ط
مسابقة القصة

آخر حافلة ..مسابقة الرواية ..بقلم / بن عزيزة صبرينة من الجزائر

بن عزيزة صبرينة
الهاتف 00213778955247
العنوان الالكتروني [email protected]
مجال المشاركة الرواية
آخر حافلة،
ننسكب داخلها دفعة واحدة، فلا أحد يدري متى ستكون الرِّحلة القادمة إن وُجِدت، صرنا مكدَّسين كالأمتعة، بعضنا رأسه مغروز في الوقوف، والبعض الآخر مُنَكَّس كما ليحتمي من نسمة الفجر الباردة التي أخذت تجتاح الأرواح، الأطفال يبكون، يتصارخون، يجهلون تماما ما ينتظرهم و لِم يرحلون بهذه الطَّريقة الَّتي ساوت بينهم وبين لعبهم، مازالوا صغارا ليفهموا أنَّ الوطن بات يتعذَّرهم لذا ضاق بهم ذرعا و صار يلفظهم إلى خارج حدوده، لعلَّها المرَّة الأولى الَّتي يستيقظون فيها قبل ميلاد الشَّمس ليركضوا خلف كرامتهم الَّتي صار يجرُّها الرَّحيل و مغادرة البلاد، فحينما تكون مضطهدا لا مجال للنوم، عليك أن تلحق نفسك قبل أن تتعرَّى
يلتفت شاب من الَّذين احتلُّوا الأماكن الأماميَّة عندما كنَّا لا نزال نتسابق على التَّذاكر الأخيرة فأفهم من لحيته المطلقة أنَّه مسلم و إن كنت لا أستطيع تحديد من أي مذهب أو طائفة، مؤكَّد أنَّه أدرك أيضا أنِّي مسيحيَّة من الصَّليب الذَّهبي الَّذي يزيِّن عنقي، يلمح أنِّي وحدي امرأة واقفة وسط جمع من الرِّجال فيستدير مغمضا عقله عنِّي، ربَّما بسبب الهويَّة الكاذبة الَّتي يظهرها فستاني القصير، ثمَّ كأنَّ شيئا ما استيقظ داخله فجعله يشعر بالمسؤولية اتِّجاهي، لعلَّه المصير المجهول الَّذي وحده ما عاد يُمَيِّزُ بين أبناء الأرض الواحدة، يشير لي برأسه أن تعالي، و يترك لي مقعده الَّذي وحده الله يعلم أ دفع للفوز به مبلغا إضافيا أم لحظات أطول من الوقوف و الانتظار
تقابلني امرأة أربعينيَّة جميلة، ينتحر على كتفيها إيشارب حريري شهيُّ الحمرة و تختفي عيونها خلف نظَّارات سوداء، لكنَّها لا تكاد تتكلَّم حتَّى يغطِّي فضولها على جمالها
– تعرفينه ؟
– مطلقا
– تسافرين بمفردك ؟
– نعم
– ماذا عن زوجكِ ؟ أم أنَّك غير مرتبطة ؟
لطالما كرهت أولائك الأشخاص الَّذين يحاولون التَّسلي بتفاصيل حياتنا في اللَّحظات القليلة الفاصلة الَّتي تجمعنا بهم و الَّتي من الصَّعب أن تتكرَّر، أولائك الَّذين يقحمون فضولهم في قصص لا يعرفون شيئا عن أبطالها و لن يعرفوا بأيَّة حال من الأحوال نهايتها، كأنَّهم يختصرون المسافة بتلك الأطواق اللَّفظية الَّتي يحيطون بها من تضعه الصدفة أمامهم
– تريدين قهوة ؟
أتظاهر بعدم سماعها و أتَّخذ من النَّافذة سبيلا للفرار
نحن مدينون للصُّدفة الَّتي حفظت ماء قلوبنا و جعلتنا نغادر في الظَّلام فلا نرى الوطن الذي كنَّا سنفنى لأجله يفنينا، أما عاد بردى يروي ظمأك يا دمشق لذا صرتِ تشتهين آخر من دم ؟ أبهذا القدر صرت شهوانيَّة أيَّتها القدِّيسة ؟ أم أنَّهم أوهموك بشعب من الملائكة والحور و الولدان المخلَّدين فجعلتِ منَّا قربانا ؟ ما عدتِ تصلحين للياسمين والنَّارنج والصَّندل الذَّكري، ولا عاد صباحك يُفْتَحَ بصوت فيروز، صرتِ تجمعين بين الطُّهر والعهر فتُخْضَعِينَ الجميع لنزواتك، وحدهم البعيدون مازالوا موهومين بسحرك، مازالوا يستلذُّون نكهتك لأنَّهم لا يعلمون شيئا عن نكبتك، أما نحن فقد صرنا نقرأ قدرنا في كفِّ الغياب، أشياء كثيرة تغيَّرت يا دمشق، أشياء كثيرة تقول بنبرة واحدة أنَّكِ ما عدتِ لنا
مازالت تلك المرأة تحرِّك قهوتها بنفس الطريقة العكسيَّة الَّتي بدأت بها، حتى أنَّه ما عاد البخار يتصاعد منها، بردت، مثلنا جميعا، رغم هذا تسكبها في جوفها دفعة واحدة، لكن تفلت منها بضع قطرات قُدِّرَ لها أن تلطِّخ السترة الَّتي تغطِّي ركبتيَّ كما لتمنحني سببا إضافيا لأنزعج منها و أكره الصُّدفة الَّتي جمعتني بها
أتدحرج قليلا على مقعدي فأتَّخذ وضعيَّة بين الجلوس و الاستلقاء ثم أغمض عينيَّ عساني أتحايل على غفوة ما هاربة بالجوار، على الأقلِّ حتَّى يغرق طرف اللَّيل في نهار جديد
كما لو اطَّلع على نواياي فقرَّر وأدها قبل الميلاد، فتح السَّائق المذياع على صوت فيروز وهو يسمو بالحبِّ الدِّمشقي فيجعل منه أنشودة ملائكيَّة تُعزف على صفحات السَّحاب، أحبٌّ دمشق هواي أرق، أحب جوار بلاااادي ،صداها يخترق سويداء قلوبنا فنذرف الدَّمعة الفريدة الَّتي تنعي خسارات متعدِّدة، فعندما تصبح مأساتنا أكبر من الحزن ذاته نكون قد لامسنا سقف التَّرف الحزني فنتعلَّم كيف نكتفي بالقليل للتَّعبير عن الكثير، كما نجعل شمعة وحيدة على كعكة عيد الميلاد تنوب عن تسعة و ثلاثين غيرها أو نكتفي بجرعة واحدة من النَّبيذ طيلة ليلة كئيبة باردة
بينما نحن كذلك راح السَّائق يتفحَّصنا في مرآته العاكسة من فوق نظَّارات شفافة تمتطي أنفه بثبات، كأنَّه ينتظر منَّا اعتراضا ليدمغه بكلمات تنحر وخز الضَّمير الَّذي يمزِّق داخله لا لشيء سوى لأنَّه قائد هذه الرِّحلة الجماعيَّة نحو المجهول، يحدث أن نختلق مواقف تتناسب مع كلام محجوز بداخلنا نودُّ لو نبوح به بصوت مرتفع لنسمعه كغيرنا لعلَّنا نصدِّقه
تفتح السيِّدة الَّتي تقابلني الناَّفذة فتجتاحنا موجة برد صاعقة، أحاول عبثا التَّأقلم مع الوضع لكني أفشل، فما تعوَّدت النَّوم في برودة مماثلة، صعب أن تفترش الصَّقيع أنت الَّذي كبرت في الدفء، أغمض عينيَّ وأنكمش على نفسي أكثر، لكن ضوء ما يُسَلَّطُ عليَّ، أحاول التملُّص منه لكن دون جدوى، أفتح عينيَّ فإذا بالحافلة تجرح الأفق فيولد نهار جديد، بدأت النُّجوم تأفل، يا لسخافتنا نحن الَّذين بتنا نراقبها في ليالي الشَّوق الحزينة، إنَّها بتاتا لا تكترث لنا و لا تبالي بحكايات عشقنا المثقلة بالأكاذيب و خيبات الأمل
الأشياء تتلاحق، تتداخل فتشوِّش الرؤية، أحاول التمييز بينها على ما في ذلك من مشقَّة لكنِّي أفشل، المساحات تركض، الياسمين يفترش الأرض لأوَّل مرَّة منذ أن خُلِق، أجبرته النَّكبة على الانحناء ففقد شكله ورائحته، فقد حتى نصاعته، حتما سيشكونا للتَّاريخ و سُنحاكم، نعم سُنحاكم كمجرمي حب، من لا يمكنه الدِّفاع عن حبِّه ليس جديرا به، ” كان عليكم أن تكونوا أهلا له أو أن تتركوه لأهله “، هكذا سيقول التَّاريخ و لن يكون أمامنا إلا أن نلبس الصَّمت كاملا في حضرته، سيحكم علينا بالإعدام عشقا قبل أن نردَّ حتى، و كم هي مؤلمة تلك المحاكمات التي تنطق بالعقوبة قبل أن نكون قد أنهينا نصيبنا من الحوار !
لا يكفُّ العجوز الَّذي خلفي عن السُّعال، تفلت منه دمعة أحيانا فتسرع تلك اليد الرَّاجفة لوأدها قبل أن يلتقطها العلن، لولا قربي منه و الزُّجاج العاكس لما ميَّزت بين شهقاته و سعاله، لن أساله، فمن السُّخف أن أطالبه بسرد مأساة معروضة على مرأى الجميع، ملعونة الصُّدفة الَّتي جعلتني أقف على ضفاف أحزان الآخرين دون أيِّ زاد من المواساة والصَّبر، ثم بمِ أواسيهم وأنا معطوبة مثلهم أو ربَّما أكثر ؟
تتوقَّف الحافلة في محطة بلغت سنَّ اليأس قبل أن يؤذن لها فما عادت تصلح لا للإنجاب و لا للمتعة، حتَّى أنَّها عجزت عن ارتداء ما يليق بوصولنا من ابتسامات حارة و أحضان دافئة، صارت أحد أجزاء القفار الكثيرة المنتشرة في البلاد، لا من ينتظر أقارب و ضيوف، لا باعة متجوِّلين، لا متسوِّلين حتى، بعد أن كانت تكتظُّ بحركات الذهاب والإياب، بدموع اللِّقاء و الفراق، بوعود بالاتِّصال و العودة السَّريعة، كما كنت أرى كلَّما أتيت لانتظار إياد و هو عائد من الجيش، حتَّى أنَّه لشدَّة الحركة و الزِّحام ما كان ينتبه أحد أنَّه يغمرني فور نزوله فقد كان لكلٍّ منهم شأنه الَّذي يغنيه و يزيد، كان يهديني فلاًّ من عند بائعة صغيرة تقف تحديدا عند لافتة التَّوقُّف، هي الأخرى لم تعد هنا، ربَّما غيَّرت مكانها عندما لم تجد عشَّاقا يبتاعون فلَّها أو ربَّما لم تجد فلاًّ للبيع، أو من يدري قد تكون استشهدت مخلِّفة وراءها الفلَّ و ثمنه و تعب الوقوف الطَّويل و الانتظار
دمار موغل في العبثيَّة أحكم قبضته على المنطقة فراح يكشف عورتها على الأبصار المتجوِّلة كما ليصادق على فحولته، أين موزِّع التَّذاكر الَّذي كان يفرِّش ابتساماته للجميع من وراء ذاك الشُّباك الصَّغير الَّذي صارت تسدُّه خيوط العناكب ؟ أين محلاَّت الهدايا التذكاريَّة ؟
يصرِّخ كمن لا يصدِّق، كمن عثر على إشارة للحياة وسط الحضور المكثَّف للموت
– انظروا، إنَّه بائع الشوارمة
يمعن النَّظر ليتأكَّد ثمَّ يواصل
– و الله أنَّه هو، آتيك بالشوارمة أمِّي ؟
ثمَّ لفرحه راح يسكب من كرمه للجميع
– هل منكم من يريد شوارمة ؟
كانت طاولة وحيدة تشقُّ حضورها وسط الفراغ، تتمرَّد، تتوغَّل في الوجود، كأنَّها تُكَذِّبُ بالضَّياع رغم استفحاله
نطق الشَّيخ بنبرة ترتجف
– تراب يا ولدي، آتيني ببعض التُّراب
كلماته تصمُّ منطقنا و توقفنا في مفترق التَّساؤل، تراب ؟ أ لأنَّ القائمة قد تطول و وحده التُّراب يملأ جوف ابن آدم ؟ أم لأنَّه أصل الخليقة والوجود ؟ أو ربَّما لأنَّ تراب سوريا صار أغلى ما فيها ؟
– ما بكم ؟ ألا تعرفون التُّراب ؟ سأحضره بنفسي
ما يكاد يقف حتى يتمايل فيمسك أحدهم بيده و يشير السَّائق في المرآة العاكسة أن سايروا الشيخ الكبير و ارحموا ضعفه، يعود الشَّابُّ محمَّلا بالشورما وبفرحة تكفي الجميع، يستعد السَّائق لاستئناف الطَّرِيق فيعترض كهل استيقظ للتَّو
– صلاة الظُّهْرِ يا جماعة
ينزل جمع من الرِّجال، يضربون كفوفهم بالتُّراب ثم يمسحون وجوههم و أيديهم، يحاولون تحديد القبلة لكنَّهم يختلفون، تتضارب الآراء و تشير الأصابع إلى كلِّ الاتجاهات بينما تصبغ الشَّروح الموقف فيقطع أحدهم دابر كل اختلاف ” أينما تولوا وجوهكم فثمَّ وجه الله ” يجدون ضالتهم في قوله الذي لا يعلى عليه فيتَّجهون جميعهم صوب بيَّاع الشورما، يتقدَّمهم شيخ كبير، يرفعون أيديهم إلى آذانهم ثم يكبِّرون
صفوفهم متساوية الطُّول تقريبا، ما أجمل سجودهم و ركوعهم، ما أصدق دعاءهم، صلاتهم تفتح في نفسي شرخا من الإعجاب و الفضول، تجعلني أستحضر التَّرانيم الَّتي كانت أمِّي تردِّدها كلَّ ليلة و هي تمسح على شعري كما لتمحو تعب يوم طويل قضيته بين الألعاب و الدُّمى و الأقلام الملوَّنة و الأوراق المخربشة بأكثر من شكل، بعضها رسم لمناظر الضَّيعة و بعضها الأخر مجرَّد خربشات تفتقد لمعنى، كنت وقتها أظنُّ أنِّي أكتب رسائل، لأبي، لخالتي في الجولان ،لأيِّ شخص يخطر بأشواقي الطُّفوليَّة البريئة و كانت أمِّي تتظاهر أنَّها فعلا تقرأ شيئا مهمًّا و ما هي إلاَّ لحظات حتَّى أعود لألعابي و أنسى أمرها فقد كنت ببراءة الأطفال أدرك أنِّي إن استودعت أمِّي شيئا فحتما سيكون في ثنايا الحفظ، و ما كنت أعاود رؤية أوراقي تلك إلاَّ و نحن في الكنيسة لندعو سويًّا لكلِّ الغائبين عنَّا، السَّاكنين في قلوبنا
أين أمِّي الآن ؟ و أين التَّرانيم ؟ بل أين الكنيسة ؟ ماذا بقي منها بعد أن أحرقوها و كسَّروا الصَّليب و داسوا عليَّ تمثال السَّيِّدة العذراء ؟ انتهكوا بيوت الرَّبِّ باسم الرَّبِّ، إنَّهم المغول الَّذين لا دين لهم و لا إنسانيَّة، المغول الَّذين نسيهم التَّاريخ ورحلط

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى