ط
مسابقة القصة القصيرة

الأقدام الحافية . مسابقة القصة القصيرة بقلم / أيوب الحجلى .سوريا


الأقدام الحافية ـ قصة قصيرة

الدكتور أيوب الحجلي ـ سوريا

في لحظات الصباح الباردة من ذاك الشتاء، عندما بدأت الأمطار بنثر مراياها فوق وجه الطرقات والبيوت، لتأخذ من المكان ما بقي لديه من دفءٍ عتيق، فتسرح بضبابها على هامات الأشجار العارية ليطبق سكونها هائماً حزيناً.
عندها لاحت في الأفق بوادر لظهور خيوط شمس الشتاء المرتعشة بين نقاب الغيوم الكثيفة السود، مدّت الحركة أناملها على طرقات تلك البلدة الغارقة بارتعاشات البرد الجارحة، فراحت أصابع الوحل تتسلق الأقدام السريعة في مشيتها، لتضع وشمها البني الغامق بكل جرأة على النعال الشتوية الطويلة .
من بين كل تلك الأقدام المغطاة ببصمات طمي الشتاء فوق أحذيتها الطويلة، تقدمت أقدام صغيرة حافية تخطو على وجه الطريق المعبدة التي راحت تحتضن بقع الماء عليها، بدت تلك الأقدام كأنها دائرة ضوء براق بين طيات سواد الظلام الدامس، فهي تصرخ بصمتها على كل المارة ليبتعدوا عن ركبها المتهادي الدافئ.
قدما طفل صغير لم يتجاوز السادسة من عمره يمشي بين الناس المدثرين بمعاطفهم السميكة وأحذيتهم الطويلة… يشقُّ طريقه إلى متجرٍ قريبٍ منه، بلباسه الرقيق الرثّ، قميص قصير أصفر اللون مبرقع بزركشات الفقر المدقع، وسروال قصير لم يستطع أن يتدلى إلى أسفل الركبة ليغطي الجلد الرقيق الأزرق من صفعات النسائم الشتوية السّامة، يمسك بيدٍ صغيرة ليجرّها خلفه بمسؤولية عظيمة، يد تمسكت به بخوفٍ وبشدة كيلا تفلتُ سندها وعونها، يتقدمها وهو ينظر إلى باب المتجر البعيد، فتلك الطفلة قد وثقت به لتماشيه في دربه مرتديةً سروالاً طويلاً وردي اللون رسم عليه الفقر ما رسم على ثوب أخيها أمامها، ذهبية الشعر قد انتفخ خدّاها وتوردا من شدة البرد حولها فأخذتها أصابع الأنسام لتصنع منها لوحة فنية تميزت بألوانها الحمر على أطراف أناملها وألوانها الزرق على وجه جلدها المتيبس البارد.
تقدم الطفلان إلى حيث باب المتجر، نظر إلى أخته الصغيرة التي كانت تمسك بيدها الأخرى بعض النقود المعدنية بشدة وإصرار واضحين… أعطته ما لديها من كنزٍ ثمين بعد أن فعل فيهما الجوع فعلته، روائح الكعك الطازج تنبعث بين أشباح الناس، تتقاسم الأنوف تلك الرائحة لتندفع بهيستيريا إلى كوة البيع آخذة أقراصها اللذيذة، وقفت الطفلة الصغيرة تنظر إلى الأطفال مع ذويهم وهم يلتهمون تلك الأقراص بنهمٍ شديد، لتتلقف باقي خيوط الرائحة الشهية، وأخوها يرمقها بكل أسىً متجاهلاً فعل الروائح الزكية في أنفه الطفولي الصغير.
تقدمت الطفلة بعنفوان لتجتاز الأطفال… لتدخل باب المتجر وهي تدفع بأخيها إلى الداخل، وعند ولوجهما عتبة بابه المرتفع، ركضا إلى حيث ينشدان وقد مدّا وشاحاً من الاستغراب حولهما… وبذهول صاحب المتجر ـ الذي قرر في خلده أن يراقبهما ـ ولكن كانت الصاعقة الكبرى أنهما تجاوزا طاولة بيع المأكولات، تجاوزاها ودخلا إلى عمق المتجر الدافئ، تعلقت نظرات البائع بهما بشكلٍ يلفت الانتباه لتحاكي نظرات النسر الكهل فوق صخرةٍ عاليةٍ ينتظر الموت بشجاعة وهو يراقب الدنيا من علوه الشاهق، اعتقد بأنهما سيسرقان الطعام ويخرجان، فكان متحفزاً للوثوب على اللّصين الصغيرين، عندما دخلا في العمق وهما يمشيان بعزة وبرأسين مرفوعين كالنبي الشهيد بين قومه، نهض وراح يمشي خلفهما ببطءٍ وحذرٍ شديدين، وصل الطفلان إلى قسم بيع الأدوات المدرسية، وثب الطفل بهامته الصغيرة إلى الرفّ الأعلى ليأخذ دفتراً صغيراً، وأخذت الصغيرة من الرفّ الأمامي المنخفض قلماً طويلاً، تراجعا عن الرفوف ومضيا في درب العودة بين أقسام المتجر الواسع إلى المكان المخصص لجلوس البائع ـ قرب الصندوق ـ عندها عاد البائع بسرعة ليجلس مكانه وقد حفظ الأغراض لدى الطفلين، تقدم الطفل ليرفع نفسه على رؤوس أصابعه وهو يمدُّ يده الممسكة بالقلم والدفتر ويده الأخرى قد فُتحت بعد إطباق عن عملةٍ نقديةٍ معدنية من دون أن ينبس ببنت شفة، أخذ البائع الأغراض والنقود، ونظر إلى الطفلين وهو يذوب من شدة خزيه وخجله الصارخ، أعطاهما الأغراض وهزَّ برأسه أن كل شيءٍ بخير، انطلق الطفلان إلى الباب الرئيسي ومرا أمام طاولة الحلويات والطعام، من دون أن يلتفتا إليها كأنها معبد أصنام آثمة، ركض البائع من خلف طاولته ونادى عليهما فتوقفا خوفاً من صوته فإذا به يناولهما قرصين من الكعك الساخن، وهو يبتسم إشفاقاً عليهما، ولكن الطفل الصغير شدَّ يدَ أخته واستدار ومضى إلى قارعة الطريق، ليترك صاحب المتجر كالصخرة الصمّاء يلوك هزيمته الكبرى أمام هؤلاء الصغيرين وأمام نثرات الإباء على تلك الأقدام الحافية

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى