ط
السيناريو والحوار

مونودراما ( وجبة لأسماك الزينة) مسابقة النص المسرحى بقلم / عمرو عادل أحمد الرديني .مصر

وَجْبَةٌ لأسْماكِ الزِّينة!

مَسْرحيَّةٌ من فصلٍ واحِد..

(مونودراما)

   يُفتحُ السِّتار:

منظرٌ لحُجرةٍ بائسةٍ: الجُدران تساقط طلائها الجيري من أثرِ الرطوبة، الأرضيَّة لا يوجد عليها سوى حصيرة مُتهلهِلة، في الجانبِ الأيمن سرير مُتهالك، أغطيته مُهترئة، في اليسارِ مكتبٍ خشبيٍّ صغير، على سطحِه بعض الأوراق، وقارورة فارغة من الزجاج، ويستند عليه كرسي خشبي بثلاثةِ أرجُلٍ فقط..

فوق السرير يرقدُ رجلاً أربعينيًّا، نحيف الجسد، رثّ الثياب، يبدو في هيئتهِ كجثَّةٍ هامدةٍ، يرتدي قميصًا وبنطلونًا بهت لونهما، لحيته نابتة، وشعره مهوش!.

((فجأة ينهض الرجل، وكأنَّه قد دبَّت فيه الروح، يجلس على طرفِ السرير، مُواجهًا الجمهور،

يمسك بطنه الضامر، ممَّا يدل على جوعِه الشديد، ويُبلِّل شفتاه اليابستان بلسانِه، دليل العطش..))

الرجلُ:  (مُتسائِلاً).. تُرى كَم الساعة الآن؟ هل أشرقتْ الشَّمس، أم طلّ القمر؟

(ينظر لمِعصمِ يده اليُسرى الخاوي).. آه، لقد نسيت، فقد بعت ساعتي منذ أيَّام قليلة..

(يُلقي نظرةً خاطفة على الحائطِ خلفه).. أمَّا ساعة الحائط فقد بعتها منذ فترة طويلة،

(سارحًا).. أذكر ذلك اليوم تحديدًا، ففيه تمَّ نشر أوَّل قصَّة لي في تلك المجلَّة الجديدة حينها.. (يبتسم).. فرحتُ كعادتي بأيِّ انتصارٍ أدبي، أعلمُ أنَّ الكل من حولي يرونني ساذجًا، لكن لا يهم، فأنا أيضًا أراهم أغبياءً.. فرحتُ بالقصَّةِ، وصورتي بالحُلَّةِ اليتيمة التي كنت أمتلكها تُنير الصفحة.. لكنِّي عجزت عن شراءِها، فثمن المجلَّة الفاخرة –والتي لا تعطي مكافأة للنشر- يُعادل تكلفة وجبة غداء.. (يتحسَّس بطنه بيده).. لكنِّي رغم ذلك اشتريتها، (ضاحكًا).. طبعًا عرفتم كيف؟ تمام، (مُشيرًا بيده للخلف).. هي حلَّت المُعضلة، فبثمنها اشتريتُ عددًا من المجلَّةِ، وتناولتُ إفطارًا خفيفًا على مقهى المُثقَّفين، مع كوب شاي بالنعناع ليس له مثيل.. (يُبلِّل شفتاه من جديد).

هل أشرقتْ الشَّمس، أم طلَّ القمر؟ (مُتأمِّلاً).. يصلح بيتًا في قصيدة، (مُتألِّمًا).. كم تمنَّيتُ أنْ أنظُم الشعر الفصيح، فأبني بيوتًا ربَّما عجزتُ عن بناءِها في الحقيقة.. بالشعرِ كان بإمكاني أنْ أُغازل الحسناوات، وأُداهن الأعداء.. أهجو مَن أريد، وأرثي مَن أُحب.. (آسفًا).. لكنِّي اخترت القصَّة، أو هي مَن اختارتني.. أمزجُ الواقعَ بالخيالِ، أُواجه الدنيا بالكلمات.. (هازئًا).. وأنشرُ أحيانًا في مجلَّاتٍ لا أقوى على شرائِها!.

(يُدقِّقُ النظرَ تجاه النافذة المُغلقة).. تبدو الشمس ساطعة، أظنُّها التاسعة أو العاشرة.. (يتثاءبُ).. لا يهم، فلا مواعيد لدي اليوم.. (بحزنٍ).. ولا غدًا، فأنا عاطل عن العملِ منذ.. منذ.. (يضحك).. منذ زمنٍ بعييييد.. (يكفُّ عن الضحك).. حسنًا، فلأكمل نومي.

((يشرعُ في التمدُّدِ مرَّة ثانية، لكنَّه ينتبه ليجلس من جديد))

لكن عليَّ أوَّلاً أنْ أضع الطعام لسمكاتي العزيزات.. (يخبطُ جبهتَه بكفِّ يده، ويتساءل).. اللعنة، متى كانت آخر مرَّة؟ متى كانت آخر وجبة؟.

((يقومُ واقفًا للمرَّةِ الأُولى، ويترنَّح من شدَّةِ الإعياء))

(يتذكَّر).. لقد أخبرتني البائعة الحسناء يوم أشتريتهم بأنَّني يجب أنْ أضع لكلِّ سمكةٍ حبَّتين من الطعامِ، وذلك كل يومين.. (بنعومةٍ).. كَم كان صوتها رقيقًا.. (يتنحنحُ بخجلٍ).. إحم.. حبَّتين فقط، كل يومين.. هل لذلك اخترت السمك؟ حسبته لن يكلِّفني شيئًا، لكن بسببِه خسرتُ أهم شيء.. لا حظَّ لي مع النساء!.

(يتساءلُ شاردًا).. هل وضعتُ لهم الأكل أمس؟ لقد اخترتُ سمكةً ذهبيَّةً، مثل خصلات شَعر الفاتنة الحسناء، واسميتها “قصَّة”.. (يجلس).. لو كنت قد أطعمتهم بالأمس فسيكُون الموعد في الغد.. (يقف).. واخترتُ السمكةَ الأخرى زرقاء بلونِ عينيها، كم كانت جميلة وساحرة، وتلك اسميتها “رواية”.. (يتنحنحُ مرَّةً أخرى).. إحم.. أمَّا لو كنت وضعتُ لهم الحُبيبات أوَّل أمس فعليَّ أنْ أُطعمهم اليوم، كنت أتمنَّى أنْ أجد سمكة بيضاء بياض بَشرتها، فأمنحها لقب “قصيدة”.. (يائسًا).. لا أذكُر، فعلاً لا أذكُر!.

((يبدأُ في الحركةِ، فيتمشَّى ببطءٍ في الحُجرة))

(في حيرةٍ).. لا يُمكنني أنْ أُغامر بأرواحِهم، لا أستطيع أنْ أعتمد على التخمين.. يكفي أنَّ الجميع قد تخلُّوا عنِّي عداهم..

(يعدُّ على أصابعِه): الزُملاء، الأصدقاء.. الجيران، الأَهل.. (يُمسكُ بإصبعِه الخامس).. والأحباب!.. (ينظرُ لمسمارٍ مدقوق في الحائطِ، ويتكلَّم بأسى).. هنا كان البرواز الذي يضمُّ صورة زفافنا، أنا أقفُ مُنتصبًا بحُلَّتي السوداء اليتيمة، وهي تجلس بدلالٍ بفستانِها الأبيض المُطرَّز.. أصرَّت حينها أنْ تشتريه، طلبتُ منها أنْ نستأجره، فالأمر لا يزيد عن عدَّةِ ساعات.. لكنَّها تشبَّثت بطلبِها، وقالت أنَّها تتمنَّى أن تحتفظ به طوال العُمر.. (ساخرًا).. وها هي قد أخذته معها، كما أخذت البرواز.. حتَّى الذكرى حرمتني منها!.

(يمشي بتوتُّرٍ).. متى كانت آخر وجبة؟ يا الله، متى كانت آخر وجبة؟ اللعنة على النسيان.. (يقف).. لطاما تمنَّيت أن أفقد الذاكرة، أنْ أملك ذاكرة “سمكة”، أن أنسى كل شيء.. الماضي، الحاضر، وبالمرَّةِ المستقبل.. أطمسُ تفاصيل المواقف، وأمحو ذكرى الأشخاص.. لا يبقى من التجاربِ سوى الألم، ولا يُخلِّفُ الآخرون ورائهم غير المرارة.

(يعود للمشي بتؤدةٍ).. اللعنة على النسيان، لماذا يأتي الآن فقط؟ لماذا تأتي كل الأمنيَّات بعد فوات الأوان؟ يأتي لك الحبّ بعد جفاف القلب، يأتي لك المال بعد زوال الصحَّة والشباب، يأتي لك الموت بعد تعلُّقك بالحياة، ويأتي لك النسيان بعد أن دمَّر التفكير عقلك!.

متى كانت آخر وجبة؟ آخر وجبة متى كانت؟ (يتوقَّف).. يبدو أنَّه سيتحتَّم عليّ أن أسترجع أحداث الأمس كاملة حتَّى أتبيَّن بدقَّةٍ هل وضعت لهم وجبتهم أم لا؟ (مُمتعضًا).. يا له من أمرٍ مُملٍّ ومُرهق، هو أشبه بالبحثِ عن شيءٍ فُقد مِنك في سلَّةٍ للقمامة.. لكن ما بيدي حيلٍ أخرى، وكل شيء يهُون من أجلِ صُحيباتي اللطاف.. (مُستسلمًا).. حسنًا.

((يعودُ ويجلس على السرير))

استيقظتُ أمس.. (يتمدَّد في وضعِ النَّوم لحظات).. لا، الرحمة، لاااااا.. (يقولها ويُكرِّرها صارخًا حتَّى ينهض مفزوعًا).. هكذا استيقظت صباح أمس، على أثرِ كابوسٍ بشع..

(يمسحُ وجهه بيديه).. كنت أسير في صحراءٍ قاحلةٍ، يكاد العطش والجوع أنْ يفتكا بي.. أتلفَّتُ حولي بحثًا عن أيِّ مَخرجٍ، فلا أجد سوى السراب.. وبينما أهِيم على وجهي الذي حرَّقته نيران الشمس غمرني ظلًّا رطبًا، تطلَّعت لمصدرِه المُفاجىء فوجدته حيَّةً عملاقة تطلُّ عليَّ كنخلةٍ باسقةٍ!.

(يمسحُ جبينه من العَرق، ويُكمل بصوتٍ مُرتعش).. كان لونها أسود بلونِ منتصف ليلة ليلاء، وعينيها كهوَّتينِ سحيقتينِ تطقَّان بالشررِ.. نشف الدم في عروقي، وضاع صوتي من الوجود، وأيقنت أنِّي هالِك لا محالة، فلا طاقة لي بمواجهةِ وحشٍ خرافيٍّ مثلها..

لكنَّها فاجئتني بعرضٍ عجيب، وصفقة نادرة.. فقد ساومتني بين أنْ تمنحني الشراب والطعام الذي أحتاجه في مقابلِ أنْ تلتهم جزءًا صغيرًا من جسدي! بالتأكيد هو “كرَم الأفاعي”.

(يتحسَّسُ جسده بيدِه).. ولأن عقلي حينها كان مُتوقِّفًا عن العملِ فقد وافقتُ على الفورِ؛ فشربتُ وأكلتُ، حتَّى ارتويتُ وامتلأت.. ثمَّ جاء وقت الحِساب، ووجدتها تقترب منِّي باشتهاءٍ لتأخذ المقابل الذي اتَّفقنا عليه.. لحظتها فقط بدأ عقلي في العمل، وقلبي في الخفقان، واختُصرتْ أسئلة الكون كلّه في سؤالٍ واحدٍ لا غير: بأيِّ جزءٍ من جسدي الهزيل أبدأ عمليَّة سداد الدَّين؟.

(يهرشُ في شَعرهِ الهائش).. يا له من سؤالٍ عسير! بأيِّ الأعضاء أُضحِّي؟ بأيِّ الأجزاء أبيع! أعطيها يدي الغالية؟ (ينظر ليدهِ باعتزازٍ).. لكنِّي أكتب بها أعمالي، وأطعم بها سمكاتي.. صحيح أنَّ لا أحد يقرأ لي لكنِّي لا أستغني عنها أبدًا.. (ينظر إلى ساقِه).. ساقي العزيزة، كيف لي أنْ أتصَعْلك بدونِك؟ فأجُوب الحواري والطرقات، وأطارد القصص والحكايات.. (ينظر إلى ما بين فخذيه، ويقول بفزعٍ).. لا لا، لا يُمكن.. حقيقة أنَّني الآن بلا امرأة لكن إلَّا هذا!.

(يعُود لهدوءِه).. وبينما أنا في حيرتي تلك، لا أجد إجابة مُنجية إذا بها تنقضُّ عليَّ، دون صبر على دهشتي العظمى.. وبالفعل كادت أن تفتك بي لولا أن استيقظت في الوقتِ المناسب..

(مُتنهِّدًا بارتياحٍ).. كابوسٌ مخيف؛ لكن أجمل ما فيه هي لحظات الأكل والشرب.. (مُتمنِّيًا).. ليتها دامتْ.. (مُتذكِّرًا).. لكنَّني الآن في كابوسٍ أكبر، فعند استيقاظي أمس كان قد مرَّ عليّ ثلاثة أيَّام بلا طعام أو شراب.. ربَّما كان ذلك هو تأويل رؤياي! المهم أنَّني قمتُ يائسًا، أبحث عن أيِّ شيءٍ يصلح للأكلِ، ويُخرس شيطان الجوع الكافر.

((يقومُ ليبحث في أرجاءِ الحُجرة))

فتحتُ صنبورَ المياه، فلم تنزل نقطةً واحدة! (يفتحُ الصنبورَ).. تذكَّرتُ أنَّهم قطعوها عنِّي بعد أنْ تعذَّر عليّ سدادِ فواتيرِهم المُتراكمة، بحثت عن أيِّ مصدرٍ للمياه.. (يُفتِّش يمينًا ويسارًا).. لا يوجد، لا يوجد.. لا بد من أيِّ شيءٍ يهبط إلى جوفي الخاوي.. (يتوقَّف فجأة)!.. لكن لحظة، تذكَّرتُ شيئًا.. لقد أمسكت بكيسِ الحبوبِ الخاص بطعامِ سمكاتي، وأخذت أُفكِّر، وأُفكِّر.

(يمسكُ بكيسٍ صغيرٍ فارغ).. هل يصلح كطعامٍ؟ تُرى ما مذاقه؟ هل سيمنحني الشبع لأيامٍ كما يفعل مع السمك؟ لكن السمك لن يجد ما يتغذَّى عليه إن أنا أجهزت على طعامِه! ساعتها سيمُوت، لكن أنا الذي سيلفظ حتمًا أنفاسه إذا لم أملأ معدتي سريعًا ولو بالهواءِ، ولحظتئذٍ لن يجد السمك مَن يضع له حُبيباته، ولا مَن يُغيِّر له الماء.

(حائرًا).. يا لها مِن مُعادلةٍ صعبة! رُبما تشبه الاختيار الذي مررت به في الكابوس؛ مَن فينا أَولى بالحياة؟ مَن أنفع لمَن؟ أعتقد الأفضل أنْ أبقى أنا على قيدِ الحياة، ثمَّ أُفكِّر بعد ذلك في مسألةِ طعامهم.. (يُشوِّح بيدهِ كمن ينفي تهمةً عن نفسِه).. هذه ليست أنانيَّة مُطلقًا، ولا طمع في الدنيا وحبّ في البقاء.. لكنَّها تندرج تحت باب: “فقه الأَوْلى”؛ (مُطمئنًا).. نعم، أن تعيش الأمّ، بدل الابن.. أن يعيش الغني، نيابة عن الفقير.. أنْ يحيا الوطن و”طُزّ” في الشعب.. (يُقهقهُ عاليًا)!.

وبدأتُ أتناول الحبوب الصغيرة.. (يُفرغُ الكيسَ في فمِه).. كانت كميَّة تكفيهم أيامًا طوال، رُبما أسابيعًا أو شهورًا.. وها أنا ذا أبلعهم في ثانيةٍ واحدة، دون أن أشعر بشبعٍ، ودون أن أجد لها مذاقًا.. (ساهمًا).. تمامًا مثل أيَّامي الفارغة، لا طعم لها ولا لون.. (يعود لتذكُّرِ يوم أمس).. كان ذلك على كلِّ حالٍ في أوَّلِ النهار، وبعدها عدت للنومِ سريعًا، وكأنَّني أهرب من جريمةٍ ارتكبتها!.

((يصعدُ للسريرِ لحظات لينام، ثُم يقُوم من جديد))

في وسطِ اليوم الكئيب استيقظتُ مُوشكًا على الهلاك، فقد بلغ عطشي مبلغًا يفوق الاحتمال.. (يمشي مُتهالكًا).. كنت خاويًا من كلِّ شيء، حتَّى من الأفكار.. وفجأة سمعتُ صوتَ طرقات على بابِ الحُجرة!.

((يذهبُ عند الباب، ويطرقه طرقات واهنة عدَّة مرَّات))

في البدايةِ لم أُصدِّق أذني، قد تكُون هلاوس الإعياء.. لكن بعد أنْ أصغت السمع، وزادت الطرقات وضوحًا تأكدت من أنّ إحدى حواسي ما زالت تعمل بصورةٍ جيِّدة..

احترتُ ماذا أفعل؟ هل أفتح الباب؟ هل أجيب الطارق؟ خفت أن يكُون أحدهم، أحد الدائنين.. اللعنة عليهم، ألا يصبرون عليّ! لطاما أقرضت الآخرون، لا أذكر أنَّني طرقت باب أحدهم مُطالبًا إيَّاه بِما عليه.

(يمشي بخفَّةٍ وحذرٍ).. عليّ أن أحترس، وأن لا يصدر صوت.. هم غير متأكدين من وجودي، فلا نور ينبعث من الحُجرة، ولا ضوضاء تتناقلها الجدران.. أمَّا لو تأكَّدوا لربما اقتحموا خلوتي، وقد يُدمِّروا سمكاتي..

(يقفُ هامسًا).. لكن ماذا لو كانت زوجتي؟ قد تكون فكَّرتْ وراجعتْ موقفها معي.. هي تمتلك قلبًا طيِّبًا، وسريرة نقيَّة.. يجب أن أفتح لها، أن أرحِّب بها.. ما هذا الذي أقول؟ أُرحِّبُ بها، وهل هي ضيفة؟

(فرحًا).. سآخذها في حضني، سأغمرها بقبلاتي.. سأجلسها على الكرسي الأعرج، وأسندها بقلبي.. سأغيِّرُ أسماء سمكاتي، وأجعلهم جميعًا باسمها هي لا غير..

(راقصًا).. سأصبحُ شاعرًا من أجلها، ورُبما رسَّامًا في محرابِ حُسنها.. لن أحتاج لكهرباء، هي ستُنير المكان.. لن أبحث عن ماءٍ، هي نبع الماء والحنان.. وبالنسبةِ للطعام، سآكل من ثمراتِ أنوثتها اليانعة.

((يفترُ حماسه فجأة، ويقفُ مُهمَلاً))

(بتوسُّلٍ).. فقط عودي، لو ترجعي.. لماذا تخلَّيتِ عنِّي في محنتي؟ لماذا لم تصبري بضعة شهور؟!

(مُتمرِّدًا).. لكن لا، لن أفتح لكِ.. أنا أعرف ألاعيبك جيِّدًا، وأحفظ مكركِ عن ظهرِ قلب.. تريدين أن أفتح الباب حتَّى تُسلِّمينني للشرطة، أراكِ تعاونتي معهم، تواطئتي مع خسَّتهم.. ستطالبين بالحجزِ على الحُجرةِ، وستأخذين محتويات المكان، وها أنتِ بكلِّ نزقٍ ترمين الأسماك الهادئة للقططِ الجائعة.

(ينظرُ ناحيةَ الباب بتطلُّعٍ).. كم تمنَّيت الخروج من هذا الباب الضيِّق ولو لدقائقٍ، لكن الدائنين ينتظرونني خارجه كما تنتظر جهنَّم العاصين.. أنا أصبر على قَرصِ الجوع، ولا أحتمل استباحتهم لكرامتي.. أقاوم احتياجي للماء، ولا أطيق إهانتهم لي.. ليت الأمر ينتهي عند السجن فقط، أنا هنا مسجون بالفعلِ.. لكنَّهم سيسحقونني سحقًا قبل أي شيء!.

(ينظرُ حوله بأسفٍ).. هنا في الداخل أيضًا لم يعد ثمَّة شيء يُمكن بيعه، أو الاستفادة منه! (يُشير ناحية اليمين).. في ذلك المكان هناك كان يوجد التلفاز، لكنِّي رأيت أنَّ لا فائدة له، فلم يعد يبث سوى كل ما يُزعج الروح، ويُضلِّل العقل..

(يشير لناحيةِ اليسار).. وهناك كانت المكتبة، مكتبتي التي قضيت عمري كلّه أجمع فيها.. آلاف الكتب، من كلِّ الأجناس، ولمعظمِ الكُتَّاب الكبار.. للأسف كانت أوَّل ما ضحَّتْ به زوجتي، فهي رغبة دفينة لديها منذ زواجنا.. تعاملها وكأنَّها ضُرَّة لها! لم أمنعها على أيِّ حال لأنني كنت بالفعلِ قد مللت القراءة.. بل بدأت أقتنع في كونِها هي مَن أفسدت عقلي كما اعتادت أنْ تقول لي أُمِّي، ومِن بعدِها زوجتي!.

(يُشيرُ لوسطِ الحُجرة).. هنا كان الدولاب الخشبي.. (يسخر).. أصبح هو الآخر بلا جدوى، بعد أنْ أفرغته من الثيابِ.. قطعة بعد قطعة، وكأنَّه راقصة {استربتيز striptease}..

(يدُور حول نفسه دورة واحدة).. بداية من حُلَّتي اليتيمة، وحتَّى ملابسي المنزليَّة، مِمَّا شجَّعني بعد ذلك على بيعِ الغسَّالة الكهربائيَّة..

(يُشير لأحدِ الأركان).. كذلك الثلَّاجة والبوتجاز والأواني، فقدُوا دورهم بغيابِ الطعامِ والطهي من المطبخ، والأهم هو غياب الطاهية.. زوجتي الغالية.

(يتجهَّم).. أذكرُ آخر حديث بيننا، يومها اتهمتني –ظلمًا- بالغباءِ والفشل.. وإلَّا لماذا لا أستمر في أيِّ عملٍ أكثر من شهرينِ أو ثلاثة؟ (بعصبيَّةٍ).. لم تتفهَّم أبدًا طبيعة شخصيَّتي المُتمرِّدة، ولم تعي يومًا خلجات نفسي المُحلِّقة.. (بلا مُبالاة).. هي امرأة على كلِّ حال، وهكذا دومًا حال النساء.. (يبتسم).. أنا ألتمس لها الأعذار وأسامحها، فلا طاقة لها بالحِرمان، ما ذنبها في أن تتحمَّل معي شظف العيش؟ وهي الزهرة الرقيقة، والنسمة البريئة.. أمَّا أنا فعليَّ أنْ أدفع الثمن وحدي، ثمن قناعاتي البلهاء، وشعاراتي الجوفاء.

(مُتذكِّرًا).. أتذكَّرُ يوم اشتريت تلك الأسماك، فلم أكن أملك غير ثمنها.. كانت هي القشَّة التي قسمتْ صبر زوجتي المسكينة، صرختْ بهيستريا في وجهي المُتعَب..

(محاولاً تقليدها): أَجُنِنتَ؟ أسماك للزينة! بدلاً من أن تأتي لنا بِما يسدُّ رمقنا، ويشبع جوعنا.. بدلاً من أن تحضر نقودًا بأيَّةِ طريقة، تجلب لنا تلك الكماليَّات الساذجة؟! ثمَّ اختتمتْ عراكها بمثلٍ شعبيٍّ قبيح.

(يتساءلُ بحزنٍ).. لماذا لم تُرحِّب مثلي بأسماكِ الزينة؟ ألا يكفي حرمانها لي مِن الأولاد! حجَّتها كانت أنَّ العيشة معي محفُوفة بالمخاطر، وهي لا تريد أنْ تتورَّط بولدٍ منِّي يزيد من طينِتها بلَّة..

(مُتوجِّعًا).. مَن يدري، رُبما كانت النجاة في الولدِ، رُبَّما كان الحلُّ هو الولد.. لو كنت شعرت بأنَّ لي جذر واحد قد امتد في أرضِ حياتي القاحلة، لسعيتُ لتثبيتِه وتغذيته..

بالولدِ كنت سأرمِّم أخطائي وأعالج عيوبي، به كنت سأحتمي من المجهول، وله كنت سأفعل المستحيل.. ضنَّت عليَّ بكلِّ ذلك، واستكثرتْ أن أتَّخذ من الأسماكِ عوضًا.

(ينتبهُ فجأةً).. الأسماك! كدت أنسى أمرهم، لم أصل بعد لآخر وجبة كانت لهم.. هل التهمتُ حقًّا طعامهم كلّه، أم تركتُ لهم القليل؟.

((يجلسُ بحذرٍ على الكرسيِّ ذو الثلاثة أَرجُل))

(يتذكَّرُ ببطءٍ).. بعد أنْ نمت واستيقظت، ونمت وصحوت.. ورأيت أحلامًا مُستحيلة، وكوابيسًا مُمكنة.. واستنفذتُ جميع الحِيل للحصولِ على شَربةِ ماء، لم أجد ما أشربه سوى الماء الخاص بهم!

(يضعُ يده على رأسهِ).. الآن تذكَّرت.. لقد قرَّرت أنْ أشرب الماء الذي يحيون فيه، لم يكن لدي خيار آخر.. يا لتعاسةِ حظّكم أيَّتها السمكات المُلوَّنات!.

((يُمسكُ بالقارورةِ الفارغة من على سطحِ المكتب))

أمسكتُ بالقارورةِ هكذا؛ وتحاشيت النظر لهن حتَّى لا أرجع عمَّا انتويته، أو لعلِّي خشيت أن أرى ملامح وجهي البائس على سطحِ الماء، وبعد تردُّد لم يطُل صببتُ لنفسي كوبًا من الماءِ..

(بخزيٍّ).. الماء الذي يحمل رائحتهم، فضلاتهم، ورُبَّما حُزنهم.. تجرَّعته دفعةً واحدةً، كدواءٍ مُنفِّرٍ مُجبر على شربهِ.. هل يُصدِّق أحدًا أنَّ هذا حدث؟ لكنَّها الحقيقة المُرَّة، وهكذا تركتهم يسبحُون في كميَّةٍ ضئيلةٍ من الماءِ تكفيهم بالكاد.. لتظلّ بعد ذلك رائحة زفارتهم تنبعث من أنفاسي.

((يضعُ القارورةَ في مكانِها، ويقُوم واقفًا))

(شارحًا).. إذن فقد أكلتُ طعامَهم، وشربتُ ماءَهم.. (يضحك ساخرًا).. لقد أصبح بيني وبينهم “عيش وملح”، مثل الذي كان بيني وبين زوجتي.. ورغم ذلك خُنتهم وغدرت بهم، وذلك بعد أنْ هبط الليل أخيرًا.

((تخفُتْ الإضاءة))

(ويخفضُ هو من صوتِه).. كان الظلامُ دامسًا، بعد أن فصلوا عنِّي التيَّار الكهربائي، لعجزي عن دفعِ فواتيرهم الباهظة.. يبقى أن يحرمونني من الهواءِ المُحيط بي، سيحدث بالتأكيد إنْ أصبح للهواءِ سعرٍ..

(يُحيطُ جسده بذراعيه).. والبرد كان قارسًا، ينخرُ في عظامي الواهنة.. (يتلفَّتُ حوله).. أذكر أنَّني بحثت حولي عن أيِّ مصدرٍ للدفءِ، أي شيء أتدثَّر به -ولو قليلاً- فلم أجد..

(يشيرُ بإصبعِه إلى رأسه).. لكن عقلي الذي جعلته الغريزة والحاجَة عقلاً شيطانيًّا وجد فكرة جيِّدة إلى حدٍ ما، ألا يقولون إنَّ الحَاجَةَ أمُّ الاختراع؟ أنا جعلتها أمًّا للشيطان.

((يهبطُ مُتقرفصًا وسط الحُجرة))

(يُشيرُ إلى الكرسيِّ).. ذلك الكرسي طالما جلست عليه وأنا أكتب قصصي ورواياتي، اختبرتُ تحمُّله كثيرًا.. لم يتذمَّر منِّي يومًا، كنت أحيانًا أرميه أرضًا في لحظاتِ غضبي من عدم المقدرة على الإمساكِ بفكرةٍ ما، أو بعد صراع من طرفٍ واحد مع إحدى شخصيَّاتي التعيسة..

كان دومًا كريمًا معي، فليُكمل مشوار الكرم حتَّى النهاية إذن.. هكذا أنا باستمرارٍ، أستنزف الكرماء معي لآخرِ قطرة.. بداية من زوجتي الهاربة، وحتَّى سمكاتي المُستسلمة.. فها أنا ذا أطمع في كرمِهم هم أيضًا، بعد أنْ استعرت رِجلاً خشبيَّةً من أرجلِ الكرسيِّ الأربعة!.

((يدعك يديه بعضهما البعض))

هنا في وسطِ الحُجرة، أشعلتُ النارَ في الرِجلِ الصلبةِ صلابة عنادي.. كم تمنَّيتُ أنْ أحرق أيضًا الماضي المؤلم حرقًا، فأتخلَّصُ منه نهائيًّا.. وأخيرًا طقطقتْ النيران، وحلَّا النور والدفء في المكان.

((تزيدُ الإضاءة مرَّة أخرى))

(يقفُ مُنتصبًا).. لكن الجُوع كان ينهشني نهشًا، يُمزِّقني إربًا.. النار المُشتعلة جعلتْ للأشياءِ من حولي ظلالاً أخذتْ تتراقص كامرأةٍ لعوب، فتراقص معها عقلي!.

((تهتزُّ الإضاءة قليلاً))

لقد كان كلُّ شيء من حولي يتربَّص بي، يتآمر عليّ.. تمامًا كأصحابِ الأعمال التي تنقَّلتُ بينها.. يريدونني أنْ أكذب، أغش، أسرق، وأنافق!.

((يصعدُ ليجلس فوق المكتب، ويضعُ ساقًا فوق ساق))

(يتقمَّصُ شخصيَّةَ أصحاب العمل).. أنت “عبد” ليس لك حق الاعتراض، أنت “مَملوك” ثمنك بخس، عليك فعل ما تُؤمر به، إيَّاك والنقاش، إترك كرامتك في البيت، لا تطمع في علاوةٍ أو ترقيَّة.. إنس تمامًا كونك كاتب وأديب، موهبتك الفذَّة هذه ليس لها أيَّة قيمة، لا سعر لثقافتك الواسعة في السُّوق.

((ينزلُ مِن على المكتبِ))

(يمسكُ رأسه).. هل لعبت النار بعقلي؟ (يمسكُ بطنه).. أم لعب الجوع بقلبي؟ لا أعرف على وجهِ الدقَّة، لعلَّه يأس المهزومين، أو جنون الفنَّانين..

(صارخًا).. لم أشعر بنفسي إلَّا وأنا أقُوم بشيِّ الأسماك على النارِ المُشتعلة.. هل تصدِّقُون ذلك؟!.

(باكيًا).. واحسرتاه؛ أسماكي، أسماك الزينة الغالية، الأسماك التي حاربت الدنيا من أجلِها، يا مَن تركتني زوجتي بسببكم.. كيف طاوعتني نفسي والتهمتكم بدون هناءٍ ولا شفاء؟!.

((يخرُّ مقعيًا على ركبتيه))

(يُنوِّحُ).. أحلامي التي راهنت عليها، أبنائي الذين لم أرزق بهم.. قصَّتي العزيزة التي لم أكتبها، روايتي الحميمة التي لم أكملها.. (يتساءلُ بذهولٍ).. لماذا قمتُ بشويهم وأكلهم؟! كيف استبحتُ جلدهم ولحمهم؟!

(يضربُ نفسه).. يا لي مِن أنانيٍّ أحمق، يا لي مِن طمَّاعٍ شَرِه.. (يمسكُ بتلابيبِه).. هل هانت عليك العِشرة؟ هل نسيت ما بينكما من ذكرى؟.

((يقفُ مُنهارًا))

(يؤنِّبُ ذاته ويُوبِّخُها).. يا ملعون؛ يا مَن تتبع شهواتك كالمسعُور.. هل عرفت لهم طعمًا؟ هل سدُّوا جوعك حقًّا؟ أتلذَّذت بمذاقِهم، هل كنت تنتقم منهم، أم من زوجتك، أم كنت تنتقم من نفسك المُهانة؟ (ينظر ناحية القارورة بأسى).. سامحوني، سامحوني.

((يمشي تجاه السرير))

(بصوتٍ خفيض).. بعد ذلك صعدت إلى سريري من جديد.. (يتمدَّدُ عليه بإعياءٍ).. واسترخيتُ فارغ البال لأوَّل مرَّة منذ زمن طويل.. (يغلقُ عينيه).. وأخيرًا…

ذهبتُ في نومٍ عمييييييق!.
عمرو عادل أحمد الرديني
مصر
عمرو الرديني 01004373892

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى