ط
مسابقة القصة القصيرة

أبجدية الحياة والموت. مسابقة القصة القصيرة بقلم آمال فاروق سلمان من العراق

الاسم : امال فاروق سلمان
نوع العمل : قصه قصيرة
البلد : العراق
طريقة الاتصال : [email protected]
أبجدية الحياة والموت
أزفت شمس الأصيل بالنزوح..حين اذعنت رغم انفها للأفق المنسل من ظلمات غمده باتجاهها …لتنتهي مذبوحة بدم بارد وضمير ميت.. فلملمت دمائها المنسالة ودفنت بها كما الشهيد …لتتبرقع بعدها السماء بالسواد حدادا عليها ..وتشارك النازحين خيم عزائهم..وتواسي قلوبهم المثخنة بالجراح والمزدانة بأمل مبهم ..يتوارى خلف دعواتهم… نهلت السماء بصيص نجومها منها…. واول دعوة كانت لأحمد ذو الست سنوات الذي كان ينأى بنفسه عن الخيم… رافعا ًرأسه الى السماء يتلفت هنا وهناك وكأنه رادار منصوب… يبحث عن خيط أبتسامة رفيع ..يخيط به فجوة الاحزان التي مزقت حياة عائلته على حين غفلة،وبعد ساعة اشرقت أساريره ولمع بريق في عينيه… وكأنه ضفر بضالته فراح يجري مُسرعاً الى عائلته…يتعثر ..يسقط.. يقوم بسرعة..ينظر الى الخدش البسيط في ركبته ..لكنه لا يبالي ..فهو لايريد أن يبكي اليوم ..لا لن يبكي اليوم..يلتقط أنفاسه …يمسح العرق المتصبب على جبينه ..ويستأنف الركض بأتجاه خيمة عائلته حتى اذا ما دخل توقف ليلتقط أنفاسه مره أخرى ثم ..صرخ بفرح قائلاً:
-“يُمَّة باجر العيد…أني شفتو الهلال(ويسدل قماش الخيمة قليلا ويؤشر بأصبعه الى السماء وهو يقول)..هيانو والله هيانو ..حضريلي أهدوم العيد”*
أستيقظت أخته الرضيعة على صوت صراخه، فسددت الأم قوانس نظراتها تجاه أحمد،ثم أستدارت وتلقفت رضيعتها وراحت تهدهدها بين أحضانها وهي لا تزال تمسك بمروحة مصنوعة من صبر العراقيين… تحركها بما بقي لها من فتات قوة غائرة في غيابة الألم… ذات اليمين وذات الشمال… تارة توجهها نحو رضيعتها… وتارة نحو والدتها.. التي فتكت بها عثت الكبر فباتت لا تقوى حتى على الجلوس،
أستأنفت الأم نظراتها لاحمد واعتزمت ان لا تجعله يطفو على زبد وعود آفلة …لكي لا ينتهي به الامر غارقا، فقالت له بصوت يكتنفه المرارة :
“هدومك غاحت … وكلشي غاح .. نِحْنَا ما عدنا عيد ماعدنا”**
وراحت تشارك رضيعتها البكاء، في تلك اللحظة أستيقظت فاطمة ذات الاربع سنوات… وتقدمت لتطوق عنق والدتها، فتهاوت نظرات أحمد الى والده… الذي كان مستلقياً على الارض…يستعطفه بكلمة يبل بها ريقه ….لكن الأب المسكين كان عديم الحيلة… فما كان منه الأ أن نأى بوجهه عن الجميع الى الناحية الاخرى… محاولا أخفاء عينيه التي ملئت بشظايا دموعه المالحة… والتي لم تزد الأرض الأ جفافاً ولسان حاله يقول:
-“لا حول ولاقوة الا بالله”
غادر أحمد الخيمة والدموع تفترش وجهه.. وراح يسير دون هدى وهو يفرك عينيه ويتمتم بينه وبين نفسه:
“مَّعْلَّية .. أغيد أهدوم العيد “***
حتى اذا ما وصل بالقرب من خيمة جيرانهم.. قفزت في عقله فكرة… فمسح الدموع من عينيه وأبتلع شهقاته المتهدجة… وراح ينادي أبن جيرانهم ..صديق طفولته:
“دانيال ..دانيال”
خرج دانيال من خيمته ونظر الى صديقه وسأله:
“كِنت تبكي يا أحمد!”
أحمد”إي… لأن باجر عيدنا وما عندي هدوم العيد ..إتقول أمي هدومي غاحت …دانيال أعطيني هدوم العيد ماتك لأن عيدكم بعد مو هسة وأشوَقِت ما نعود للبيت اعطيك هدومي”****
دانيال”بس أمي بعدها ما أشترتلي اهدوم العيد”
أستانف أحمد دموعه بحرقة اكثر…فجأءة خرجت أم دانيال من الخيمة ونظرت الى احمد وسالته بأستغراب:
-“ليش تبكي يا احمد؟”
تسلسل صوت احمد من بين تهجداته ليجيبهاقائلا:
-“لأن ما عندي اهدوم العيد؟”*****
تزلزلت روح ام دانيال من الألم واغرورقت عيناها بالدموع وهي تسمع ذلك الكلام …وتمنت لو أن لها القدرة على أنهاء معاناة ذلك الطفل المسكين لكن ما باليد حيلة فكلهم على نفس المركب .. تهوي بهم الى المجهول..لكن فجاة لمعت في ذهنها فكرة صغيرة ..تهمس لها قائلة:
“أن لم يتسنى لك قشع غيوم الحزن عن شمس العيد فبمقدورك ان تضيء شمعة ..فمن يدري قد تكون هي البداية للخروج من النفق”
لذلك قررت ام احمد أن تنوب عن بابا نويل في عمله..فالقلب السليم لا يهتم ان كان القمر بدرا ام هلالا ليجود بفرحه على الجميع،فدخلت الى الخيمة وأخرجت منها محفظة نقودها الخالية..الا من بعض الفئات المالية البسيطة … فقامت بأخراج أحداها..وعادت الى احمد لتقدمها له على وجهها ابتسامة فضفاضة وهي تقول:
“أحمد ..اخذ ..هاي عيدتك ..حبيت أكون أول وحدة تعطيك اياها”******
مع انها كانت عملة نقدية بسيطة لكن مع ذلك كان لها القدرة على عكس هلال ثغره الباكي …فمسح احمد دموعه وتلقف العيدية بفرح وقال لها:
“شكرا يا خالة”
تأمل احمد ان العيد قد اصابته العدوى من حال الدنيا فراح يسير بالمقلوب فكما استفتح العيد بالعيدية تأمل ان ينتهي بارتداء ملابس العيد.
ودع أحمد صديقه دانيال وركض بتجاه خيمته لينيرها بنور فرحته ..لكن ما أن انتصب الخيمة حتى شاهد ان الجميع قد شرعوا في اكل الارز مع الملائكة فاطلق تنهيدة طويلة وهو يتجرع من كاس الخيبة،بعد ان ارغم على كبح جماح فرحته لئلا توبخه امه كما فعلت سابقا …في تلك اللحظة لمح أحمد قماشاً جديداً أبيض اللون موضوع تحت رأس جدته،فوسوس لهُ الشيطان أن أمه قد إدخرتها لأخته فاطمة والا لما قالت له انه لم يعد عندهم شيء، فما كان منه الأ ان تظاهر بالنوم وعند بزوغ الفجر قام من مكانه بهدوء وتقدم نحو جدته وأستل القماش بهدوء من تحت رأسها ثم أستدار نحو الكيس الموضوع بجانب أخته الرضيعة وأخذ من جانبها علبة البودرة التي تخصها وقنينة ماء كبيرة ثم أتجه نحو الكيس الموضوع بجانب والده وخطف منه مِقصاً كبيراً وترك ساقيه للريح تقوده خارج الخيمة.
في الصباح الباكر عندما أستيقظت الأم لم تجد أحمد فأصابها الهلع فقامت كالمجنونة تصرخ”أحمد… أحمد!”
أستيقظ الأب وصرخ: “أَشْنُو أشصار؟”*******
الام “أحمد ماكو”********
أستيقظت فاطمة وملامح الخوف تلتهم وجهها وألتصقت بساق والدتها أما الرضيعة فأستأنفت بكاءها وقبل أن يحرك الاب ساكناً دخل أحمد الى الخيمة ووقف أمام الجميع وهو يرتدي ملابس جديدة والأبتسامة تكاد تشق ثغره، ما أن رآه والده حتى ضرب رأسه بيده من الصدمة التي تلقاها أما الام فقد تهاوت على الارض وهي تبكي بصوت خنقه الألم وبسطت يديها بأتجاه أحمد تشير له بالأقتراب
تقدم أحمد بخطوات وئيدة والخوف يلتهم ملامح وجهه ..الخوف من العقاب فما كان منه الأ أن بسط يده بقطعة القماش البيضاء وقال:
“يُمَّة القماش كْثِيغ أخذت منه شْوَيَّة وبقيت لفاطمة “*********
أرتسمت الابتسامة على وجه فاطمة فأفلتت ساق والدتها وخطفت قطعة القماش من يد أحمد قبل أن يغير رأيه كدأبه معها ثم ما لبثت أن أستدارت لتغدق على أمها من فرحتها وهي تقول لها:
“يُمَّة هاي إلي مو”**********
سحبت الأم يد ولَّديها نحوها لغيبوا في عناقٍ طويل
لم يفهم أحمد لم كل هذا الحزن الأ يجدر بوالدته أن تفرح وهي تراه وقد أغتسل وتعطر ولف ذلك القماش على جسده كما الرداء
ثم راحت الأم تمتم “أسم الله عليكم يُمَّة ..يومي قبل يومكم أن شاء الله ”
ثم رفعت عينيها الى السما ء وقالت “حسبي الله نعم الوكيل”
نظر أحمد الى عيني والدته وعلى شفتيه أبتسامة آسية وقال لها محاولاً وضع نهاية لهذه الدموع:
“يُمَّة ..حلوة هاذي الهدوم ..آني حبيته لا تبكي ..بس سويلي جيوب بيها حتى أحط بيها عيدتي”***********
ما كان من الأب الأ أن فر من الخيمة فقد ذوت روحه وجفت دموعه وشرع يهذي ألمه الذي لم يعد يطيقه وهو يردد مع نفسه:
“عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيك تجديد”
لم يدرك أحمد أن الكفن لا يجب ان تكون له جيوب مثلما لا يجب أن يكون بداخله أجساد عبقة برذاذ من عطر ذلك الشيء الذي يطلق عليه في العراق أسم “حياة!”
يومها سالت دموع العراق نهرين حفرا طريقهما من زاخو الى البصرة.. من أجل أشباه الأحياء البالية الذين غدوا يرتدون عنوة أجساد معفرة بحب عقيم لحياة لاتجزع من أنتهاز أي فرصة لترتدي رداء الموت وكأنه الجائزة الكبرى في سباقٍ وجدوا (أشباه الأحياء) أنفسهم داخل مضماره رغماً عنهم تتخبطهم الحيرة في نوع طقوس الفوز التي يجدر بهم أن يُحيوها، فألف الأبجدية للحياة والموت باتت هي ذاتها قطعة قماش بيضاء لا جيوب فيها.
………………………………………………………………………………………
اللغة المستخدمة في الحوار هي اللغة العراقية العامية التي يستخدمها أهل مدينة الموصل وهي تختلف قليلا عن اللغة العامية العراقية
*يُمَّة:أمي /شفتو:رأيته /هيانو:هذا هو /الهدوم:الملابس.
**هدومك:ملابسك /غاحت:ضاعت /كلشي:كل شيء/ نِحْنا:نحن /ماعدنا:ليس لدينا.
*** مَّعْلَّية:ليس من شأني /أغيد:أريد.
****باجر:غداً / ماتك:التي تملكها /مو هسة:ليس الآن /وأشوقت:متى ما.
*****ما عندي:ليس لدي.
******هاي عيدتك/هذه هديتك في العيد.
******* أَشْنُو أشصار:ماذا حدث.
******** ماكو:ليس هنا.
********* كْثِيغ:كثير.
**********هاي إلي مو:هذه لي أليس كذلك.
***********سويلي:أعملي لي.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى