحداث، وجود الآمر، توفر الأرزاق، طبيعة المعركة، حالة الطقس، نوع السلاح، ليس مهما نوع السلاح، المهم هو الرجل الذي يحمله، اششش ! حسناً، لن أبوح باسم صاحب المقولة، كنت أُريد أن أقول ان في الصين القديمة لا يعتبر المحارب محارباً بل السيف الذي يحمله، لكن لا أحد يعرف كيف يكتب الحوار ولا من يكتبه، هل هو المراسل الصحفي؟ التوجيه السياسي؟ المتحدث الرسمي؟ زوجة وزير الحرب؟ ها أنتِ مذ أصبحتِ غريبة، تكتبين و تحملين الأوراق فاكتبي ما تشائين من الكلام، هل أزعجتكِ؟ دعينا نختبئ في قاعة فن تشكيلي، حيث لا يرغب برؤيتنا أحد، هل تحبين الفن التجريدي؟ التكعيبي؟ أنتِ الحالمة الخيالية، الأكثر من الموت واقعية، لم يعد هناك من يهتم بالواقعية، الواقع غريب وصعب، والتعبيرعنه أصعب، لنقف أمام لوحة تعجبكِ، أستجمع أمامها جوعي، وساق مقطوعة، وكلية تعطلت، لأدفعها ثمنا، أشتريها لكِ، فتعودين سعيدة، ولن أدعكِ تغطيها بشال تضعيه حول رقبتكِ لتستأثري برؤيتها دون جمهور قاعة العرض، فَنُطرَد مثل كل مرة نكون فيها هناك، هذه اللوحة ألتي تريدين، إنها أسبانيا عزيزتي، دعينا ندخلها، ونجلس بين الجمهور على المدرج، هناك ستصفقين للثور المنتصر على المبارز، أيتها المختلفة في كل شيء، وربما وضعتِ اصبعيك في فمكِ لتُصَفّري. عذراً عزيزتي، لكن ما ألذي أتى بجاسم إلى اسبانيا، بدأ يستفزني، ليتني لم أبُحْ له بسري، كيف تبعنا كل هذه المسافة، كيف عرف الطريق إلينا، يبدو إن عالمي مزدحم أكثر مما أريد، ألا تعرفين جاسم؟ زوج كريمة ابنة الحاج حميد، جارنا، أعرف أنها تزوجت أخاه مالك، فقد كان مسجلاً في سجلات الصليب الأحمر كشهيد في الحرب التي شارك فيها، بينما ظل أسيراً، رهن قيود المعسكر المقابل لمدة تسع سنين، انتظر الرسائل كثيراً، حلم بكريمة لمدة طويلة، قاس ارتفاع قامة ابنه أو ابنته في مخيلته، افترض حوار يصلح لابن وابنة، فقد كانت كريمة حامل عندما أُسر، لكنه عندما كتبت له الأقدار أن يعود، وجدها قد تزوجت أخاه، قيل له أن الزواج قد دبر باتفاق العائلتين حفاظاً على إبنه وما آل إليه من ميراث بعد أن يأسوا من عودته وفي حال تَزوجتْ كريمة شخص غريب قد لا يهتم لأمر كريمة وابنها كما تهتم العائلة، لكن مالك لم يحافظ لا على كريمة ولا على ابنها، واستطاع أن يستولي على كل ما تملك كريمة ليصرفه على ملذاته، كما استطاع أن يُشَغِّل ابن كريمة في ورشة الحدادة ألتي يعمل فيها، عندما بلغ الثامنة من عمره، لا أحد يدري لماذا عامل ابن أخيه بهذه الطريقة، ربما لينتقم لنفسه، من ما عاناه على يد أبيه، إذ أخرجه من المدرسة ليرسله إلى العمل في الورشة. لم يحتمل جاسم ما عرفه بعد إخلاء سبيله وعودته بعد أسره، لم يحتمل ضياع حياته مرتين، استطاع أن يصبر على خيبته الأولى تسع سنوات، وجد بعدها انه قد مات ونُسِيَتْ أيامُه، ولم تبقى له أي اعتبارات في حياة الآخرين، فقرر الانتحار، ألقى بجسده المتعب تسع سنين أسراً من فوق الجسر الحديدي، سَحَبَ موجة والتحف بها ليحتضنه دجلة حباً وحناناً استثنائيين، يليقان بجندي مجهول، أعلم عزيزتي انك تعرفين الحكاية، فقد حكيتها لك كما حكاها لي حاتم، حاتم ابن جاسم، الذي كنت أعمل معه في نفس ورشة الحدادة التي كان يعمل بها، فقد كنا صديقين رغم انه كان يكبرني بعدة أعوام. جاسم, من أولئك ألذين تقضي عليهم الحروب  وترسم لهم مصائرهم ومقدراتهم, لم يكن يستطيع العودة إلى دار أبيه ألذي تزوج بعد وفاة أمه، من فتاة بعمر كريمة زوجة ابنيه، أصبح لجاسم أخوة صغار الآن، وبعمر ابنه الذي لم يتسنى له السؤال عن اسمه، وقف ألطفل أمام أبيه مستغرباً وجوده أمام باب منزلهم، كان يظن انه فقير أو عابر سبيل يستجدي قوته إذ أصر جاسم على الذهاب إلى البيت لوحده ورفض أن يرافقه أي شخص من الموجودين في مقر الحزب في منطقتهم إلى الدار كما جرت العادة عند عودة أحد الأسرى، قال إنه أن لم يعرف الطريق إلى الدار بعد تسع سنين من الأسر فإنه لا يستحق دخوله، وصل إلى الدار ولكنه لم يدخل، عندما هربت منه كريمة وهرب ابنها ألصغير خائفاً من المصير الذي ينتظره على يد ذلك ألرجل ألمرعب والذي راحت أمه تولول وتلطم حال رؤيته بينما كان يظن ان قميصه سيُقَد من قُبل، لا أدري لماذا كانت حزينة لرؤيته؟ ربما كانت خائفة لكونها لم تنتظره أو ربما لأنها تزوجت أخاه، لقد كان جاسم دائما ذلك أللاعب ألبارع ألذي يستطيع أن يمارس الخسارة باسلوب المحترفين، انتظر أصدقاءه في مقهى حسن عجمي طويلا ولم يأتوا في ذلك اليوم، كانوا خجلين من أن يروه بما آلت إليه حياته البائسة, لقد كتب نهاية حياته بنفسه، فعل ذلك بكل تَبصر ومَعرفة مُسبقة، بعد أن سأم تحكم الآخرين بمصيره، فأراد أن يكون حراً وانسيابياً كالماء في دجلة، انها قصة للناس البسطاء، مثل قصة أبيك ألذي قُتِلَ بعد احتلال العراق، مثل قصة أبي ألذي لم يستطع الوصول الى بغداد بعد تحرير الكويت، وهذا ما جمعني بحاتم ابن جاسم كصديقين رغم اختلاف أعمارنا. وكريمة؟ لم تحاول حتى كتابة قصتها، لأن المرأة كما تعلمين لا تستطيع الكتابة بدون ولي أمرها, كقناعة محفورة في اللاوعي الجمعي للمجتمع، ربما تزوجت للمرة الثانية لتوفر حاجات جسدها التي لم تعد توفرها أحلامها بجاسم ألذي فقد في احدى معاركه، فمالك،لا يستطيع شيئا سوى توفير حاجات جسدها، هذا إذا كان بكامل وعيه، ولم يتعاطى شيئا، ولذلك لم تمضي حياتها معه على ما يرام. ولكن يا حبيبتي دعينا من جاسم وزوجته كريمة وابنه حاتم, وأخيه مالك, ولنخرج خلسة من لوحة اسبانيا لندخل في لوحة اخرى قبل أن ينتبه الينا جاسم فيتبعنا مرة أخرى, ولنخرج منها ونغلق الأطار خلفنا, وهذه لوحة أخرى تمثل شارع (الروشة) في بيروت, دعينا ندخلها آمنين مستمتعين بمنظر البحر, ولكن ها هو جاسم قد عاد لتعقبنا، عليَّ أن أُكلمه، أرجوك فقط لوقت قصير لأعرف ماذا يريد هذا الفضولي التائه، يا له من رجل غريب.

_أأهلا بك يا جاسم، ما ألذي أتى بك إلى هنا، أرى انك كنت تتعقبنا، أما زلت تريد أن تكلمني عن أفكارك الغريبة عن إصلاح الكون، كلا يا صديقي، ماذا تعتقد أنه كان بأيدينا أن نفعل؟هل كنا نتحلى بالجرأة الكافية ليكون بإمكاننا تحطيم ميزان الحياة غير ألمتكافيء؟ كنتَ فعلتَ شيئاً تجاه واقعك عندما عُدت لترى ألحياةَ وقد انقلبت ضدك بكل ما أوتيت عناصرها من قوة، ماذا فعلت؟هَربت، جبنت، انتحرت، عذراً لا تغضب مني سأظل أكلمك بهذه الطريقة فلستَ أكبر مني عمراً، أنت بنفس عمري عندما مُتَّ، لكني مُتُ في حرب أخرى، وابنك أكبر مني لكنه مات بنفس عمرنا أنا وأنت، تشعر ان عليك أن تفعل شيء ما تجاه من هم أحياء، ألذين لم يتخذوا أي موقف إنساني تجاهنا عندما كنا معهم، وألذين لم يتخذوا أي موقف عقلاني، منطقي، تجاه حياتهم، بربك، لماذا نفعل نحن اذا كانوا هم لا يفعلون، أليست حياتهم وهم أولى أن يتخذوا المواقف تجاهها، ولكن عن أي مواقف تتحدث أيها الصديق، لقد ولى زمن المواقف، قولي له حبيبتي، يبدو أنه جاهل بما حَدَثَ بعده، قولي له كم حرب لم تكن قد مرت بأحلامنا خضناها رغماً عنا، قولي له كم موت مر على أجسادنا الهزيلة من الجوع وقلة الدواء، مر فقط ليداعبنا ويلهو بمواقفنا قليلاً في أوقات الضجر، قولي له كم نبي ودين ظهر بعده مثل الشوك في صحراء الجهل القاحل في ربوع الوطن، كم تاجر حرب ساومنا على أدق تفاصيلنا بما فيها التاريخ والفن والأدب، ومتأكد حبيبتي انك لن تستطيعي أن تقولي له كيف بيعت الفتيات المسروقات من دار الأيتام قرب محلات بيع قطع غيار السيارات في منطقة ( السنك ) عام2003، وكم عذراء سُبيَتْ باسم الدين، وكم مُنتَمٍ غير انتمائه أو أصبح بلا انتماء، وكم رجل دين تحول إلى قاتل باسم الدين، يا صديقي، ستتغير المواقف حتماً عندما تكون عودتك إلى المنزل سالماً مجرد احتمال، بربك، لماذا لم تفعل شيئا من أجل ابنك، حاتم، الذي ورث أو تعلم الهلوسة الثملة والخدر من عمه مالك، وجعل من وحدته سلاحه الرئيسي، كان دائم الهذيان بقصتك إذ ندم على عدم استقبالك، فقد كان صغيراً خائفاً حينها، عندما رأى أمه كريمة تلطم وتولول عند رؤيتك ولم يكن يدرك انها ذهلت لفكرة كونها متزوجة من رجلين، ورغم انه كان يُستفز من قبل أصدقائه في ساعات المخاصمة والنزاعات، عندما يطلقون عليه لقب(ابن أُم الرجولة)، يغضب، راحت تلك الكلمات تنخس احترامه لنفسه، ليصل النزاع لدرجة العراك والضرب، الا انه في ساعات خلوته وخدره يترك عالمه الداخلي عارياً مكشوفاً بشكل موحش، حين ذلك فقط كان بإمكانه ان يتمنى لو أنهم عاشوا جميعاً في بيت واحد هو وأبيه وعمه مالك، وما كان ليهتم لقول الناس ان كريمة تزوجت من اثنان أو ثلاثة، ليعوض بهم احساسه بفقدان أبيه متأملا صورته الموغلة في الهروب، في ساعات الهذيان والخدر فقط، يصنع واقعاً كما يريد له أن يكون. (يلتفت الى حبيبته)_ أنت غاضبة من الحياة، ومقتنعة بالفكرة، أن نفعل شيئاً كبيراً لمن نعرفهم هناك طالما لم نستطع شيئا لأنفسنا. هكذا اتخذت قرارها، لكنها تريد العودة الى هناك لتتأكد من شيء ما لا تريد البوح به، وربما أعرفه اذا ما لازمتها، ولكن، أهي حية أم ميتة؟ ربما لا تدري الى ألآن، أنها ميتة، أو أنها لا تريد الموت، ولكن كيف اقتنعتْ بفكرتك وتريد العمل عليها طالما انها ما زالت حية؟هل هي غير متأكدة من موتها، انها لا تتكلم كثيراً كعادتها، لا تبوح بشيء لأعرف منها ما حدث.

3_ولبرهة يلتفت الى صديقه جاسم ليسأله :_ألا تعرف كيف مات ابنك المرحوم حاتم؟ في الوقت ألذي كان فيه عالمنا قلقاً ممزقاً في 2006 نخوض في بركة القتل العبثي كحرب أهلية بررت كل أعذار القتل والخراب ان كان بسبب الطمع أو الضغينة أو الحسد والسرقة، كل ذلك سُجِلَ على قيد الطائفية وبغياب القانون ووجود المصلحة لذلك أُغتيل العقل وعمت الفوضى، أراد مالك بذلك الجانب المظلم فيه وألذي يملي عليه كل تصرفاته أن يغري حاتم بالمخدرات مرة أُخرى فأرسل له أحد أصدقائه ليدعوه لها لكنه امتنع. كان مشغولاً بالسعادة ألتي أُتيحت له أخيراً وربما لبقايا حُسن حض لديه لم يكن يعرف ان مباراته انتهت وانه يلعب الآن بالوقت الضائع ليستمتع بالوقت الجميل أكثر وتزداد حسرة أُمه كريمة أكثر فلم يمضي ثلاثة أشهر على زواج حاتم حتى فاض غيض مالك(عمه وزوج أمه)، وتفاقمت الغريزة التدميرية ألتي نحملها جميعا في دواخلنا ليتفق مع أحد أفراد العصابات أن يقتل حاتم مقابل مبلغ من المال وبالتأكيد ستُجيَر عملية القتل على انها قتل طائفي في تلك ألفترة، وفعلا تم كل شيء عندما قرر حاتم ان يأخذ زوجته الى الطبيب في فترة الظهيرة فخرج معها الى السيارة سانداً ايها حيث لم تكن تستطيع المشي بسهولة لما كانت تعاني من أعراض صحية في تلك الأثناء, كان عمه مالك قد طلب رقماً على هاتفه ولم يكلم أحد بل أغلق الخط بعد رنة أو اثنتين, مر قرب السيارة ألتي كانا يستعدان للانطلاق بها شخص مُلثّم وأرداهما قتيلين بسلاح بكاتم للصوت، وفعلاً جُيّرت عملية القتل على أساس طائفي، ولم يتمتع حاتم ذلك الشاب المسكين بأقل القليل من حياته، لم يعرف أي باب يفتح ليصل الى سعادته، وعندما وجد ذلك الباب ظل يطرقها فلم تُفتَح الا لقاتل مأجور في الوقت ألذي كان ينتظر خبراً سعيداً هو وأُمه، بأن عائلتهما ستكبر بإضافة طفل صغير اليها، مثل فلاح يهاجم حقله الجراد في ليلة الحصاد، وما ان مرت فترة وجيزة حتى اختلف مالك مع قاتل حاتم وزوجته اذ أخذ الأخير بمطالبته بمبالغ اضافية لم يستطع توفيرها ولأنه فقط قيل له انه سيقتل حاتم لكنه لم يستطع أن يترك زوجته حية ليقتل زوجها أمامها .

4_روح الشاب تستمر في الحديث لروح حبيبته ويحكي كيف استشهد _بصراحة عزيزتي لقد كانت في حياتي أنثى غيرك، قد تشبهك كثيراً في أشياء وتختلف عنك في أشياء أخرى، انها أم ذيبان، لم أرى شيئا شبيهاً بأم ذيبان، تعرفت عليها قبيل موتي بوقت قصير، عندما أرسلت وخمسة من رفاقي في الوحدة لنتخذ موقعاً خفياً على مقربة من المدينة، في مسافة وعرة بين ثلاث تلال صغيرة تبعد مسافة عن خربة طينية يبدو أنها كانت منزل متواضع تابع لحقل وكانت الخربة محاطة بأربع نخلات أو خمسة، وحسب المعلومات التي وردت من داخل المدينة كانت مجموعة من المسلحين تتخذ منها ملجأ في النهار لتغير على المدينة ليلا بمساعدة بعض المنتفعين، كانت أم ذيبان تقود قطيعها كل ليلة باحثين على ما يقتاتون عليه من حيوانات شاردة من راعيها أو بعض الغزلان على أطراف الصحراء، لذلك، تقاطعت طرق القطيع والمسلحين مرة أو مرتين، واستطاع المسلحون قتل ذئبين من القطيع كانوا ابني أم ذيبان مما دفعها في التفكير بالانتقام، وعندما وصلنا أنا ورفاقي الخمسة الى المكان المحدد في المسافة بين التلال الثلاثة والخربة التي احتلها المسلحون كانت جثتي الذئبين الصغيرين موجودة هناك وآثار الاطلاقات النارية بادية على جسديهما، يومها قمت بحفر حفرة لأدفن الجثتين فيها لأمنع مجيء حيوانات أخرى قد تجذبها الرائحة،  وقد تلفت الانتباه لوجودنا، كما قمنا بحفر موضعنا لنختبئ به منتظرين قدوم التعزيزات والدبابات التي وعدنا بها، في الليلة التالية كانت أم ذيبان تحوم حول مكاننا ليلا لزيارة قبر ابنائها، وكانت تقترب لدرجة مخيفة وكأنها تعرب عن امتنانها لدفن الجثتين، لكن في الحقيقة ان الذئاب من الوفاء بحيث أنها تقيم الحداد على موتاها لمدة ثلاث أشهر على الأقل وقد تطول الفترة الى سنة وقد يصاحبها حالات انتحار من الحزن، ولم نكن نستطيع اتخاذ أي موقف ضدها خشية أن ينتبه لوجودنا أحد الا الصبر والصمت الذي احترمته فينا متجاهلة وجودنا, وفي الليلة الثانية استطعنا أن نسمع أصوات صرخات مذعورة من ناحية الخربة بعدها سمعنا صوت اطلاقات شقت كبد السماء الصامت، ركض بعدها قطيع الذئاب ناحية الصحراء. كانت أم ذيبان قد طلبت من القطيع أن يترك المكان باتجاه الصحراء، وترك ثأرها لتأخذه بنفسها فأبى القطيع الا أن يشاركها ولو مرة في غارة واحدة على الاقل، فاتجهت باتجاه التلال تاركة القطيع المتجه الى الصحراء، وكانوا قد قتلوا أربعة من المسلحين في تلك الليلة. انها الليلة الثالثة لنا في المكان والتي أصبحنا فيها بين المسلحين في الخربة المحاطة بالنخلات، وبين التلال التي لجأت اليها أم ذيبان تنتظر الفرصة لانتقامها من باقي المسلحين، ونحن في انتظار أن تأتي التعزيزات والدبابات لشن الهجوم المرتقب الذي بدى لنا انه نسي أو أُلغي، أو ربما نسي أمرنا بالكامل، وعليه أراد اثنان من المجموعة التي معي العودة الى المقر للاستفسار ولم يرغب الباقون بذلك خشية أن يلاحظ أحد الأمر فيكشف موقعنا ولكنهم أصروا قائلين ان أمرنا قد نسي تماما وعلينا العودة، ونفذوا ما أرادوا في تلك الليلة، وما هو إلا وقت قصير حتى كُشف أمرهم وسمعنا اطلاقات نارية فهمنا منها ان رفيقينا قد قتلا وهبت مجموعة المسلحين للبحث عن المزيد، واستطاعت أم ذيبان أن تقتل اثنان منهم بمساعدة ذئبين من أولادها في القطيع كانوا قد عادوا اليها رافضين التخلي عنها مصرين على مساعدتها في أخذ ثأرها، استطاعوا أن يحاصروا المسلحين بين التلال، ها قد أصبحنا في طريقهم وهم فارين منها باتجاهنا الى خربتهم ثم باتجاه المدينة ربما لطلب المساعدة، ثيابهم القصيرة، لحاهم القذرة الشعثة، وشعورهم الطويلة المغبرة، لاحظ أحدهم أحد رفاقي الذي رفع رأسه ليتبين ما يحدث فألقى باتجاهنا بقنبلة يدوية، شقت كبد السماء بدويها، كان شيئا ساخنا يمر عبر ساقي الأيمن ليلقيه بعيداً عني، فوضعت شيئاً ما في فمي كي لا أصرخ، وكان آخر شيء رأيته جثة صديقي الذي جذب الينا انتباه المسلحين بفضوله، فقدت الوعي بعد لحظات، وعندما أفقت قبيل الفجر، وربما كانت عيناي غائمتان بسبب ما تسرب من دمي، أو ان ظلمة حالكة تشبه الموت قد أحاطت بالمكان، ولكن لم أجد رفاقي، لكني تبينت اثنان من الذئاب يسحبان جثة صاحبي، انتابني الهلع وأردت الهرب ولم أستطع الحركة، لم أملك من القوة ما يكفي لأنهض ولم يكن بقربي سلاح لأدافع به عن نفسي وجثة زميلي، في هذه الأثناء اقتربت مني أم ذيبان تصدر صوتا مثل عواء جرو صغير وقربت وجهها من وجهي، تقطعت انفاسي خوفا ورعبا، يبدو انها شمت رائحة خوفي غير انها بادرتني بلعق وجهي وجبيني ففضلت الصمت مظهراً شيئاً من الشجاعة، لكن قواي بدأت تخور في شبه اغماء، لا أدري ان كانت هلوسة ما قبل الموت أو هذيان محموم حين سمعتها تقول :_ لا تخف سيلقيان به في حفرة ويحثوا عليه التراب، الذئاب لا تأكل الجيف اطلاقاً، ها قد أصبح رفيقي جيفة تعافها الذئاب، في حين سيسمونه الأهل بالشهيد البطل، وقريبا سأصبح جيفة أنا الآخر، وجزء مني أصبح جيفة فعلا، ساقي المقطوعة التي تلفت لأجدها كشيء ثمين أمتلكه وعندما ضاع مني أصبح جيفة، ربما دفنتها أم ذيبان هي الأخرى، كانت تنظر لي في حنين غريب لم أفهمه، ثم أخذت تحدثني عن انها لم تكن تتمنى أن تتقاطع طرقنا، وانهم حريصون دائماً على عدم تجاوز حدودهم الى مناطق قطعان أخرى، بوضع الحدود واطلاق العواء بين فترة وأخرى لإثبات الوجود،  ولكن قُدِّرَ لنا أن نلتقي وبهذه الظروف تحديداً، وقالت اني سأكون بحماية القطيع اذا كنت لا أمانع في أن أكون ذئباً منهم وفي هذه الحالة سيطبق علي دستور الذئاب، ورفاقي كانوا قد غادروا، أو لا أدري ماذا حل بهم، وتمنيت لو غادروا ليطلبوا نجدة، ولكن لماذا لم يأخذوني معهم، لماذا أخذوا كل السلاح معهم ولم يتركوا شيئا لي أدافع به عن نفسي, الرفاق اللذين دخلت الحرب حاملاً اياهم كسلاح فخسرتها, حين تجاهلت ذخيرتهم الفاسدة, أغمضت عيني على يأسي وقلة حيلتي، ثم نهضت وأنا بكامل جسدي، لم أكن أعاني، لم تكن ساقي مقطوعة، لم أشعر بالعطش، هكذا دخلت عالم الموتى مثل المسيح أحمل الصليب كساق مقطوعة وقد تخلى عني الرفاق .

5_ هنا فجأة قررت روح الفتاة أن تعود للحياة لتتأكد من شيء ما, ولم يستطع حبيبها الا مجاراتها فيما تريد فيكمل هو حديثه_ كنت أتوقع انها غير متأكدة من ماهية وجودها معي وها هي ألآن تريد العودة مصرة لتتأكد مخاوفي هكذا فجأة لكن لست أفهم ارادتها للذهاب الى (الكرادة) وجاسم المتكتم لا يريد أن يصرح بما يعرف محاولا بخبث أن لا يكون نذير شؤم فقط فنذر نفسه للصمت، وبهذا لا أستطيع أن أكون الا منصاعا لإرادتها رغم خوفي عليها مما حذرني منه جاسم، ترى ماذا عليها أن لا ترى كي تتجنب الآلام والاحزان، هل هي ذكرياتها التي أجهلها عن النار والدخان، ولماذا في منطقة الكرادة، ولكن وعلى أي حال لماذا لا نواجه واقعنا أنا وهي كما كنا دائما وهكذا ينتهي اللغز لتنتهي معه أو تبدأ مخاوفنا بعد مواجهتها، وها نحن ألآن وصلنا الى ساحة كهرمانة والشارع مقطوع بعربات الجيش والشرطة والناس سائرون باتجاه الكرادة يتعثرون بالذل والمهانة، والوجوه يكسوها بؤس الطرواديين، صيحات عن تفجير وحريق في مجمع تجاري، ما زال البحث جاريا عن بقايا ألأشلاء، وجه ذاهل لشاب يقال انه فقد زوجته وأطفاله الثلاثة دون أن يتمكن من العثور على جثثهم برغم مراجعة أغلب المستشفيات التي استقبلت ضحايا الانفجار، ظل لأيام يبحث في أنقاض المكان على أمل العثور ولو على أثر من بقايا أسرته ولكن دون جدوى، فقدت احدى الأسر سبعة من أبنائها وأخرى خمسة من أبنائها، فنان ممثل أصيب بجروح بالغة وأنباء عن احتمال موته، وعروس لم تزف جاءت تبحث عن خطيبها وحلم بزفاف أبيض تحول بلون الرماد، مطرب أعلن وفاة اثنتين من بنات شقيقه، لاعب كرة قدم في المنتخب فقد ابنه في الحادث، وهناك من يقول بان التفجير تم بسيارة محملة بغازات حارقة تشكل مادة النابالم الجزء الرئيسي من مكوناتها، ومن يتحدث عن الانفجار الذي لم يخلف دماراً للبنايات كما لم يخلف حفرة في موقع الانفجار، مما يدل على عدم استخدام مادة c4  التي تستخدم عادة في تفخيخ المركبات، وهناك من يقول ان وصول سيارة حاملة لكمية كبيرة من هذه المادة وتحت أجواء تصل فيها الحرارة الى 50 درجة مئوية يتطلب تقنيات غنية عالية المستوى, ولم يكن هناك أمل في أن تعثر روح الفتاة على جسدها لذلك سنذهب للبحث في المستشفى. حيث الناس مجتمعون هنا، كل يريد جثامين موتاه، لكن المستشفى ترفض بحجة عدم التعرف على الهوية، يا الهي، أ لهذه الدرجة، كيف اذن ستتعرف على جسدها,

6_ بعد أن يجدوا ان جسد الفتاة قد تفحم قررت هي تركه في المستشفى اذ أصبح من المستحيل أن تعيش مع ذلك الجسد فتخرج مع حبيبها من المستشفى ليكتشفوا الحقيقة المرة, اذ استلم بعض عوائل الضحايا (منيكانات) دمى عرض الملابس بدل جثث ضحاياهم. على باب المستشفى تنزل سيدة من سيارة لتحكي قصتها للناس الواقفين هناك على مرأى من روح الشاب وحبيبته وصديقهم جاسم.المرأة تصرخ وتولول تسب, تشتم، وذوي الضحايا يتجمهرون حولها، وقفت اذان حراس البوابة كالكلاب مُهَيئين لحدوث أمر جلل، سقطت المرأة على الأرض، تمرغت بالتراب وهي تجر الدمية والرجل يساعدها، تعثر هو الآخر، رمى بنفسه عليها محاولا أن لا يسمح لها بنزع العباءة و(الفوطة)(غطاء الرأس) تعبيراً عن الحزن، وليظهر شعرها الذي وخطه الشيب، عواء أم ذيبان يتردد صداه في أذني، وموتي يقف بين عيني مرة أخرى، لكني متمسك بحبيبتي كتمسك اليائس من أسباب الحياة بأي سبب يربطه بها، انتبهت حبيبتي لصوت المرأة العجوز، بدت تصغي وتنسى موتها، هدأ ارتعاشها، والعجوز تَحث التراب على رأسها، رمى الرجل الدمية الى جانب الرصيف، سقطت أمام جاسم الجالس على الدكة، تحرك جاسم ليرفع الدمية ويجلسها الى جانبه، كانت بنصف وجه محترق، وذابت الاطراف العليا منها لحد الكوع، وساقان متفحمتان، جلست الدمية متلفتة الى الوجوه، تود لو تعرف ماذا يجري، تبدو كمغفل دخل اللعبة رغماً عنه أو مجرد صدفة، صاحت العجوز بالناس:_ مصيبتي لم ولن تمر على أحد، جئت تواً من المقبرة، رحت هناك لأدفن ابني هذا الذي احترق في الكرادة، التفت الناس الى الدمية المحترقة حيث أشارت المرأة العجوز، رفعت المرأة كفيها الى وجنتيها وحفرت أربعة سواقي من الدم في كل خد، بكت النسوة، صرخ الرجال، أرادوا أن يفهموا ماذا حدث، نظر جاسم الى الدمية التي لم تفهم الا حديثه من دون كل الواقفين الشاهدين على هذا الحدث، يا إلهي، المنكان يتكلم وقد انثالت عليه العبارات وهو يقول:_ لم أعرف معنى الدور الذي أعطوه لي عندما وضعوني في الثلاجة، مرت أيام وليال، وأنا أشتاق لوجه بائع البسطة الذي كان يمر من أمامي ليحلم بالبدلة التي أرتديها، اشتقت لوجه الطفلة المستجدية التي كانت تتشبث بأيدي المارة محاولة أن تجمع ثمن زي العيد، لوجه العشاق المفلسين عندما يتجاهلوني معتقدين انهم تجاهلوا خيباتهم، وجه المراهقة التي كانت تنظر لي بشغف، متمنية أن تجد حبيب يشبهني وأنا أبتسم وأغمز لها بطرف عيني لإثارتها لتبقى أمام زجاج نافذة العرض أطول فترة ممكنة، رائحة الشاي والطعام في الشارع والناس المسرعين قبل الافطار وهم يبحثون عن آخر الأشياء التي نسوا شرائها، كبار السن بعلامات الشيخوخة التي لا مفر منها وهم ذاهبون الى المقاهي والجوامع على مهل غير مبالين بتقدم العمر مدفوع الثمن، بالزمن المسرع وقد سرق أثمن ما لديهم، لقد أديت واجبي حتى النهاية، ولكن لم يتفاعل أحد مع الدور الأخير، لم أستطع تأديته كما يجب، فزعت لرؤيتي طاولة غاسل الموتى، ارتابت (الليفة والصابونة) في يده، لكنه غرق في الضحك والدموع عندما عرف انه يغسل دمية، ذهلت الحِنة، هرب الكافور، لم أستطع اقناعهم باني ميت فعلا، عندما لم أستطع مواساة الأم التي استلمتني من الثلاجة، مقابل جثة ابنها المحترقة في الكرادة، لم أستطع اقناع الزوجة بان تدفنني بدل جثة زوجها لأن ذلك لن يغير شيئا في الحكاية، ولم أقنع ابنه الصغير عندما قلت له اني سأساعده في تحضير فروضه المدرسية والعب معه في وقت الفراغ، ولا تسالني عن الحقيقة، بإمكانك أن تسال الدمى المتحركة، لماذا نفضل روايات الفنتازيا، فحياتنا فنتازيا كبيرة حقيقية. الآن عرف الجميع ماذا كان دور المنكان. بعد أن تجد الأرواح انها تحررت من آلامها أمام مشهد آلام أهالي الضحايا المنتضرين أمام باب المستشفى, يتآلفون فيما بينهم ليسيروا جميعاً, روح الشاب وحبيبته, صديقهم جاسم, وأرواح مئات الضحايا في التفجير الأرهابي الذي حصد أرواحهم في ليلة رمضانية قبيل عيد الفطر, ساروا جميعا يتبادلون الحديث متجولين في شوارع بغداد الى أن يصلوا الى شارع (اأبي نؤاس) حيث قاعة الفن التشكيلي, يتأثروا بلوحاتها حيث كانت تصور عوالم غريبة فيقرروا الدخول الى تلك العوالم ليسكنوها الى الأبد .

7_(الكلام للفنانة التشكيلية) عندما عدت الى المنزل, استقبلني عمي بفرح لما علم من أبنائه عن نجاح المعرض, وتمنى لي التوفيق, طالباً مني أن أعيد النظر في أمر رحيلي وعودتي الى فرنسا, وهذا ما فاجئني, لقد كانت هذه المرة الأولى التي نتحدث فيها بهذا الموضوع, ولم أكن في حال يساعد على مناقشة هذه المواضيع, فطلبت اليه أن نؤجل الحديث الى وقت آخر فقد كنت تعبة جداً, وما ان فتحت باب غرفتي حتى طالعتني الدمية وهي جالسة على كرسي قرب سريري حيث وضعتها ليلة الأمس, وعادت أشباح لوحاتي التي رأيتها الليلة في المعرض وأنا لا أكاد أفهم ولا أريد أن أفهم ما يحدث, أيمكن لتأثير المكان والأحداث التي مرت بي أن يصل الى هذه الدرجة, وما ان غيرت ملابسي حتى استلقيت على السرير, ويبدو اني غفوت مباشرة, حتى رأيت أبي مرة أخرى, وقد كان سعيداً جداً, وهو يجلس قرب المنيكان, وكانا يتحدثان بصوت منخفض فرفعت رأسي مستفهمة وعيناي تكادان لا تفتحان من شدة التعب, وما ان رآني حتى بادرني بالحديث, اهلاً بفنانتي الرائعة, أهنئك على ابداعك, انه لمنجز ستفخرين به دوماً, لكني يا ابنتي أرجو منك أن لا تبيعي هذه اللوحات مهما حدث, أتمنى أن تبقيها, لا تبيعيها, افتحي قاعة عرض خاصة بك, أو حتى متحفاً للفن الحديث تعلقين فيه هذه اللوحات وغيرها, لكن لا تبيعيها, أرجوك يا ابنتي, انها الطريقة الوحيدة التي أستطيع أن أسدد بها دَيني لجاسم, لقد وجدنا فيها عالمنا الذي نريد أن نعيشه, أنا وهو وغيرنا الكثير, نحن هناك داخل عالمك ومدنك والوانك, وربما سألتقي بأمك هناك, حبيبتي, نحن نحتاجك الآن, لقد صنعت عالمنا الذي لم نكن نعرف كيف نصنعه أو نحلم به, ربما بنقائك, أو برائتك, لكن هذا ما حدث, فلا تبيعيها, ظل أبي يردد هذه الكلمات مراراً, وبدأ صوته يتهدج بالبكاء, فأفقت من حلمي, كان الوقت صباحاً, فغيرت ملابسي وتناولت الافطار مع العائلة, وأراد عمي أن يفتح موضوع بقائي في بغداد مرة أخرى, لكني طلبت منه أن يتريث ويمنحني بعض الوقت لأفكر في الموضوع, ولكن أليست الفكرة شبيهة بفكرة أبي في حلم الليلة الماضية, ألم يطلب مني انشاء قاعة عرض فنون تشكيلية أو حتى متحف للاحتفاض باللوحات ذات العوالم الغريبة التي وجد طريقه اليها, ألم أتمنى أن يجد تلك العوالم ليرتاح من عذاباته التي مر بها مؤخراً قبل موته, وهذا المنيكان الغريب, ألم يكن ما يشبه الرسالة لينبهني الى كل ما حصل مع أبي؟ وقد رأيته بالأمس داخل اللوحة هو الآخر؟ أ تراني جننت؟ وكيف سأتخطى كل ذلك؟. حيرتي تتفاقم كلما أطلت المكوث في هذا المكان, ما بين الرحيل الى فرنسا لأعود الى ممارسة حياتي العادية, وبين رسائل أبي المتوالية وارادته المغيبة بالموت, وطلبه مني أن أحتفظ باللوحات التي رسمتها, هل سأعين نفسي حارساً للوحات, أم علي أن أقيم قاعة عرض فنون هنا لأحتفظ باللوحات فيها, أم ساتركها في عهدة عمي في العراق, هل سأمن عليها اذا ما تركتها هنا ورحلت حيث الطرق غير معبدة بين من يقدر الفن والأدب والتاريخ وبين من لا قيمة لهذه الأشياء في نظره, ليكون مصيرها مثل مصير متحف الفن التشكيلي, وخصوصاً بعد أن أخبرني أبي انها مهمة له ولصديقه جاسم كعالم اختاروا البقاء فيه هم ورفاقهم الباقين, هل ما رأيته في لوحاتي حقيقة, والسؤال الأهم هو هل أجرؤ على البوح بكل ذلك. ربما أكون عالقة بشيء من الحنين لأبي, وفقدي له أثار في نوازع غريبة واضطراب لم أعهده في شخصيتي من قبل, لكني أعلم عن نفسي جيداً باني انسانة واقعية ولا أتمتع بذلك الخيال المضطرب لدرجة التاثير على قراراتي, على أي حال, أنا أعلم جيداً ومنذ رحيلي مع أبي من فرنسا الى هنا وأنا على يقين بأني سأعود, وهذا قرار نهائي  اتخذته منذ البداية, لطالما كانت البدايات الجديدة صعبة جداً بالنسبة لي, واقامة قاعة عرض فنون تشكيلية هنا ليست من خياراتي, وبالتالي علي أن أسافر الى فرنسا مع اللوحات لأني لا آمن بقائها هنا حتى وان كانت في عهدة عمي, انها عالم آخر ينبض بالحياة أكثر من نبض حياتي, ربما أكون قد عهدت بحياتي الخاوية فيها, فأصبحتْ كل ما أتوهمه عن هؤلاء الذين يعيشون فيها, ربما أكون قد تأثرت بقصصهم التي سمعتها هنا فأنسكبوا داخل اللوحات من خلال فرشاتي عبر اللاشعور, لكنهم هناك على أي حال ولن أغير شيء من ذلك حتى ان استطعت, وهكذا علي أن آخذها معي وأسافر علني أجد الحقيقة المحضة عندما أعود لحياتي العادية هناك. ذهبت في ذلك اليوم الى شارع ابي نؤاس مبكرة وفي قاعة برج بابل التقيت السيدة ذكرى(صاحبة قاعة العرض), ووجدت ان كل اللوحات مؤشرة ببطاقة حمراء أي انها مطلوبة للشراء, ان لم يكن الكثير منها مؤشر ببطاقة طلب نسخة منها, واستقبلتي السيدة ذكرى بأخلاقها العالية ورقة طبعها, وجلسنا نحتسي القهوة ونتبادل الحديث عن ليلة العرض الأول وعمل الاعلامين, واحتجت شيء من الوقت لأكسب الجرأة للحديث عن موضوع بيع اللوحات, واستطعت أن أخبرها برغبتي بالأحتفاض بها لنفسي, على أن أعمل لها النسخ التي تريد في فرنسا, وسأرسل لها كل طلباتها من هناك , وكان هذا قراري النهائي

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى