مما لا شك فيه أن التريند أصبح من أقوى الأشياء التي تُحرّك رأي الشارع بل وتوجّهه أيضًا، تجد أحد الشباب يقدم فيديوهات قصيرة لنفسه، يحاول أن يمثل أو يضحك أو يغني، (تلفونه وهو حر فيه)، لكن بمجرد أن تنجح أي من تلك الفيديوهات القصيرة وتُسمع وتتضاعف أعداد مشاهداتها، يصبح هذا الشاب تريند، ولو استمر على هذا الحال يتعدى الأمر هذا ويصل إلى الخبراء والمتخصصين!!!
نعم، كما أشرح لك، عندما ينجح فلان في الفيديوهات القصيرة، تتهافت عليه شركات الإعلانات، بل وربما المنتجين والمخرجين.
هل درس إعلام؟ لا
هل درس تمثيل؟ لا
هل هو موهوب؟ لا لا لا
لكن فيديوهاته يشاهدها الكثير من الناس.
ذلك الشاب سيجذب لنا المشاهدات، لذا يتم وضعه في جملة مفيدة أو غير مفيدة، في أي عمل، لا لموهبة يمتلكها أو فن يقدمه، بل لمشاهدات يجمعها ستزيد مشاهدات العمل!!
متخيل بَصَل بينا الحال لهذا الحد؟
سألت نفسي كثيرًا عن معنى كلمة تريند، حتى تعريفاتها لم أفهمها، ولكن فهمت حال الكلمة، والتي تشير إلى واقع نعيشه، وحال أصبح يحاصرنا في كافة المجالات…
يغني أحدهم أغنية بصوت نشاز، غير مفهومة المعاني، فتنتشر وهي لا تمتّ للفن بصلة، فتصبح تريند.
يفتعل أحدهم موقفًا معينًا في الشارع، يتفاعل معه الناس، فيصبح تريند، ومن الممكن أن يدخل التمثيل بسببه!!
التريند بمفهومه البسيط هو أي حاجة تنتشر ويشاهدها الملايين، أيا كانت جيدة أم دون المستوى.
لكن التريند في رأيي ليس هذا فقط، بل هو أيضًا انتشار الآراء الخاطئة وتأصيلها كأنها حقيقة مثبتة ونظرية علمية غير قابلة للنقاش، وهنا سأعود للفن مرة أخرى، حيث هناك بعض وجهات النظر التي أصبحت تريند، وباتت تُضطر الكثير في عمله وأكل عيشه، ولا أعرف سببًا لها.
منذ بداية الألفينات تغيرت معالم السينما العربية، وخاصة المصرية، حيث ظهر جيل جديد من الشباب تمكن من تغيير شكل الأعمال السينمائية.
من هؤلاء النجوم أحمد السقا، الذي استغل نجاحه في “صعيدي” و”همام” أواخر التسعينات، ليصبح من أهم نجوم الصف الأول، إذا لم يكن أهمهم، وقدم أعمالًا نجحت نجاحًا كبيرًا مثل “شورت وفانلة وكاب”، و”أفريكانو”، و”تيتو”، و”مافيا”، مرورًا بـ”إبراهيم الأبيض”، و”الجزيرة”، و”المصلحة”، حتى بدأ الحال يتغير ويظهر تريند غريب: (أحمد السقا ما بيعرفش يمثل!)، كلمة باتت تظهر في كثير من المواقع، وبدأ الخبراء والنقاد يتماشون مع نفس النغمة (ممثل ضعيف – أي حد بيسرق الكاميرا منه – ريكشاناته محدودة)، وهكذا من جملة الكلمات التي يقولها الكثير ليُظهر خبرته الثاقبة ومعرفته الواسعة في مجال الفن السابع.
كانت أفلامه في أوائل الألفينات حتى منتصف العقد الماضي تجمع أعلى الإيرادات، ولكنها منذ عشر سنوات تراجعت كثيرًا، فهل كان سابقًا ممثلًا قويًا والآن نسي التمثيل؟
كانت إيراداته تفوق عز وكريم بمراحل، فهل وقف الزمن بالسقا ودخل عز وكريم ورش تمثيل حسنت أداءهم ليصبحوا أعلى منه؟؟
بالطبع كل هذا كلام فارغ، لأن الفيصل في السينما الآن ليست جودة الممثل وقدرته البارعة في التمثيل، وإلا فهناك ممثلون حريفة تمثيل لم ينجح لهم أي فيلم وحدهم، مثل خالد النبوي، وفتحي عبد الوهاب، وسيد رجب، وغيرهم…
القدرة على التمثيل ليست فقط سبب نجاح الممثل وتربّعه على الإيرادات وحب الجمهور له، ولو كان الموضوع هكذا، لكان محمود المليجي، أيقونة التمثيل في مصر والعالم العربي، هو ممثل القرن.
لو كان معيار النجاح أو الفشل فقط القدرة على التمثيل والبراعة في الأداء، لوقف الزمن في السينما المصرية عند عملاقين لن يتكررا، هما نور الشريف وأحمد زكي، اللذان يستطيعان تجسيد أي دور يأتي على بالك بكل أريحية وإقناع.
لكن هناك معايير أخرى هامة، نجح فيها فنانون آخرون، لم يلتفت إليها السقا، وكانت من أسباب تأخره، وهي اختيار الدور، وثقافة الاختفاء!!
نعم، الاختفاء، وعدم الظهور المتكرر كل عام، والحرق في التلفزيون والدراما، ذلك الذي يجعل النجم كارتًا محروقًا للجمهور، فيعكف عن متابعة أعماله.
بالعربي كده: (زهق منه وشايفه في كل حتة)، وتلك بالذات كان يتميز بها الزعيم، حيث كان مقلًا في البرامج، شحيح الظهور في التلفزيون، لا يشاهد صوره الجمهور إلا في كل عمل سينمائي، بالإضافة طبعًا إلى اختيار الأدوار.
أما في براعة التمثيل، فهناك من جيل الزعيم كثير من الفنانين كانوا أعلى منه موهبة، ولكن كانت اختياراتهم دائمًا دون المستوى.
ما أود أن أقوله: إن التريند أصبح يخلق رأيًا عامًا، بأسباب واهية تبرر أحداثًا واقعية وهي ليست صحيحة.
بمجرد نجاح “بيت الروبي” لكريم عبد العزيز، وتخطيه أعلى الإيرادات في العام قبل الماضي، بدأنا نسمع كلامًا عن كريم لم نسمعه عن فطاحل السينما المصرية، مثل (شايف نظرته – ريكشانته في مكانها – ممثل عارف أدواته).
كل هذا الكلام لم نسمع به في أفلام تفوق “بيت الروبي” بمراحل، مثل “واحد من الناس”، و”أبو علي”، و”ولاد العم”، لكن مجرد تحطيم فيلم رقمًا كبيرًا، يظن المشاهد أنه فيلم خالٍ من الأخطاء، كل ممثل فيه أسطورة، له أداء مبهر وخلاص.
أيضًا، أعلى إيرادات في السينما المصرية حاليًا “أولاد رزق ٣”، الذي يعد أضعف أجزاء “ولاد رزق”، لا يمتّ للأداء الجيد بصلة، لكن التريند يحكم.
لذا، ليس هناك فرق في الأداء التمثيلي بين عز وكريم والسقا وغيرهم، يجعلك تقول إن هذا مبدع وذاك ما بيعرفش يمثل، لكن هناك اختيار أدوار، وفن الرفض، التي ذكرت من قبل، والتي يتميز بها عز وكريم عن السقا، وهي عدم الظهور في أي عمل وخلاص، وكان بارعًا فيها الزعيم من قبل.
أما عن نجاح الأعمال الفنية وربطها بقدرة الفنان على التمثيل وموهبته، فهذا عارٍ تمامًا من الصحة.
شباك التذاكر، وطريقة توزيع الفيلم، وأسلوب الدعاية، بجانب جودة العمل الفني وأداء العاملين به، كلها عوامل مؤثرة.
وأنا أؤكد لكم، أنه بمجرد سقوط فيلمين متتاليين لكريم أو عز أو غيرهم، ستنعكس الآية ويبدأ تريند جديد:
كريم أداؤه واقف، مش كل الأدوار يعرف يمثلها،
عز بيمثل عشان وسيم،
عز نجاحه فقط في الأكشن…
بالضبط مثل ما يحدث في تحليل مباريات الكورة في مصر، حيث تجد استوديو تحليلي من كبار اللاعبين القدامى والمحللين والخبراء، عندما يفوز الأهلي: (بينفذ ضغط عالي – انتشار جيد – تحركات بدون كرة – في كثافة هجومية)، أيا كان الأداء، وعند الهزيمة يتم عكس كل تلك التحليلات، أيا كان الأداء برضو!
أي أن التحليل والتقييم غالبًا يكون وفق النتيجة النهائية، وهذا بالضبط ما يحدث في الفن مع ظهور التريندات.
في النهاية، أنصح الكثير من النقاد والخبراء بضرورة توعية المشاهد، وعدم الانصياع وراء التريند ورأي الشارع، لأنه إذا كان الجمهور العادي معذورًا، فلا عذر لمتخصص أو دارس.
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون