جنازة حارة ( قصة قصيرة ) للمسابقة
” كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام ” هكذا تصاعد صوت المقرئ جليلا ، مضخما من ثقوب السماعات السوداء الموجودة فى مقدمة سرادق العزاء . لم يكن مقرئا من مقرئي جيل العباقرة أمثال الشيخ محمد رفعت وغيره لكنه كان ذا صوت رائع قادم من موطن البيت الحرام . ثمة رهبة متسقة مع جلال الموقف: الصمت يلف المكان ولا يقطعه سوى صوت المقرئ ، أكواب القهوة صغيرة الحجم يتم توزيعها على الجالسين وشىء من التهيب يجعل المرء يتردد فى رفضها إذا كان لا يشرب القهوة السادة ، جلال الموقف يحتم هذا وحالتى أيضا تحتمه . كنت أكثر الحاضرين حزنا ويتضح ذلك من الدموع الفارّة من عينىّ رغما عنى ، لم أكن أتخيل أن أفقده يوما أو على أقل تقدير أن أفقده بهذه السرعة . عامان كاملان أنفقناهما سويا ، لا يأكل إلا معي ، يعاف الطعام لو لم أكن بجانبه ، حتى فى نومه كانت ذراعاي مخدعه وواحة أمانه . شيئا فشيئا صار كظلي ، كان صديقي وحبيبي وحارسي وكنت أشعر أنه يود حمايتي من الجميع حتى من القوى الغامضة غير المرئية . كبواتي الحياتية المتعددة كانت سببا رئيسا فى أن التفت نحوه ، وعندما وجدته مثلى يبحث عن الدفء والألفة – الضائعين – اتخذته رفيقا وثمة عهد غير منطوق بألا نفترق قطعناه سويا ، لكنه بدون سابق إنذار نقض عهدى وتركنى ورحل مثلما تفرق عنى الجميع ، حتى هو من راهنت عليه خذلني أيضا ، حذرته من الاقتراب لكنه لم يصدع للأمر ، من الواضح أننى دللته إلى حد الاختناق فقرر البحث عن الحرية المفقودة بطريقته : تسلق النافذة ، نشب أظافره فيها ، اعتلى واجهة النافذة ولإنه غير ماهر ومازال صغيرا سقط أرضا من نافذة على ارتفاع ثلاثة أدوار . يحكي لى أبناء البواب باكين كيف زحف إلى الحجرة التى يسكنونها مع أبيهم حتى اختبأوا خوفا منه داخل الحمام ، كيف كان يعوي ويتألم وكيف لم استطع أن أنقذه ، كل ما استطعت فعله وقتها أن بكيته كما لو كنت أبكي فقيدا عزيزا وعلمت وقتها أننى فقدت آخر أشيائي الثمينة ، كما لو كنت قد فقدت آخر نقودي التى ادخرها تحسبا لغدر الأيام ، آخر أصدقائي . نفذ إلى بؤرة شعوري بعد أن واريته التراب صوت الهاتف المحمول ، فتحي زميلي فى العمل يبلغني أن مدير الشركة قد توفاه الله اليوم وسيمر علىّ بسيارته كى نؤدي واجب العزاء فى الفقيد ، مستراح منه ، كان فظا غليظا ، يضمر بي شرا لإنني أعامله معاملة الند للند ولا أداهنه كبقية الزملاء . مستريح، كان لطيفا أليفا جميلا نظيفا قطي الصغير، قطي الحبيب . لا أعرف ما السبب الذى دعاني فى تلك اللحظة بالذات لأن أنهض من مقعدى للوقوف بجانب ابني الفقيد لاتقبل العزاء فيه معهما ، هل لإنني رئيس قسم شئون العاملين بالشركة واتصرف بحكم الوظيفة أم لإننى من أكبر المعزين سنا لاسيما وأن ابني الفقيد ما زالا شابين ؟ أم لإنني أكثر المتباكين الدامعين فى العزاء مما جعل العيون تحفزني للمشاركة فى تقبل واجب العزاء فيه ؟ أم لإنني فى الحقيقة كنت اتقبل العزاء فى قطي الفقيد ؟ لا أعرف تحديدا . بعد انتهاء العزاء وجدت صدري يعلو ويهبط ووجهي يتصبب عرقا من فرط الإجهاد فجلست كي استريح ، أحد المعزين الفضوليين مازال جالسا يمطرني بالأسئلة ويحاصرني بالنظرات وآخرها سؤال عن عمر المتوفي ، عندها فقط تذكرت ، تذكرت العامين الذين نعمت فيهما بالدفء ، تذكرت من بادلني الود لكنه حاول الهروب إلى الحرية ، تذكرت قطي ، فهتفت بصوت مختنق بالدموع : عامان. وسط ذهول الرجل واستنكاره وكلماته الفضولية نهضت من مقعدي أسير دامعا ، على غير هدي .
اترك تعليق