قصة قصيرة بعنوان ( وهم العاجز )
=================
صفحات الوجوه المتآكلة من جراء مد وجزر القلق .. الكلمات المشلولة على ألسنة الحكايات الحزينة .. الأجساد الراكدة في قاع المرض .. الأحلام الضامرة .. العيون المتفتتة النظرات من الألم، وكأنها تبحث عن قشة تغيثها؛ كل هذا وأكثر تجسد في الكائنات الهشة المتناثرة على الكراسي حولها في هذا البيت الريفي الفقير، وكلما أمعنت النظر فيهن وتنصتت عليهن؛ استهانت بما جاءت من أجله، وأشفقت على الجان من ثقل شكواهن ! . انتفضت رغما عنها عندما لكزتها صديقتها الجالسة بجانبها، التفتت وجله، صفعتها ابتسامتها اللزجة و صوتها الهامس كالفحيح
: أحلام ما بك ؟ .. اطمئني .. ألا ترين كم مريديه؟ .. أنظري ( أشارت إلى امرأة منقبة من الخليج العربي ) .. أنهن يجئن إلى الشيخ من آخر بقاع الأرض
انتابت أحلام غصة وحنق من النبرات الدنيئة لصوت صديقتها، شعرت أن التشفي من عنوستها يطفح من عينيها ويسيل على كل حركة وإيماءة وكلمة، رغم أنها صديقة طفولتها بحكم التجاور في السكن ، إلا أنها تناقضها في كل شيء، وتحسدها على تفوقها العلمي – درجة الدكتوراه في الكيمياء- وتتعلل أنها لولا الزواج مبكرا والأطفال، كانت حصلت على أعلى الدرجات العلمية، وتقول بحركات موحية ( الأنثى ليس لها سوى البيت والأطفال مهما حصلت على مال أو علم )، كانت له قريحة عجيبة تحول كل مجرى حديث بينهما إلى جدب أنوثتها كي تشعرها أنها متفوقة عليها في أهم ما تريده أنثى – الرجل والأطفال – . وجدت نفسها تقف قائله بحده أثارت النسوة من حولها بل وتعجبت منها هي نفسها
: هيا بنا نذهب .. لا أريد الزواج
أجلستها صديقتها عنوه وهي تقول بفحيحها المضطرب
: صه .. الناس تنظر نحونا .. هل سافرنا كل تلك المسافة من أجل لا شيء؟! .. لقد أقترب موعد دخولنا إلى الشيخ و ……….
تشرب أحلام الوجوم؛ سقطت في أغوار نفسها العميقة، وأغلقت حواسها عليها؛ أنها تنظر إلى صديقتها الثرثارة ولكنها لا تسمع ولا ترى شيئا، تتلاطم في رأسها الذكريات .. الأحداث .. الكلمات المبتورة .. المشاعر المحتضرة في قاع قلبها تستعرض خمسة وثلاثون عاما هي كل عمرها بحثا عن نصفها الآخر؛ أول نبضه في قلبها الغض مع سبق الإصرار والترصد، أحبت الحب نفسه من خلال الأفلام والروايات والأغاني .. عشاق كورنيش النيل .. تلامس الأيدي .. الذوبان في النظرة .. الهمسات التي تدغدغ الخيال، ثم تجسد الحب في أبن الجيران الذي بحث عن رجولته فيها، وبحثت عن أنوثتها فيه، وحلقا معا بعيدا .. بعيدا في المشاعر الخيالية حتى تلاشى الواقع تماما، وعندئذ بارك والدها الحب بعلقة ساخنة جعلتها تتبرأ من مشاعر الحب الآثمة سنوات طويلة، ويحل محلها حب التفوق الدراسي، نضجت وأصبح للعقل دور أكبر في ضبط إيقاع نبضات قلبها تجاه ذلك المركب الغامض المسمى بالرجل، وبث لها المجتمع العناصر المحفزة للزواج ( الملابس المحتشمة – الرقة والطاعة – الصوت المنخفض – عدم مخالطة الرجال إلا في حدود العمل و…………… ألخ ) ، ورغم إيقاع العصر السريع وتبدل المفاهيم ولكن تبقى دائما ثوابت في رأس المجتمع الذكوري الذي يعتني بالرتوش الخارجية حتى لو تنافت مع ما يحدث سرا !
ولكنها كانت واهمة لقد أصابها فيروس الحب رغما عنها .. ارتجفت من نظراته التي تغلفها طوال أوقات العمل .. قاومت بالخوف والهرب .. ولكن خياله جلس معها طوال الليل يعيد كل شيء .. النظرة .. الإيماءة .. الثغر المبتسم بثقة غريبة .. وارتفعت درجة الإحساس الطاغي بالنشوة حتى ذابت ولها، ومنحته كل ذرة في كيانها بمجرد اعترافه بالحب، ومرت السنين وذبلت وعود الزواج على فروع اللقاءات، ثم تزوج من أخرى لم يكن يعرفها ! . ما أبشع أن تقتحم باسم الحب، ثم تلتهم روحك وسنين عمرك، ثم تترك هيكل هش يسترجع لحظات التهامه!
تأوهت من ارتطام كوع صديقتها بجانبها، وتردد صدى أسمها على مسامعها ( أحلام فوزي ) في ذات الوقت، تمالكت نفسها وسارت مع صديقتها في اتجاه الحجرة التي تقف على بابها امرأة عجوز متنمرة، استوقفت صديقتها قائلة بعنجهية غريبة : أحلام فقط
صممت المرأة بجفاء على دخول أحلام بمفردها رغم الإلحاح المستميت والإيحاء بالرشوة، زفرت أحلام في ضيق وخطت داخل الحجرة السحرية التي يقبع بها الشيخ، وكما في الأفلام كل شيء يغلفه الدخان المتصاعد من أماكن متفرقة في زوايا الحجرة، وكأنه ضباب حلم مخيف؛ ارتجفت خطواتها متقدمة لا تحيد عن شبح الشيخ الجالس على الأرض وأمامه نار خافته، وكلما اقتربت تعجبت من عدم تشابه صورته في خيالها، مع صورة الهيكل العظمي العجوز داخل الجلباب الأبيض الفضفاض، وأنفه المعقوف وعينان البوم التي تخترقها، فجأة خرج صوته الخشن من خلف الدخان مجاهدا أن يخرج أملس النبرة
: أجلسي يا أبنتي هنا .. لا تخشي شيئا كله بأمر الله .. ماذا ألم بك ؟
ذكر الله أعاد الهدوء إلى نفسها المضطربة، جلست وتحشرجت الكلمات من فمها
: الزواج .. أريد شيئا للزواج
تمتم بكلمات هامسة لكائنات ما حوله وتمايلت رأسه يمينا ويسارا ، ولكنها لاحظت أن عيناه تتسحب على مفاتنها من طرف خفي؛ وجدت يداها تلقائيا تتأكد من أحكام إغلاق البلوزة رغم أنها على يقين من أنها بدون فتحة علوية! . هدأت حركات رأس الشيخ المترنحة، وسكنت شفتاه ثم خرج صوته المزعج مرة أخرى
: تفضلين العريس ثري .. أم جميل الملامح؟
: أفضله ذو أخلاق
: فقط ( ابتسامه قميئة ولدغه من عيناه )
: وذو مركز مرموق .. دكتور .. مهندس
: كله بأذن الله .. ألقي قطرك
أخرجت له من حافظتها مائتان جنية ووضعتهم في يديه؛ جذبت يدها سريعا من ضغط أصابعه المتشققة عليها، ولدهشتها انفرجت شفتاه عن ابتسامة سحلية فقدت معظم أسنانها، ثم قال وهو يضع المال في سروال الجلباب
: أنا لا أقصد المال .. أقصد شيء ما به رائحتك
ارتبكت من طلبه هذا، فهي لم تكن قد أحضرت شيئا، ولكنه علم بما يدور في خلدها حيث خرج صوته المشروخ قائلا
: أخلعي منديل رأسك أنه يفي بالغرض
تابعتها عيناه بنهم غريب وهي تفك وشاح رأسها، وغمغم بكلمات لم تسمعها جيدا، ولكنها شعرت بلون الشهوة يكسو نظراته، وطدت نفسها على إنهاء ما جاءت من أجله بسرعة فقد دفعت ربع راتبها على حجاب لم يرى النور بعد، ألقت إليه الوشاح وفغرت فاها مما فعله؛ أنه يتشمم الوشاح بأنفه المعقوف في مجون قائلا بفحيح بطيء : الله … مسك
قالت منفعلة : ماذا تفعل؟ .. ألا تخجل من عمرك الذي تجاوز الستون ؟
ارتدى وجهه قناع جاد ثم قال : ماذا بك ؟ .. أنا أعمل .. أنت لا تفهمين شيئا .. لابد أن أفعل
حتى يستدل عليك الجان الذي يتلبسني .. هل تعتقدين أنني
أغازلك ؟!
ارتبكت من ردة فعله الغاضبة والتي تبدو حقيقية مما جعلها تقول
: أنا أسفه .. ولكني لابد أنا أعود بسرعة .. الطريق طويل ولابد أن
أعود قبل الليل .. أرجوك أنتهي بسرعة
نظر إليها متبرما ثم غمغم بكلمات مضغمة وهو يغلق عيناه، ويدور بوشاحها على النار في نفس الوقت ، وتزداد وتيرة الكلمات مع سرعة يداه حتى سكنت تماما، وفتح عيناه بنظرات عجيبة وهو يقول : امرأة تغار منك وضعت لك عمل سفلي كي لا تتزوجي .. ولا مفر من فك
العمل بالسفلي حتى تتزوجي … هذا ما قاله الجان
وخز كيانها حرف .. حرف حتى أدمتها القشعريرة، تهدجت أنفاسها من الانفعال، وجال في خاطرها ما سمعته من العديد من النساء عن الأعمال السفلية القذرة، إن هذا الشيخ القذر يطلب مضاجعتها بمنتهى الوقاحة . صرخت بكل ما أوتيت من اشمئزاز بعد أن أخطفت وشاحها وبدأت في ارتداءه
: أخرس أيها الشيخ القذر .. أنا دكتورة يا كلب .. سوف أفضحك بين كل السذج القابعين في الخارج … و…..
اندفع الباب فجأة، وكبلتها أيادي كثيرة وسحبتها عنوه إلى الخارج، حيث ابتلعت صرخاتها أصواتهن الواهنة المبجلة للشيخ، وعيونهن الذابلة بالعجز وصمتها بالجنون.
==================================================
اترك تعليق