ط
مقالات بقلم القراء

دور اللغة والشعر في قراءة التاريخ..بقلم / محمد الجداوى

 

يخطئ من يظن بإمكانه أن يحيط التاريخ بعنايته الكاملة، وأن يجمع أشتاته كما تُجمع حبات اللؤلؤ في عقد فريد له رونقه الخاص، ويُخطئ من يظن في نفسه القدرة على تسجيل أحداث عصره برؤية محايدة دون الولوج من وقفية الحدث إلى شخصانية الرؤية، ومن مصداقية الخبر إلى أحادية النظرة، وإن اجتهد؛ إذ يغلب الطبع البشري الحيدة العلمية ولو في جزء يسير من جزئياتها فتنقلب النتائج في نهايتها.

يخطئ من لا يدرك أن للوقائع سطوة، وأن للأحداث قوة، وأن تسجيل أي منهما لا يمكن إلا بأقلام عدة وبرؤى متعددة وعن طريق أشخاص تختلف رؤاهم وتتعاكس هوياتهم وتتغير زوايا نظرتهم للحدث الواحد، وبهذه الطريقة الوحيدة يمكن لمن يأتي بعد مئات السنين أن يجمع أشتات تلك الرؤى والأقلام، وأن يرسم في مخيلته صورة الحدث حقيقةً لا متأثرا بنزعة أو انتماء، وإن تأثر بمفهومه الشخصي.

تلك هي النظرة الحاكمة لتدوين التاريخ، فإن التاريخ، وإن كتبه المنتصرون- كما يقول المؤرخون-، يبقى في حيرة من تلك الرؤى حتى يجتمع شتاته من أشتات النظرات وبطون الحكايات، ولا يبقى له قيمة إلا ببقاء هذا النزاع مستعرا على أشده بين حكايات وحكايا مضادة، بين رواية يشهد القاصي والداني من صدق راويها، وأخرى لا يُشك في نية متداولها، بين الرواية العلمية والقصص الشعبي.

لا يبدأ التاريخ، وإن تغيرت شخصياته الفاعلة وتعددت أماكن الحدث فيه، من جديد إلا مُعادا كشريط فيديو ضُبط على خاصية التكرار التلقائي، لكن الناظر منا يرى في الحدث نفسه تفصيلات لم يلحظها في المرة السابقة فتحدث المفارقة والأهمية، وهو، وإن كان عصيًّا على التنبؤ والتوقع، فإنه يُفاجيء بقدر ما يُدرَك، ويحدث الصدمة بقدر ما يمكن تلمس مستقبله بالحواس قبل النظر- لمن فقه فيه وتعلم من ماضيه-.

والتاريخ- على علاته- رغبة لا تدرك، وكتاب لا يُغلق، ولُمَع لا تبهُت حتى تبرُق، ونظرة لا ترمش حتى تنظر، وعدسة لا تُغلق حتى تنطق، جوارٍ مُنشآت تَشْطَتُ ولا تقف على شط، تُبحر فوق أمواج الحياة مُغرِقة لا غارقة، تنزع بقدر ما تمنح، تعطي عطاء من لا يخشى بقدر ما تمنع، جُمعت فيه المتناقضات كلها كأن التاريخ طفل ينتمي لبرج “الجوزاء”.

أما الشعر- باعتباره ديوان العرب وفنهم الأول- لا ينأى بنفسه عن هذه البقعة الحيوية من حياته، ولا يتوقف عند تصوير ما يجول في الصدور وما يختلج في الشعور، وما يلمع في العين والقلب من مفاتن المحبوبة حسا ومعنى، بل يجتاح الحياة ويتماهى مع تفصيلاتها كبيرةً وصغيرة، يتعايش مع مفاخرها ومسالبها، يفخر بمنجزاتها ويحزن لسقطاتها.

والشعر وأهله يستقون من الماضي ما يُحسِّن الحاضر وينقي المستقبل، ويرسم صورة الحق والجمال والمبادئ نقية لا شوائب فيها، واضحة لا تحمل لبسا، يوضِّح المفاهيم تاركًا المساحة لإعمال العقل وتلمُّس بواطن الأمور وظواهرها، وهو في ذلك سوَّاح بين المنابع كلها، ينهل من واحدة منها لينتقل لغيرها عائدا إليها وأخواتها، لا يشبع منهم على الجملة، والتاريخ على رأس هذه الأخوات، ومن أهم تلك المنابع.

لا يطوف الشعر في رحلاته تلك بغير أجنحة، بل يغرد مستعينا بقواعد لغة تشرفت بحمل كلمات القرآن، واحتواء ديوان العرب، والتعبير عن خلجات الشعور بدقة بالغة، والعائذ منها المبتعد عنها كالمستعين من الرمضاء بالنار، فهي وإن كانت عصيَّة على المستغربين البعيدين عن تراثهم وقيمهم، فهي هيِّنة ليِّنة على من أدركوا قيمتها واستوعبوا قدرها، وسعوا لحمايتها بحماية لسانهم من الزلل والعوار.

تلك اللغة، وإن جفاها قومنا وابتعدوا عن أصولها متناغمين في هذا مع النعرات القادمة من الغرب، والاستغراب المستشري في بلاد العرب، هي الوحيدة القادرة على استيعاب أفكارنا دون الإخلال بمعانيها، ورسم الصورة صحيحةً دونما اهتزاز إذا عايشناها حق المعايشة، وسرها لا يخرج عنها بل فيها، وقوتها ليست صفة متغيرة، بل متأصلة نابعة عنها.

وإننا حين نرغب في رسم أحداث التاريخ برؤانا، وإن تعددت في أعمالنا الأدبية، فإن السبيل الوحيدة القادرة على التعبير بصدق هي تلك اللغة التي وسعت ألفاظ كلام الله وتراكيبه، وهي الوحيدة القادرة على التخلص من النعرات الخارجية، وإظهار قوة عناصرها وأبنائها، وتلك مهمة من يتصدرون المشهد الأدبي واللغوي، وعلى رأسهم الشعراء باعتبارهم من يحمل لواء الفن الأول واستكمال ديوان العرب الممتد عبر تاريخ طويل
بدأ قبل امرئ القيس ولن ينتهي بانتهاء هذه الدنيا، بل هو ممتد حتى بعد قيام الساعة.

#اليوم_العالمي_للغة_العرببة
#محمد_الجداوي

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى