ط
مسابقة القصة القصيرة

الرسالة الأخيرة ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / لويزة براني ( وفاء براني ) الجزائر

قصة : الرسالة الأخيرة
بقلم : لويزة براني ( وفاء براني )
الجزائر
على مدى طول الشارع الخاشع كنت تسمع صوت حذائه وهو يقرع على الأرض بخطواته الهادئة تتوهمه وأنفاسه القلقة تمضي بين الدهليز شبحا ليليا إلى أن يصير تحت أشعة الفوانيس التي لونت أماكنها بأطياف باهيه فتوضح شكله الوسيم ، بهدوء كخطواته المتأنية أخذت الأحداث تجول بخاطره فشحن صمته الرهيب بالأسئلة والتأنيب :
– لولا إيماني بفكرتي المسمومة لكان لي رأي مع تلك الجماعة من الركاب ، فكل ما
وصفت به كان صادقا ما عدا فكرتي التي أضحت رجعية لا فائدة منها وقد كنت مجنونا
– إن المرأة هي أمي .. و أختي .. ثم خطيبتي التي ستصبح عن قريب أم
أبنائي .
لم يكن بين كلمات الفكرة ما يحزن ، لكن تنهيدته العالية التي تلت عبارته تبين أنه تجرع مرارة الأيام وعانى الآلام جميعها ، إنها عادته منذ أن كان طالبا بالثانوية ، عند الغضب يشرب سيجارة أو أكثر لهذا تسللت يده إلى جيب سترته تبحث عن السيجارة الوحيدة الباقية في العلبة منذ الصباح ،فأسبق خروج السيجارة بمجموعة قطع أوراق صغيرة فتح قبضته ونثرها في الشارع ، لقد تذكر أنه وضعها لما انزوى في الكرسي الخلفي للحافلة ، و أخذ يخرج من محفظته الصغيرة رسائل خطيبته الخالية من تحية ود ولم تسجل عليها إلا عتابا ت وشكاوي .
– أمك أحجمت عن زيارتي قصرت في اختيار الهدايا وأنا خطيبة ابنها الأكبر.
فبعد أن يتأملها كالجاهل للقراءة يمزقها بهدوء حيث لا يشعر به أحد من الركاب ثم يدفنها في جيبه،أكمل عمله في سرية تامة لولا تلك الكلمات التي حركت شفتيه وكادت تفضحه .
– سابقي رسالتك يا أخي فهي الوحيدة التي تحمل المشاعر الصادقة ، وان خبر شوق أمي لي ولهفة انتظارها لعودتي قد أعادا في الأمل .
أرجع رسالة أخيه إلى محفظته ، لقد استلمها في أيامه التحضيرية لإنهاء الخدمة الوطنية . كان فكره غائصا في مراجعة الماضي القريب لهذا لم يشعر بنفسه وقد صار بين أحضان شارع خطيبته ، إلا لما مزق له كلبها – كوك – صفحات فكره بنباحه الذي انتشر في الفضاء الأشبه بقطعة القماش المذهبة وقد توزعت النجوم على سطح سمائه ، لم يعد يذكره رغم أنه من أسماه حين كانت تحمله بين يديها جروا ودربه على القيام بالأعمال كالإنسان ، أو بماذا يفسر تهجمه عليه وهو يقف إلى نافذة غرفة نومها يتأبط إطار صورة مصنوع بالقطيفة وحقيبة ملابسه .
لازال يخيفه بنباحه ويهدده بالقفز من على السقف ، أما هو فلم يبال به وبقي مشغولا بخيال خطيبته المرتسم خلف النافذة وستارها الشفاف انه متأكد بأنها تكتب رسالتها الأخيرة له ، ترشها بسم الكلمات ولا يستبعد أبدا بأن تكون قد أملت عليه شروطها التي ما فتئت تحدثه عنها بإيحاء في لقاءاتهما ومتخذتها على سبيل المزاح والمراوغة .
-ما أجمل حياة صديقتي مع زوجها في بيتهما بعيدا عن والديه وإخوانه ، ونحن أين سنسكن
بعد الزواج ؟
جاء يوم لقاء آخر فأسكنت كلماتها قلبه غضبا دفينا ، وهي تظهر له رغبتها الكبيرة في السفر إلى أوروبا حيث سيساعده والده المهاجر في توفير العملة الصعبة .
– اعلم أن مدة لقائنا لن تطول ، فأنا في طريقي إلى بيت صديقتي ، فقد عادت من سفريه قامت بها إلى – أم الدنيا – تصوران هذا كان حلمها قبل الزواج وها قد
حققته مع زوجها أما نحن فسنسافر إلى فرنسا .
مرت أمامهما سيارة فاخرة تجذب الأنظار بلونها اللامع فقالت له :
– لماذا لا تطلب من والدك بان يحضر لك سيارة كهذه نتخذها للزيارات العائلية ؟
كانت هذه العبارات المزاحية والأسئلة التي لم تكن لديه أجوية عليها ستكون نقاط سوداء في علاقتهما لو لم تدارها الأيام الجميلة والكلمات الشاعرية التي طالما استقبلها بها ، كم حز في نفسه رسم الدوائر على حياته العاطفية وإسدال الستائر على قلبه حتى لا يرى الحب مرة أخرى .
للمرة الثانية يعود فكره من رحلة الشرود التي أخذته فيها صور الماضي ، على نور غرفتها الذي خرج ضئيلا إلى الشارع تأمل صورة وجهيهما الساكنة وراء زجاج الإطار، صورة جميلة أخذت لهما ليلة الخطوبة واختاراها لتكون كبيرة في إطار وفي غرفة نومهما ،فيقرءان عليها ذكرياتهما متى شاءا .
ابتعد عن النافذة ليلتحف بملاية الكون السوداء ، لما أقبلت نحوه وكأنها شعرت به وجاءت لتشفي غليلها فتصرخ في وجهه مزمجرة تطلب فسخ الخطوبة ، لما أنزلت الستار الحريري الخشن، وأطفأت النور واستكنت في مضجعها ، نظر هو مليا إلى كلبها – كوك – نحو الأعلى وخاطبه بحزن مرير .
– ليتك . كنت تستطيع إبلاغ صاحبتك على موافقتي بفسخ الخطوبة ، ثم هاهي الصورة فكن شاهدا على تكسيري لها .
بعد ذلك رمى بالصورة إلى الأرض فصرخ زجاجها باكيا وواصل سيره نحو بيته

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى