( أديرا)
للكاتب المصري يوسف حسين
الهاتف 01099727510
هو اسم لفتاة من أصل يهودي، يُعني ” المرأة القوية”، فهو أحد الأسماء الغربية النادرة جدًا التي تُطلق على الإناث، وصاحبة هذا الاسم فريدة فهي ذات شخصية قيادية وإدارية ناجحة، تتمتّع بالقدرة على تسيير الأمور بفضل قوة شخصيتها وحكمتها، لم تَكُن مجرّد أنثى عابرة في تاريخ اليهود، بل كانَتْ بطلة لهم، بطلةً حفرها التاريخ في عقولهم بحبرٍ من ذهبٍ خالص، فهي عبَرتْ بتاريخهم إلى أرض الكنانة، توغّلتْ فيها، وغاصتْ بكل كيانها في مجدها العريق، لم يجرؤ أحد أن ينعتها بالفتاة المصرية، رغم استيطانها فيها وعشقها لها، بل وأُمنيّتها التي تمثّلت في أن تُنسب لها، فهي لم تكن لتمانع يومًا نسبتها لمصر ولا لأهلها، اللهمّ إلا في بداية مجيئها لها، حيثُ كانت لا تزال على فطرتها التي جبلتْ عليها، بدتْ كالقطة المغمضة العينين مثلما يُقال، لا تدري شيئًا، ولا تعلم الكثير عن أمور دنياها، لا شيء يكمن في ذاكرتها سوى بضعة كلمات طفيفة تُضخّ في أُذنيها منذُ نعومة أظفارها، مثلما تبثّ الأفعى سُمها في جسد صحيح، ليستْ وحدها فقط من نشأت تلك النشأة ولا هُيِّئتْ تلكَ التهيئة، بل جميع من رُبينَ معها من الفتيات، لا بُدّ وأن تُتلى عليهِنَّ كلمات يُقدّسها أباءهم وأجدادهم، أحاديث الإفكِ الباطلة التي كانوا يختلقونها، وحكايات الافتراء الواهية التي كانوا يبتكرونها لكي يرضوا ذواتهم المغرورة، لكي يتفاخروا أمام العالم بعظمة ليستْ حقًا لهم، لكي يرفعوا رؤوسهم بشموخٍ سارقيه من أسيادهم، لكي يتجبّروا في الأرض بجيلٍ ظالم كظلمهم لأنفسهم، وسحقهم لمعتقداتهم المُحرّفة كتحريف أنبائهم، أما عن الأولاد فهم ليسوا بحاجة لذاكَ السقم الذي يُضخ عبر قنوات الأذن ليبلغ صمامات القلب ويتراكم كصدأ على البطين الأيمن قبل أن يطبق على الأنفاس ويقبض الأرواح، لم يكونوا بحاجة لذلك ألبته لأنهم وُلدوا وداخلهم يعجّ بالكراهية لكل من يحمل شعار العروبة، مذكرًا كان أم مؤنثًا حتى الخنثى لا يسلم من كراهيتهم فأخيرًا يحمل دم العربي وإن كانوا يختلفون في تصنيفه إلى أي فئة يُنسب ذكر أم أنثى؟؛ جاءت وهي تحمل معها كل خزعبلات عائلتها وعائلاتهم وأجدادها، وأسلافها، وكل من تعرفه ويعرفها أو يمتّ لها بصِلة قريبة كانتْ أم بعيدة، حاملة بداخلة كومًا من الدرن مع الكثير من الوساوس التي التفّت حول عقلها كالحصن المنيع، تحذرها في كل لحظة قائلة:
_”هذا عدوكِ”
في الآونة التي تقرّر فيها الاقتراب من أحدهم، الاقتراب من مغتصب أرضها مثلما لقّموها منذ الصغر، وعلّموها، حيث أورثوها معتقدهم الفاسد وأخبروها بأنه الحقيقة التي لا مفرّ منها، لتدفعها الصدفة لاكتشاف الأمر بنفسها من كثب، من القرب القريب مثلما يُقال، ترى عيناها ما لم ترهُ يومًا ليس بفعل الغفلة بل بفعل العمى الوراثي، عمى توارثته وسيتوارثه أجيالٍ عديدة بعدها، لتدفعها الصُدفة للرؤية من جديد لا سيّما مع ظهور بطل من أسود الجيش المصري الشجعان، كان يُدعى ” مصطفى”، الشاب الغامض من وجهة نظرها، فهو كل تصرفاته مبهمةً وتسوقها للجنون، لتبدأ معه أولى أحاديثها بالتحدث عن الحقّ الشرعي لها ولأسلافها في أرض الكنانة، بينما ينتصب هو في وقفته ويخبرها بكل ثقة:
_” ليستْ أرضكم، ليستْ حقكم، نهبتموها، واغتصبتموها عنوة، وحان يوم استردادها، وإن لم تعترفوا بأحقيتنا بها، يكفي أنّ العالم كله يعترف بذلكَ”.
توقّفت كثيرًا أمام كلماته، وراعها صموده أمام جمالها الأخّاذ لا سيّما أن جميع من يراها من الرجال يُفتن بها، وتستحوذ على لُبّه في أقل من ثانية، لم تكُن بالأنثى الساذجة مثل كافّة الفتيات، فعقلها كان يمثّل أثمن صفاتها، هي كنزٌ لمن يعرفها، قادرة على انتشاله وانتشال ذاتها من أي مُعضِلة، لذا لم يكن من السهل عليها الاستسلام، فذهبت في يومها ذاكَ على أن تعود له في يومٍ آخر وتحاول إغراءه بحيلها الأنثوية فهي تبدو في دلالها كالأفعى لا يدري ناظرها متى ستلتهمه، كل ما يراه أمامه جسدًا يتحرّك برقّة يُغري كل عَطِش ليروي ظمأه، انتظرته لحين عودته من العمل وذهبت خلفه، لتفاجِئه بوجودها أمام شقته، ولا زال هو ثابتًا على موقفه منها، لا ينظر لها، وكيف ذاكَ وقد سألها قبلًا عما يعنيه اسمها اليهودي؛ ذاكَ الاسم الذي يمقته ويمقُت بعده كل شيء يمتّ لإسرائيل بصلة، لكنها لم تأبَ أن تقحم نفسها داخل حياته بعنفوانيه، امتثلت أمامه وأبت أن تغادر، فتركها لوهلة وذهب للوضوء كي يؤدي فرضه، ثمّ عاد ليتلو صلاته أمامها، ولا زالت في غفلة مما يحدث أمامها، الدهشة تسيطر عليها، خصوصًا حينما سمعت صوت تلاوته العذبة يجلجل في أذنيها ليحرّك سواكنها، ويتغلغل داخل نفسها، لم تدرِ ما حدث لها، ولم تعِ أنها البداية وما بعدها أعمق كثيرًا، لتبدأ بعقد مقارنة بينه وبين الرجال من بني جنسها، فيخبرها عقلها:
_” عفوًا، هو ليس بشرًا، ليس كمثلهم، رجالكم يزنون في وضح النهار، يزنون حتى مع أخواتهم، بل ويسرقون وهم متيقنون أن ما يفعلونه حقٌ لهم”.
ثمّ تدعوها الجرأة لتفتّش أغراضه، لتعرف مكنونه، وما يعتمل بصدر ذاكَ الغامض، فتأخذها الصدمة لرؤية صور أخرى في مقتنياته، وفجأة يراها وبيدها أشياءه الثمينة، ما عزلته عن المجتمع وعن كل نساء العالم، لتسأله عنها بشجا، فيجيب سؤالها بحزن أكبر، بدا معه كجريح التأمت جراحه توًا ولم يبقَ منها سوى ثقبٍ صغير ما إن تحرّك حركة طفيفة حتى توسّع الثقب وتفتّحت كل الجراح التي كانت قد اندملَت من جديد، ليخبرها بعُمق نفس:
_” كانت زوجتي التي قتلتموها”
تراجعت للخلف قبل أن ترتطم بجدار غرفته الذي احتضنها من السقوط، وهي تسأله:
–” نحن؟، كيف؟”
في حين أوضح لها وسرد قصته كاملة مع زوجته والقناص الذي كان يود قتله، أعلمها أن زوجته افتدته بنفسها فور أن انتبهت للقناص، رحلت هي وجنينها الذي لم يرهُ لأنها اختارت لأبيه الحياة، لم تحتمل ما تسمعه أذنيها خاصة وهو يقول:
_” لي ثأرٌ أود أن آخذه من أبناء جيلكِ”
تضامنت معه، ورثت لحاله، ثم أعربت عن أسفها لما فعله أبناء جيلها تجاهه وتجاه شعبه من مآسٍ، ومن ثمّ طلبت منه أن يعلمها ما كان يتلوه أمامها، فأخبرها بأنها آيات الذكر الحكيم لا يتلوها إلا من كان مؤمنًا خالصًا، فسألته بتلقائية:
_” كيف السبيل إلى ذلكَ”
لم يُعرض عنها بل أشار لها تجاه الحمام، وأخبرها بوجوب الطهارة ونطق الشهادتين، ففعلتْ، مضى عليهما وقتٌ ليس بهيّن لتجده كل يومٍ يتربّع على عرش قلبها وتزداد مكانته يومًا عن يوم، وهو الآخر يتملّكه الشعور ذاته، ليجدها أصبحت نفسًا من أنفاسه، نفسًا يدخل مع كل جرعة ألم تدلف إليه، يدخل ليداوي ما عاثه الكرب في داخله، بادرته هي بحبها وأفصح هو عن رغبته بها لكن كزوجة أحلّها الله، ولن يحدث هذا قبل أن يأخذ بثأره من قتلة زوجته، وافقته على ما يقول، وامتنعت بينها وبين ذاتها عن تأدية ذاكَ العمل الذي كانت تؤديه قبلًا، لا لشيء سوى للحفاظ على النقطة الطاهرة الوحيدة بداخلها وهي حبها لمصطفى، لكن هيهات فليس كل ما يشتهيه المرء يُلبّى، احترق من كانت تمتنع عن بيع جسدها لأجله أمام عينيها ولم تستطع شيئًا، فقط الدموع انسابت كشلال نهر، وعادت تمتّع زبائن حانتها مثلما كانت تفعل، لكنها تلك المرة تفعله بدافع الانتقام من قتلته، لا بدافع العمل ولقمة العيش، لذا أقسمت أن تستدرج كل من له علاقة بمقتله سواء من قريب أم من بعيد، فبدأت بصاحب الحانة، ثم صبيه، ولم تقف عندهما بل أكملت مسيرتها مرورًا بكل يهودي يعيش بمصر، وبداخلها نارٌ تلتهب، كلما أراقت دماء أحدهم طالبتها نيرانها بالمزيد كي تخمد، كانت تقتلهم لتفضّ ثورة أُضرمت داخلها ولا تدري لإخمادها سبيلًا آخر سوى الانتقام، مثلها في ذلك مثل قواعد اللغة العربية خاصةً تلك القاعدة التي تبيح للمفعول أن ينتصب رغم مجيئه في النهاية حتى يأخذ حقه من الفاعل به، لم يكن من السهل على أنثى أن تتجرّد من أنوثتها، وأن تُلقي بطبيعتها الرقيقة كامرأة في بحر تتلاطم فيه أمواج الكره وتلتهم كل ابتهاج، لكنه الظلم، القهر، الغدر، الأسيّة؛ كل هؤلاء حينما يجتمعون يمكنهم أن يُجرّدوا الرتقاء من جلدها، وأن يُعرّوا الطاغي من كسوته، وأن يفتكوا بالقاتل في عقر داره، كل هؤلاء عندما يتلاحمون معًا يمكنهم أن يكوّنوا عُصبة تفتكُ بكل من يقترب، يمكنهم أن يصنعوا ثورة عارمة من العدالة تلقف الظلم وصانعيه، التقت بآخر يشبه مصطفى، يُدعى ” عبد الله فرغلي” حيث كان عقيدًا في الجيش المصري، حاول أن يتقرب منها، فتقرّبت منه كصديق علّها تجد فيه ضالتها التي فقدتها، لكن خابت كل ظنونها فمن مات لا يعود مثلما الأمس الذي ذهب سريعًا دون أن ندركه فيا ليتنا أدركناه لأنه لن يعود يومًا، لم يكن كحبيبها ألبته، لم يناقشها في أي شيء يخص دويلتها، فهو لم يغضبه اسمها، ولا توقّف عند جنسيتها أو ديانتها مثلما فعل قرّة عينيها، بل لم يمانع أن يلقي نظرة على فتنتها وجسدها المبارز كسيف شجاع في معركة أقسم أن يكسبها، وبعد طول حديث جمعهما لقاءً ثانيًا، طلب فيها منها أن تمتعه مثلما تمتّع زبائنها، حاولت التمنّع والإباء، لكنه كان كالزئبق الكثيف، ظلّ ماثلًا أمامها، يأبى التحرك، ولا يرضى بالهزيمة، ملاصقًا لها أينما ذهبت كالطيف السمج لرجلٍ عنيد، لم يتركها وهواها، وحتى يطمئنها أخبرها بسرّه الكبير أنه يدين بولائه لدولتها، فوضعته في مقدّمة قائمتها المُسماة” الانتقام”، قُتل هو ضربًا بالرصاص، وعُوقبت هي بالإعدام شنقًا في سجون أرض الكنانة، كُتبت مجرمة وقاتلة في سجلات تاريخ كتبه عُصبة من رجال لم يتحروا صدق نواياها، في حين بجلها الإسرائيليون على أنها بطلة حملَت تاريخهم ودافعت عن مجدهم وحدها في المحروسة، ظُلمت مرتين ورغم ذلك قابلت الموت بابتسامة، عانقته مثلما تعانق أباها، وكم من مظلومٍ أهلكه الظلم ولم يبالِ إلا برضى خالقه، وكم من ظالم تجبّر وتعنّت ولا يبالِ إلا بشموخه، فهل من ناصف؟…
اقتباسات
سارت معهم بخًطى ثابتة حتى تجاوزوا الطرقة الطويلة قبل وصولهم إلى غرفة الإعدام وعندما وصلوا إلى هناك سبقتهم هي بخطواتها داخل الغرفة لم يدخل معها سوى الضابط الممسك بها والباقيين ظلوا في الخارج، يرمقونها بنظرات التعجب ..تفحصت الغرفة بعينيها، فهي حجرة متطرفة على اليمين لا تتميز عن باقي حجرات السجن سوى بالكلمة المكتوبة عليها “غرفة الإعدام” الكتابة كانت باللون الأحمر، لون الدم، وكأنها تشير إلى أن هذه الغرفة لا تعرف سوى هذا اللون ، كما أنها كانت ترتدي زيًا مماثلا كي يذكرها بدماء ضحاياها. ثبتت عينيها على الكلمة المكتوبة التي أجادت نطقها بالعربية ثم قالت بصوت مسموع:
-لستِ غرفة إعدامٍ، بل أنتِ معبر سأعبره كي ألحق بالنور الذي تخلفت عنه منذ سنوات …
………………………………………………….
-أديرا، أنِت الفتاة الوحيدة التي ولدت في هذا الكون مبتسمةً لا أعلم السر في هذا، لكنها مشيئة الرب، كل ما أعلمه أنه سيكون لك شأن عظيم مثل والدة موسى أو أخته، عزيزتي الكون يبتسم من خلالك والرب يعلن عن سروره في مبسمك، والتوراة تباركك..
مشهد مر من أمام عينيها فشهقت شهقة مرعبة عندما تحول وجه أمها الخمري إلى نار ملتهبة ثم تغير لونها هي ومال إلى الاصفرار كليمونة ذابلة
………………………………………………….
إنها الآن ترتعد بشدة يعتصر قلبها ألم كلما مر أمامها جزء من حياتها، غيمة حضرتها على هيئة بشر أمطرتها رحمة وغفران، ضابط مصري في الثلاثينيات من عمره، شعره أسود قصير، عينيه بنيتين تميلان إلى اللون العسلي، أرنبة أنفه سواك صغير، وشفتيه لوحة مرسومة بعناية، قوي البنيان مديد القامة ..لمحته يمر من أمام منزلها، لم يمر بسلام بل خطف قلبها معه وسار به حتى أنها تخلت عن موضعها وتحركت خلفه، خطوات بسيطة ودلف داخل بناية، لم تستطع أن تتحمل اختفاءه هرولت خلفه واستوقفته بصوتها فوق الدرجات الأولى :
-يا أنت …
التفت إليها فحدقته بذهول عندما باتت ملامحه أكثر وضوحا لها ثم همست في نفسها :
خطوة بيني وبين النور ويدي عن لمسه عاجزة ..
أخرجها من شرودها حين قال :
-من ؟..
تخلت عن خجلها الذي لم تعرفه من قبل إلا حين رأته وقالت :
-أريد المبيت معك الليلة..
………………………………………………….
دفنت بصرها أسفل قدميها دون حديث ثم بدأت بهز رأسها خجلًا،
فرغم حبها الشديد لبني جنسها ودفاعها المستميت سالفًا عن حقهم في أرض سيناء إلا أنها لأول مرة تومئ برأسها عدة مرات دليلًا على اقتناعها بتعدي أهلها على حقوق غيرهم، عندما تيقن أنها اقتنعت بما قاله تنفس بارتياحيه وبدأ ينظر إليها، استشف البراءة من عينيها فظل يحدق فيهما، اجتمعت النظرات معًا في صدفة غريبة، ارتجف قلبه، شعر بانجذاب غريب نحوها.. إنها المخاطرة حقًا؛ الحرب الباردة التي قد يقعا أسيرين فيها، كان يود كل واحد منهما أن تخرج كلمة منه.
………………………………………………….
دق قلبها دقات غريبة، شعرت حينها أن حديثه ما هو إلا لأجل بقائها بعض الوقت معه، كذلك نبرة صوته التي مالت إلى الحنو فازداد شعورها بالسعادة، سعادة لم تشعر بها من قبل، أيقنت حينها أن كلمة واحدة تخرج من شفاه محبوب خير من ألف علاقة جسدية مع غريب، ظلّت تحدث نفسها وهو يتأمل ملامحها، لا يعرف لما يريد أن يبقيها معه، لكنه لأول مرة يشعر بشيء غير معتاد تجاه أنثى بعد وفاة زوجته، عيناها تسحره وخصلات شعرها تستهويه، وشفاهها يخرج الشهد منهما على هيئة كلمات، لكن ملابسها تجعل بدنه يقشعر، فهو لا يهوى الحلوى المكشوفة، ولا يتناول طعامًا وضع أحدٌ فمه عليه قبل أن يطهره، عزيز النفس يأبى أن ينظر لحاجة غيره، الصمت نام على شفاه كليهما والجوارح أصبحت تجادل وتناقش مشاعرهما،
………………………………………………….
ليلة كانت الأطول على الإطلاق في حياتها، أتى الصباح ولازالت في سريرها تستعيد حديثها معه، ينقبض قلبها عند مشهد دموعه التي لا تعرف سببًا لها، ثم تبتسم عندما تتذكر سؤاله عن اسمها وكذلك تلهفه لمعرفة مضمونه، ودَّت لو ينقضي النهار مقابل نصف عمرها الذي تبقى حتى يأتي الليل وتنتظره في نفس المكان الذي مر فيه من أمامها، تنهدت بطمأنينة عندما تردد صوت تلاوته للقرآن الكريم في آذانها، قالت لنفسها :
-شريفٌ عفيفٌ مثل هذا لا يعتنق إلا حقًا، من علمه، من جعله زاهدًا في جسد انحنت له أعناق الرجال!…
………………………………………………….
ما إن لمحت طيفه آتٍ من بعيد حتى اختبأت منه، وعندما تجاوزها في السير تحركت خلفه، ما إن صعد درج البناية حتى شعر بحركة جسد غريب يسير خلفه، التفت فرآها فأرغمه قلبه على الابتسام لها ثم تابع الصعود وصولًا إلى شقته، دلف داخلها ثم ترك الباب مفتوحًا، دلفت هي الأخرى ثم قالت :
-هل لي بسؤال؟
جلس على المقعد وأشار لها بالجلوس ثم أذن لها بالحديث فقالت:
-من صاحبة الرسالة التي كانت بجوار فراشك؟
اغرورقت عيناه بالدموع ثم أجاب بحزن:
-كانت لزوجتي…
تابعت بسؤال أخر :
-أين هي؟
-قتلتِها..
………………………………………………….
انتهت الليلة وتنفس الصبح وعادت “أديرا” إلى مسكنها، كانت تنظر لجسدها في المرآة بتقزز، كرهت ملامحها وأنوثتها وتمنت لو تزول مفاتنها وتصبح دون جاذبية كي تضمن نقاءها الذي حصلت عليه عندما اغتسلت بماء الإسلام، ورويت من آيات الرحمن حتى تشبع جسدها وقلبها من بركاته، ونما الحب داخل قلبها، نبته صالحة لها أصل وجذع غير شيطانية، لامست بروحها السعادة الحقيقية وبدا عملها الشيء الوحيد الذي يفسد عليها راحتها ويؤرقها، بل وربما يقتلع النبتة الجميلة من جذور قلبها ويترك أرضه بورًا لا تصلح للحياة بعده، أرهقها التفكير فارتمت فوق فراشها، تحايلت على النوم كثيرًا حتى أتاها، راحت في سباتها بعد أن منت نفسها برؤيته مساءً
………………………………………………….
وقفت ثم تمطت بذراعيها وتحسست بقدميها الأرض بحثًا عن حذائها، عثرت على اليسرى ثم تابعت البحث عن اليمنى، تذكرت أنها أزاحتها بقدمها أسفل السرير، تأففت ثم انحنت بقامتها ومدت ذراعها كي تلتقطها لكنها لم تعثر عليها، تعمقت ببصرها فاتسعت مقلتاها في صدمة واضحة حين رأت بئرًا أسفل فراشها، اعتدلت وزحزحت السرير عن موضعه ثم نظرت داخل البئر وقالت بذهول:
-يا إلهي ما هذا بئر أم خندق!؟…..
………………………………………………….
بدلت ملابسها ثم بللت وجهها بالمياه، وخرجت من المنزل، وقفت أمامه تنظر لمنزل حبيبها ثم استدعت إجابة سؤاله واستوقفتها على شفتيها فتحركت ببطء نحو مسكنه، لمحت “جوزيف” عامل الحانة يخرج من البناية وهو يتلفت خلفه كلص مبتدئ، أخذتها الدهشة قليلًا ثم مضت قدمًا في طريقها دون أن تلتفت إليه، حينما رآها انقبض قلبه وارتجفت أعضاؤه ثم أدار وجهه بعيدًا عنها كي لا تلمحه، وعندما تجاوزته بخطواتها، ركض مهرولًا في الطريق المؤدي إلى الحانة، استغربت ركضه بل وارتجف قلبها بشدة، شعرت بقلق شديد على مصطفى،
………………………………………………….
هي الأخرى لم تتلعثم كانت المخارج حازمة واثقة، تنهدتْ بصمتٍ موجعٍ، هشَّم في المرآة آخر أمالها، حين فتحت عينيها وحدقت في مرآتها واصطدمت بواقعها المرير..
من يومها عرفت، كيف هو شعور خرقة بالية، على ألواح فزَّاعة مغلولة أنفاسها، توهم الغربان بخلقٍ ممزقة،
وجسدٍ مصلوب يقف على حافة الهاوية، في منتصف الظهيرة يذود عن سنابل القمح، لصوص الحقل الجائعة ..لصوص ظنتهم يومًا ما على حق، يعرفون كيف يدافعون عن وطنهم، أرضهم ودينهم، لكنها كانت واهمة لا تعرف أنهم يتسللون بوقاحة ليسرقوا أحلام الأبرياء ودمائهم، فزت بجسدها ونهضت كأنها كانت تصطنع المرض، وقفت أمام مرآتها بتحدي وكبرياء، قتلت حزنها بخنجر عزيمتها المسموم ثم مسحت براحتها دماءه التي سالت من عينيها، ثم زأرت كما تزأر الأسود وقالت:
-لدي هدفين سأحققهما، بل ثلاث، لن أبرح حتى أبلغ مجمع أرواحهم النجسة، هدفين كانا هما حلمين لفقيدي والثالث ثأرًا لي منهم …
………………………………………………….
أغمضهما دون حديث فتركت رقبته وتحركت نحو الدرج الموضوع بجوار سريرها ،فتحته وأخرجت منه سكينًا ثم توجهت نحوه، احتضنته من الخلف ووضعت السكين على رقبته، حينها شعر بشيء باردًا، فتح عينيه في فزع، كانت هي قد أحكمت قبضتها عليه ثم سحبت السكين دون رحمه فانسل الدم من عنقه، ذبحته كما يفعل الجزار في ضحيته، تهاوى الجسد أرضًا، ثم اصطبرت عليه حتى فارقته الروح، أمسكته من قدميه وجرته خلفها كمن يجر بهيمة إلى البئر، ثم ألقت به داخلها
………………………………………………….
لم يتمالك أعصابه، وكذلك لسانه لم يتفوه بحرف واحد ليسألها أو يحدثها بل ظل ينظر إليها بشهوانية، فانتهزت هي الفرصة واقتربت منه حتى لفحت وجهه بأنفاسها الحارة وهى تقول بحنو:
-انهض وأنجِز عملك ،هذا الصباح لي ولك …
قالت جملتها وتنحت جانبًا فنهض بخمول كما المخمور ثم خرج من المكتب فعادت تجلس على الكرسي كما كانت ثم فتحت درج المكتب فرأت داخله مسدسًا، أخذته ووضعته في حقيبتها ثم نهضت عن مقعدها وبيدها الحقيبة، فتحت ثلاجة الخمور وأخذت زجاجة، وضعتها داخل الحقيبة وتحركت نحو الخارج، قضت ليلتها وما إن نوت على الرحيل حتى نادت على “جوزيف” حضر إليها على الفور فهمست في أذنيه قائلة:
-لا تتأخر، هذا الصباح ستدخل بجسدك الجنة …
………………………………………………….
وغفيت، أتى المساء وكعادتها توجهت إلى العمل تأففت حين رأته يجلس على نفس المقعد ثم تجاهلته وتوجهت نحو المكتب، مكثت داخله حتى انقضى الليل وعند خروجها من المحل وجدته يقف عند الباب ينتظرها، نظراته كانت تأكلها وشفتاه تعلنا عن نيتهما في التهام جسدها وما أخفته الملابس أظهرته الملامح، كل شيء فيه يريدها وبقوة، تجاهلته بعد أن استشفت مكنونه لكنه اعترض طريقها ثم تساءل:
-لماذا تهربين مني؟
نظرت إليه باستياء ثم أجابت :
نحن أعداء، أنت مصري وأنا….
قاطعها قائلًا :
-سأخبرك سرًا لكن بشرط…
أخذها فضولها إلى سؤاله عن شرطه فأجاب:
-سأخبرك سرًا ينهي العداء بيننا شريطة أن أخبرك إياه وأنتِ في أحضاني …