ط
الشعر والأدب

ملامح الوصف والأثر في قصيدة (حَيُّ بنِ سَكران) للناقد / زهير الجبوري

 

كتب / زهير الجبوري

تحيلنا القصيدة أحيانا الى فضاءات أخرى ، فضاءات تكشف عن حالات غاية الحساسية ، الى مواجهات الذات والشعور بالأحساس الكبير تجاه حالة معينة ، لنُسَخِّر بعدها الّلغة كوسيلة للبوح اوالكشف عن ذلك ، وقصيدة (حَيُّ بن سَكران) للشاعر شلال عنوز والتي نشرت في (صحيفة الزمان) ، العدد (7199) ، السبت ، 8 تشرين الثاني 2022 ، واحدة من هذه التجارب التي ينبغي الغور في مضمونها ، لأنها باختصار شديد تلامس الذات عبر تطويع الّلغة بمرونة الأداء الشعري ومشهدية الأستهلال ، ربما لأنه ينتمي الى جيل كانت فيه القصيدة تتمتع بغنائية عالية ، لذا لم تكن هناك تركيبات تجريبية في مطلع القصيدة بقدر ما نقرأ استفاضة حسية مشحونة بهاجس غريزي (هاجس الحزن) ، ولعل عتبة العنوان تتناظر قصديا مع مطلع القصيدة حين يقول :
في مساءٍ موغلٍ بنوبات الحزن
يستشيط أَلماً ..
على حافة المأساة
مستفزّاً .. يقامر به جنون الريح.
إنَّ خلق الحس الهاجسي في مثل هكذا مطلع شعري ، يعبر دلاليا عن ذاتية الشاعر ، ومحاولة تكوين الصور الشعرية عبر تجلي اللغة ، والغور في مجسات شعورية هائمة في المعنى ، وعندما يجد الشاعر ما يصف به (بن سكران) بهذا المطلع الأستهلالي (بوصفه شخصية أثارته او استفزته شعريا) ،فإنه سرعان ما يؤطر مضمونه بمشهدية الحزن ، وهو مدخل مباشر وطبيعي وواضح ، ويمكن ان نعنونه بمسرودات شعرية كاشفة عن حالة وصف ، مهما كان عمق الموضوع والشخصية المُتناولة ، كما يستنهض النص الشعري محمولات تغور بمعاني الترقب والأنتظار ، وهذا ما إتضح من خلال انسراح القصيدة عبر انسيابية متراتبة ، بل أعطت نسقا بنائيا واضحا :
ينتظرُ ..
ساعي البريد
رُبما .. يحمل رسالة
لكنَّ الكوَّة مغلقة
والسُعاة لمْ يِأتوا بعد
الريح .. منحوسة المرور
تقتلع فسائل المنى ..
القصيدة عند الشاعر (عنوز) تتشاكل مع صراحة المعنى ، ووضوح المبنى الشعري بالطريقة الغنائية البائنة ، لتتكىء على لعب لغوي/ شعري مشبع بإيحاءات إنطوت على فكرة (الموما إليه / حَيُّ بنِ سَكران) ، فالتواشج الوصفي اعطى الوجه الصريح للشاعر في استحضار ما تؤطره فكرة القصيدة ذاتها من خلال رغبة البوح لـ(ساعي البريد) الذي يُنْظَر له بوصفه علامة لمحمول المُخَلص عبر حمله (رسالة) ، وهو اشباع شعري قصدي ، ونزعة حسية واضحة وموحية بأشياء تأطرت بـ(الحزن والألم والجنون) ، لتتضح الجملة المكثفة في القصيدة ، وعلى الرغم من وحدة البناء المتناسق في القصيدة ، الا اني أجدها تحمل رؤية خطاب ،ورؤية كشف ،ورؤية ايحاء ، ربما لأن هناك توافقات مضمونية مشحونة بشعرية البوح ، ولم يكن الشاعر سوى الأنسان المعبر الهائم في حالة الوصف التعبيري للقصيدة .
كما نلمس في قصيدة (حَيُّ بنِ سَكران) ملامح الأثر الذي تسوغ فيه بعض المعاني المنطوية على عمق تاريخي بالأسلوب الأستعاري الشعري ، حيث أخذت خيوط القصيدة في منتصفها ونهايتها تستعير ذلك ، لتعطي استقراءً وافيا للتناظر بين المستعار (غودو..، وهدهد سليمان ..، وسبأ ..، وعرش بلقيس..، وأرفيوس ..، ويوريدس ..، وحذام) ، وبين (حيُّ بنِ سكران) ، فشعرية الوصف ، مهما كانت بنائيتها واستعاراتها ، أو ربما تناصاتها الخفية في القصيدة ، قد تصلح فكرة كشف واستدلال ، ولعبة النص الشعري مهما كانت مجازاته وانزياحاته ، هي في الوقت ذاته لعبة ايهام مقبول ، لذا نقرأ:
(هدهد سليمان) لمْ يأتِ
ما هناك من خبرٍ عن (سبأ) غارقة
في أتون مواسير القحط.
توظيف اللغة بتناظرات وتقاربات شعرية لها بعدها المعرفي ، هي من مهارات الشاعر ، ومن قدرته على توصيل معنى يعطي استقراءً وافيا للمتلقي وكيفية ربط كل هذه الخيوط ، وبهذه الفكرة الممازجة وللقصة المعهودة بالقرآن الكريم بين (هدهد سليمان ، والملكة سبأ)، استفاض الشاعر (شلال عنوز) من فيض النص المقدس ليغذي نصه الشعري ، وجدير بالذكر ان هذه الخطوة حذرة وحساسة ، الآ انه أي ـ الشاعر ـ استطاع يؤطر بنائية القصيدة عبر مقاطعها بتوازن ، لذا نقرا ايضا في المقطع التالي:
في زمن يباس..
جفَّ شجرُ الغناء ، إحترق نسخ القصيدة ..
ماتت تلاحين الناي ، لمْ يسمع عزف (أورفيوس) ،
غادرت البلابل اعشاشها .
وهنا استعارة رمزية أخرى ، حيث (أرفيوس) الكاتب والموسيقي الأسطوري في الديانة اليونانية القديمة ، تعالق ايضا وحدة الموضوع ، وهي لعبة شعرية متنامية ، بل جديرة الأشارة اليها ،لا بوصفها اعطت بعدا دلاليا لـ(موت تلاحين الناي) فحسب ، إنما للدافع الشعري وما يتضمنه من معنى شامل ، لا سيما عندما تكون هناك نظرة واسعة لأعطاء الشخصية المُتناولة أكثر من بعد ثقافي داخل النص ، ولا ضير في ذلك اذا كانت هذه الطريقة محسوبة الأبعاد ..
حتى في المقطع الأخير ، أخذ التوصيف لـ(إبن زياد) المنهمك بـ(إغتيال الصباح) ثمّة تغريبة واضحة، حيث (ولا صباح .. الكلُ نيام)، إذ لا تنفصيل تفاصيل القصيدة عن توهجات الأضطراب والألم والحزن، كأن هناك ملحمة وجودية يريد امساكها الشاعر بشخصية (بنْ سكران)، ربما لأن التقارب انطوى على تناظرات مقنعة ، وهي حالة من حالات اللعب اللغوي داخل القصيدة

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى