ط
مقالات نقدية

أوطان يصدأ فيها المثقّف       بقلم –  غنيّة كبير –

غنية كبير

عندما نقول أوطان يتصدّأ فيها المثقّف ، سيتّجه تفكير أيّ قارئ إلى الدّول العربيّة ، تلك الأمم التي غدى فيها لقب “مثقّف” يحيل إلى الإنسان البالي المتقادم، ويوحي بالفقر والتهميش والاضطهاد والإقصاء، تلك هي بلداننا التي تحتفي بمغنيات المؤخرات وتسمح لهنّ بأن يعبّرن بكلّ جرأة عن الانهيار الأخلاقي الذي وصلت إليه أممنا الإسلاميّة، بينما تقمع المثقّف وتصادر قلمه، ومعه تصادر حريّة التعبير والديمقراطية التي لا تسمح بها بلداننا إلا شعارات على لافتات الضّحك على البؤساء، لكنّ الواقع أن تلك الدّول لها كلّ طرق قصّ الأظافر إذا فكّر كاتب أن يتسلّق أسماء صنّاع القرار، ويخربش بخصوص الأنظمة.

لذلك وجد كتاب يموتون غدرا، وآخرون تعدم أقلامهم،  ويهرب معظمهم إلى المنافي… ولذلك وجدت بلدان عربيّة تخنق المثقف وأخرى تحاول أن تنعشه…

منذ سنوات عندما راحت وسائل الإعلام تهوّل أمر الأزمة الاقتصادية، كان أوّل قرار سمعته من بعض الزملاء – بحكم اهتماماتي – هو أنّ الدولة الجزائريّة قرّرت تخفيض نفقات الملتقيات والتظاهرات الثقافية، وفي وقت لم ألاحظ تراجع مستوى المهرجانات الغنائيّة ، صدمت بإلغاء معظم الملتقيات الأكاديمية التي كنت أحضرها بانتظام، وبعضها المتبقّي خفّفت ميزانيّته ربما إلى النصف أو أقلّ من ذلك، حتى صار المنظّمون يخجلون من الضيوف الأجانب الذين تعوّدوا على مستوى ضيافة يحفظ ماء الوجه للجهة المستضيفة، كانت تلك الملاحظات التي صدمت كثيرين من الوسط الثقافي، صفعة إضافيّة يتلقّاها المثقّف، بعدما حرم قبلها من نشر أعماله داخل بلده، أين يسيطر على النشر شلّة من الأدباء الذين يوجّهون الكتّاب لما يتناسب مع التوجّهات العامّة للدولة، وبما يتناسب مع مصالحهم الشخصية أيضا، إذ يسمحون لمن ينال رضاهم بالظهور في السّاحة الثقافية الجزائرية، بينما يرمون في سلّة المهملات بمخطوطات من يهدّد مكانتهم ومناصبهم التي تؤهّلهم إلى إجهاض أعمال أدبيّة ونقدية وفكريّة مهمّة ، فقط إرضاء لغرورهم ومراعاة لتواجدهم في الساحة الثقافية.

منذ سنوات ظهر اسمان لامعان في الأدب الجزائري ، الروائية فضيلة الفاروق وقبلها أحلام مستغانمي التي نالت جائزة نجيب محفوظ عن روايتها “ذاكرة الجسد”، وأنا أتساءل هل كان لفضيلة الفاروق أو أحلام أن تنجحا هذا النجاح ، لو لم تغادرا الجزائر باتجاه لبنان؟

فضيلة ملكمي التي غادرت الجزائر في العشرية السّوداء أين كان الإرهاب يفتك بكلّ شرائح المجتمع دون أن يفهم أحد من يقتل من ، ولماذا يقتل الأبرياء؟ في تلك الفترة العصيبة كانت تصرف الملايير على المغنيات اللواتي تجلبن لإقامة حفلات، حاول بعضهم من خلالها إيهام العالم بأن الجزائر بخير ، حينها كان الروائي الذي يكتب عن الإرهاب يصدر روايته على نفقاته الخاصّة دون أن تتكفّل الدولة بطباعتها.

ولا أحد ينسى كيف كانت وزيرة الثقافة السابقة” خليدة تومي” تقبّل الشّاب خالد في إحدى حفلاته في الجزائر، طبعا لأنه شرّفها بحضوره ، وهو المغني الذي أوصل الأغنية الجزائرية إلى العالمية بأغاني غير مفهومة سوّقت لها ضحكته المميّزة التي تفضح مستواه على جميع الأصعدة.

ولم تكن السيدة تومي لتفرح كلّ ذلك الفرح، بكاتب أو مفكّر حتى لو كان بدوره أوصل الإبداع والفكر الجزائري إلى العالميّة.

في المقابل عندما أتصفّح مجلّة دبيّ الثقافية التي أصبحت مجلّة المثقّف العربي الأولى اليوم ، أكثر ما يشدني هو رعاية حكام الإمارات لتلك التظاهرات الثقافية التي تقام بانتظام تشجيعا للكاتب والناقد معا، سواء كان إماراتيا أو عربيا مادام بلده الأم قد رمى به إلى زاوية الإهمال فراح يبحث عن نفسه خارج وطنه، وتلك المعارض التي يفتتحها الحاكم ويقضي فيها ساعات طويلة يوم الافتتاح ليطمئن بأن المعرض الذي يشرف عليه يقدّم دفعا إضافيا للتنمية الثقافية ببلده.

ولعلّ الاحتفاء بالثقافة قد أصبح واضحا للعيان ليس في دولة الإمارات فحسب بل في دول فرضت قوّتها على العالم ، سواء كانت قوّة سياسيّة أو عسكريّة أو اقتصاديّة .

فالصين التي حقّقت نجاحا اقتصاديّا أبهر العالم ووصلت منتوجاتها إلى كلّ المناطق النائيّة في العالم، لا تريد أن تعرف فقط بمنتوجاتها الرّخيصة، وهي البلد الذيّ شرّف بجائزة نوبل للآداب مرّتين.

فبعدما فاز كاتبها غوان مويه المعروف باسم مويان بجائزة نوبل للآداب لعام 2012م ، على أعمال يصف فيها بواقعيّة تاريخ بلاده المضطرب ، و تمسّكه بمسقط رأسه في شرق الصين ، ظهر للعالم انّ الصين أصبحت تهتمّ بالأدب أيضا لتظهر بزيّ جديد تزيّنه الثقافة والأدب.

والولايات المتحدة الأمريكيّة التي عرفت بقوّتها العسكريّة وسيطرتها على العالم، أصبحت تريد أن تكون كأمريكا اللاتينية .. لاتينيّة الروائيين ، فبعد صدور رواية ” شفرة دافتشي ” للرّوائي  ” دان براون ” اتّضح للعالم أنّها أصبحت تهتمّ بالكتّاب و بصناعة الكتاب أيضا .

هذه النماذج التي أثارت الانتباه مؤخّرا تؤكّد ضرورة التنمية الثقافية، لما لها من تكامليّة مع باقي وجوه الثقافة الإنسانيّة، لكن التنمية تحتاج إلى دعم الدولة والجهود الفردية ستظل عقيمة مادام صاحب القرار يسعى لأن يصنع فقط مثقف السلطة الذي يطبّل لفساده .

 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى