ط
مسابقة القصة القصيرة

أعيدوا لى ملامحه . مسابقة القصة القصيرة بقلم / سهير بن منصور من الجزائر


اعيدوا لي ملامحه

أمي سأبحث عن غربة تليق بمقاس أحلامي ، حتى وإن كانت النهاية باهظة الثمن ، فهذا الوطن المكتنز بالزيف قد تبرأ من ملامحي ، وتنكر لخطواتي ، لا ثراه يدعمني ولا سماؤه تواسيني ، لا شيء فيه يربت على كتف أحلامي ويبقيني ، ارفض رائحة أنفاس واقعه ويرفضني ، هذا الذي لا ينفك يريق دم سنيني ، ويهرق دمع عمري المثخن باللاشئ .فكان الزاميا علي أن أجمع شتاتي وخيباتي ، وأحلامي البكر قبل ان يغتصبها الفقر ويفقأ عينيها ، وان امتطي صهوة الرحيل ، أن أغادر هذا الوطن قبل أن يغادرني …..
سأعود لاصطحابك يوم تشرق شمس الحظ في غياهب عمري ، وتفتح لي الحياة ذراعيها لاحتضان يتمي ، وخوفي ، وضياعي . سجم الدمع من مقلتيه وهو يخط أخر كلماته قبل أن يتوارى في جلابيب الغياب ، ختم رسالته بعبرات قلبه المكلوم ، تبللت تلك الحروف التي رسمها بمداد وجعه فبدت باهتة حزينة هي الاخرى .

في غرفة يلفها الصمت والسكون ،كانت أمه تنام كما الأطفال متوسدة حنينها لزوجها الراحل تسللت إليها أشعة الشمس عبر تلك النافذة المواربة ، ففتحت عينيها ببطء شديد ، وراحت تفركهما بأصابعها في محاولة منها لإزاحة تلك الغشاوة التي حجبت الرؤية عنها .تذكرت لحظتها فلذة كبدها عمر ، فهرولت إليه حافية القدمين ، لتوقظه كما اقتضت العادة ، امتدت يدها المتغضنة الى خصر الباب ، أدارت المفتاح مرة فانفتح ، دلفت الغرفة مستعجلة لكنها فوجئت بما رأته ، كان السرير مرتبا بدقة وعناية ، وفوقه للأعلى وسادة مطرزة بالدموع ، جدران الغرفة غارقة في الصمت والكآبة ، خيم الحزن على ارجائها ، اقتربت الحاجة فاطمة من طاولة ابنها وهي تترنح على شظايا الوجل بخطوات وئيدة ، توقفت هنيهة ازدردت ريقها وراحت تجول بعينيها في كل ركن من أركان تلك الغرفة ، شعرت بالدوار وباختناق فتوكأت بيديها على تلك الطاولة ، وقع بصرها لحظتها على ذاك الظرف المتروك على سطحها ، فهاجمها وابل من الهواجس المقيتة ، ووقعت بين أنياب التكهنات فافترستها الظنون . تناثرت مشاعرها على أرصفة التيه والأسى ، شعرت لحظتها برهبة منذرة بالسوء ، فشحبت ملامحها واكفهرت ، تكدرت سماؤها بغيوم الحزن فاستسلمت لبكاء مرير ، تمتمت بعدة كلمات ثم انحنت وتلقفت تلك الرسالة بخوف ،وشرعت في فتحها بيد مرتجفة .

تيك ، تيك ، تيك . لم تعد تسمع سوى صوت عقارب الساعة وهي تواسيها ، كأنها اطلعت على مصابها ،تحجرت في مكانها كجبل جليدي ، فيما زحفت الخيبة بصقيعها لتطوق أمومتها بدمعة خذلان ، فلم تجد مهربا من سطوة ذاك الألم إلا بمها تفة شقيقها سعد ، لتطلب منه يد العون ، كان صوتها الشبه الغائب مختنقا بالبكاء وهي تطلب من اخيها في الحاح أن يعثر لها عن إبنها ، ويعيده من جب الضياع لموانئ الوعي والصواب ………أرجوك أعده لي ،اعده ….لم يبق لي غيره .

في غمرة الذهول والهلع وانقطاع حبل الرجاء ، وانحراف الأيام الرتيبة عن مسارها ، تفر من ضجيج أفكارها وعتمة هواجسها إلى غرفتها ، لتتهاوى كحبات اللؤلؤ المطحون على سريرها ، عانقت صورته بلهفة وبقيت مستلقية على حواف الوجع ،ملتحفة ملامحه ، تتململ بجسدها النحيف الواهن ، والقلق يطرق نوافذ أمومتها بأصابع برده ، أشاحت بنظرها إلى الساعة المعلقة من جيدها على الجدار المقابل لها ، التمظت بشفتيها ، ونزفت في سرها غصات حارقة ، وبقيت تراقب الوقت بعينين جاحظتين معلقتين من أهدابهما على مشجب الانتظار ، حدقت مطولا في النتوءات التي تزين إطار الساعة ، وراحت تلهج بالدعاء : فلتعده إلي يا إلهي ، لا تدع البحر يسرقه مني ، أعده سالما لتقر عيني برؤيته وتهدأ أمواج خوفي المتلاطمة ، وهي شاردة بذهنها بعيدا حيث اللامكان ، تناهى إليها صوت هاتفها وهو يرن ، فوثبت من مكانها و أمسكته باضطراب ، وراحت تتحدث مع اخيها المتصل وتمطره بوابل من الاسئلة : هل عثرتم عليه ؟ كيف هو ؟ قل أنه بخير .

يصمت المتصل لبرهة ثم يجيبها بنبرة حزن : غرق …عمر غرق .دوت صرختها في الغرفة فاخترقت جدرانها ، تكومت على وجعها وهي تحاول فهم ما تناهى إلى مسامعها :لا . ماذا تعني بقولك هذا ؟ ابني أنا لن يغرق . هو وعدني بالعودة ، ابني لن ينكث بوعده لي ، لم يفعلها من قبل ، ابني لايكذب ، انا أصدقه ، هو قال أنه سيعود . بصوت يخنقه اللهاث رددت هذه الكلمات ثم وقعت أرضا جاثية على ركبتيها أمام هذا الفقد العاتي ، انبجست الدموع من مقلتيها الغائرتين لتنهمر كالشلال على وجهها المصفر .

صدى صوت امومتها يتردد داخل جدران قلبها وهي تكابد لواعج الفقد : أعيدوا لي ملامحه ،لا تتركوه وليمة للبحر ، أعيدوا لي ضحكته ،خطوته ، نبرة صوته ، قامته ، سمرته ، غمازتيه ، لون عينيه ، أعيدوا لي ملامحه ، فهو ما يزال في قلبي طفلا يحبو على نبضي ويتشبث بأطراف ثوبي …..أعيدوه لي .
الاسم : سهير
اللقب : بن منصور
البلد : الجزائر

نوع المشاركة : قصة قصيرة

إنهاء الدردشة
اكتب رسالة…

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى