الشعر والأدب
النصر والقلادة | قصة _ بقلم رمضان سلمي


عام 1973 في إحدي قري صعيد مصر
حيث السماء الصافية ،
والأشجار العالية ، وفلاحين يعملون في حقولهم تحتضنهم أشعة الشمس الذهبية ،
وتداعبهم نسمات الهواء الشتوية
في منزل صغير تحتضنه الغيطان الخضراء من كل جانب – كأم تطوق صغيرها بزراعيها
وقد وضعت علي أبوابه زينة متواضعة ،
ومن إحدي شرفات المنزل الريفي البسيط ،
تجلس إمرأه يدها علي خدها ، أمامها
مذياع
قديم متهالك ، تنسط السمع إليه بشغف ، ،
مبلله الخدين يبدو أن عيناها كانتا تدمعان منذ قليل ،
إنها إمرأة جميلة بالعقد الثاني من العمر ، تظهر علي يديها الحناء ،
يبدو أنها عروس في أشهرها الإولي
عيناها جميلتان كحلهما الرباني يزيدهما جاذبية ،
ولكن أنهكتهما دمعات حزن
* فقد تزوجت ” زينه ” منذ إسبوع فقط ، كانت من قرية قريبة من القرية التي يقطن بها الزوج ” حسن ” فقد كان حسن ضابطا بالجيش المصري ،
وكان له صديق يدعي ” منتصر ” جندي في نفس كتيبتة ،
كانت له أخت جميلة وكانت علي خلق ، وقد كانت دائما تتمني فارس أحلامها _ ضابطا _ كأحلام العديد من الفتيات . فكانت أول زيارة لحسن بمنزل صديقة ” منتصر ” هي شرارة الحب الذي ألهبته الأيام ،
وأبدي منتصر فرحته بصديقه وحبه الطاهر لأخته وأعلن موافقته علي زواجهما ولكن إشترط أن يكن بعد عامين من خطبتهما ،
فقد كان منتصر يحلم دائما بالمعركة الكبري معركة النصر و الكرامة وإسترداد أراضينا والثأر لدمائنا ، فتمني من الله كثيرا أن تصير الفرحتان في فرحة واحدة بالنصر وبزواج شقيقته ، فقد كان من محبين تراب هذا الوطن .
وفي إحدي عمليات الإستنزاف إستشهد منتصر وقد كانت آخر كلماته النصر قريب وأوصي حسن بالزواج من أخته ورعايه إمه المسنه وأخوته الصغار من بعده .
تزوج حسن بحبيبته ولكن بدون معالم للفرحة بل بعض الزينة المتواضعة ،
وأتي بعض الأصدقاء من القري والنجوع والعزب المجاورة للتهنئة والمباركة ،
وأتي بعض ظباط الجيش والمجندين .
فقد كانت هناك أجازات للكثير منهم ،
وكان حسن قد حصل علي اجازة لمدة شهر ، ولكن لم يمر علي عرسه سوي إسبوع ،
كلما هم بالإنغماس في سعادته بزواجه ، تذكر إستشهاد صديقه علي يديه ، وتذكر الدماء والأشلاء تذكر الأرض المسلوبة ،
وفي أوج نومته يتحدث مغمغما: لن تموت ياصديقي .
كبت وهزيمة وإستنزاف ونفسية محطمة وأمل بعيد ،
شكلت عند حسن هواجس وكوابيس حالت بينه وبين الهناء والسعادة كحال باقي أبناء الجيش المصري بل الشعب جميعا .
كانت ” زينة ” تأخذه بين زراعيها وتبكي وتقول له : لا تجهد نفسك إن شاء الله النصر قريب ،
ودم أخي لن يذهب هبائا منثورا أبدا . فيرمقها حسن بنظرات كلها حب وحنان وخوف أن تفقده إن فقد الحياة ،
ولكن قضيته هي حياة الوطن وليت حياته . ولكن ” زينه ” لم يعد لها أحد سواه ..
في اليوم السابع طرق الباب طرقات سريعة وقوية .
فتحت الباب زينه إذا به جندي من المركز وفي يده ورقة إستدعاء للضابط حسن وأمر بقطع الأجازة .
بكت ” زينه ” كثيرا وقد جهزت حقيبته ، وأوصته قائلة لقد دعوت الله أن لا افقدك ، فعد إلينا بالنصر ، وأثأر لدم أخي من هؤلاء الأنجاس ؟
ثم أهدته قلادتها المعدنية المربعة – وقد نقشت عليها آيه الكرسي كاملة ،
وغمرته بين أحضانها لدقائق ثم ودعها وفارقها وتوكل علي ربه وعينيه كلها إصرار وأمل غارقان بدموع الفراق والجهل بالمستقبل تتخللهما دقات قلب إزدادت كطلقات المدفع الرشاش .
ومرت الآيام ولم تسمع ” زينه ” أي جديد ، فكل يوم تجلس حزينة وشاردة تارة وحريصة ومنسطة تارة أخري – أمام ” المذياع ” تتلهف أي خبر عن الزوج الغائب أو أي أخبار عن الجبهة .
قد شحب الجمال من وجهها وإنتشرت تفاصيل البؤس حتي سيطرت علي كامل معالم وجهها البرئ .
وفجأة ,
بدأ ذلك البيان يبث علي ذلك ” المذياع ” بعبور القوات المسلحة المصرية لقناة السويس وتحطيم خط بارليف والسيطرة علي الضفة الشرقية لقناة السويس …….
فإنتفضت ” زينه ” في ذهول ودموع الفرح تنهمر علي خديها الجميلين ، قائله الله أكبر الله أكبر وخرت ساجده لله فرحة وشاكرة ودموعها تسيل كما سالت رمال خط بارليف من شدة عرق جنودنا تحت بياداتهم .
وظلت تدعو ربها أن يرجع لها زوجها سالما غانما ، وتتضرع إلي الله حتي يتقبل دعائها .
* حسن كان قائدا علي رأس كتيبته وقد عبروا وسيطروا علي الضفة الشرقية للقناة ،
فمازال حيا يقاتل ويأثر ويدمر ، حتي صدر أمر وقف إطلاق النار .
فوقف ” حسن ” فوق الدبابة يصرخ فقد كان غير راض عن وقف إطلاق النار ،
ولكن صناع القرار كان لهم وجهة نظر وحنكة سياسية ،
ربما ستنقلب موازين النصر إن إستمر القتال ، فقد تدخلت الولايات المتحدة بإمدادات للقوات الإسرائلية كفيلة بمداعبة ميزان القوة .
فرضي الجميع بالنصر وبالأوامر العليا .
وبينما ” حسن ” واقف علي دبابته يكرر الله أكبر لقد إنتصرنا فلنكمل إذا ، فلنسترد سيناء ثم القدس ، فإن تل أبيب ليست بعيدة بل قريبة ،
رد احد الجنود : ليس الآن ياحسن ، لم يحن الوقت بعد ياصديقي !
صرخ حسن قائلا : إذا فمتي ؟
رد الجندي : إن شاء الله قريبا ! وفتح حسن نيرانه ناحيه الأعداء ،
فإذا بأحد القناصة اليهود يطلق عليه طلقة نارية من بعيد ا فيسقط ” حسن ” من فوق الدبابة علي الأرض فيجري عليه الجنود وسط وابل من نيران مدافعهم الرشاشة بإتجاه مصدر الرصاصة .
ومرت الأيام والليالي وإنقطعت الأخبار وبدأت الأجازات بعد وقف إطلاق النار وبدأت (حثث الشهداء ) في العوده إلي زويهم .
وإشيع بالقريةان حسن أستشهد.
ومازالت ” زينه ” تمتلك الأمل ولم تصدقهم ،
وتنتظر كل شروق شمس لكي يطرق بابها ( الزوج الحبيب ) فهي مسكينة لا تدري بما حدث .
في كل شروق تنزل بين الحقول ،
وتتحدث إلي الزهور وتحكي مع الطيور وتغرد مع الكروان علي أغصان الزيتون ناشدة لهم قصة حبها الطاهر، وتبشرهم بأن حبيبها سيعود لن يتركها أبدا ،
وعند الغروب تتحدث إللي ذلك القرص الذهبي وأشعته التي كالؤلؤ المنثور في سماء زرقاء صافية .
قائلة : ان شاء الله غدا سيشرق وجه حبيبي قبل ان تشرق أيها القرص الجميل .
يال حب هذه السيدة ويالأملها وثقتها بالله ” ذهبت للمنزل وإفترشت زكرياتها وراحت هائمة في حبيبا لم تطل فترة لقائه إلا إسبوعا ،
ما إرتوت بعد من حضنه الدافئ في شتاء الخوف البارد ..
أذن للفجر _ يبدو أنها لم تنم بعد وهذا حال أيامها بعد فقدان الحبيب ،
صلت وجلست مكانها وأمامها باب المنزل ،
والنوم يصارعها ويغلق عينيها تارة ويفتحها تارةإخري.
فجأة : طرق الباب فظنت أنها تحلم أو يهيأ لها ، فطرق مرة أخري ،
فإنتفضت من مكانها واقفة وهرعت بإتجاة الباب وفتحته ،
فلم تجد أحدا فأدمعت عينيها وأيقنت أنها أوهام وقد هيأ لها فهمت للذهاب إلي غرفتها لتنم قرب شروق الشمس كعادة لياليها بعد الفراق .
وما إن خطت خطوة فطرق الباب مرة إخري ،
وسمعت ضحكات _ فإنقبض قلبها وإرتجفت وتصبب العرق من جبينها وجرت بسرعة وفتحت الباب فإذا به زوجها وحبيبها ” حسن ” مشرق وجهه كنور الشمس ،
ترسم علي شفاته إبتسامة عريضة تأوي في طياتها جميع أنواع السعادة والفرح والنصر .
فوقفت ” زينه ” في ذهول قائلة : الحمد لله وحده تقبل رجائي لقد عدت ياحبيبي ؟!
وتوقف الزمن للحظات ثم عاد يتابع اللحظات السعيدة ببطء ،
فوجدت نفسها في أحضان الحبيب وراحا بعيدا لعالم العشاق حيث الأمان والسعادة ودقات القلب تحملهم بدون قيادة .
وبعدما أفاقا من عناق المشتاقين وعتاب المتحابين ،
سألته ودموعها تزرف : لقد إشيع إنك لاقدر الله ، ولكني لم إصدقهم ،
إفتقدتك كثيرا يا دواء قلبي ، إحك لي كيف كان حالك وماذا حدث لك ؟
فقاطعها : واضعا يده بجيبه وأخرج ( القلاده ) فنظرت إليه بإستغراب ،
ووجدت القلاده بها أثر لرصاصة كادت أن تنفذ منها ،
فأحتضنته سريعا : ماذا حدث يا حبيبي ؟
طاردها قائلا : لقد كتب الله لي عمر جديد بسببك أنت وبسبب حبك الطاهر لي ،
بعد النصر أخرجت قلادتك وقبلتها ثم وضعتها بجيبي أمام قلبي حتي تهدأ دقاته التي لم تتوقف من الإشتياق إليك ،
ودعوت الله أن أراك ثانيه , وفجأه أطلق أحد الأعداء علي النار من مسافة بعيدة _
فما إن وصلتني الطلقه وقد كانت في آخر ( مرماها المؤثر ) فشاء الله أن تصطدم بتلك القلادة فتتوقف عند هذا الحد وكانت سببا في حياتي الجديدة ” والحمد لله ” لقد ثأرت لكي يازينه ممن حرمونا من ” منتصر ” ومن كل شهدائنا ، وبفضل الله فقد لقناهم درسا لن ينسوه وسيسطر التاريخ كلماته وشهاداته ، لقد كنا ابطالا حتي النصر ، الله أكبر وتحيا مصر . .
وهاأنا ذا أمامك وبيداي النصر والقلادة ، فأغمرين الآن يا زوجتي فلن أفارقك حتي آخر دقه قلب في عمري ..
وعاشا الحبيبين الزوجين في سعادة وأنجبا أولادا وبناتا ساهمو في بناء هذا الوطن الحبيب …
Facebook Comments Box