البرغش السعيد
انه موعدنا مع الكهرباء ، يا لفرحتنا الليلة !…
انه الموعد الذي انتظرناه ثلاثة ايام بلياليها بسبب إحتراق سعادة محّول الكهرباء في”الحي”…عانينا فيها شتى انواع القهر، رأيناالموت بشتى أشكاله والوانه…
“الدنيي تموز والمي عم تغلي بالكوز” والبرغش في هذا الوقت في قمة نشاطه وخصوبته وشهوته…مما حرمنا نعمة النوم ، رغم استخدامنا ما تيسّر من وسائل بدائيةلنتّقي شرّه ، حتى أصيبت أعصابنا وأجسادنا بالتلف.
بعد جهد جهيد ، وبعد “تبويس إيدين” أنعمت علينا شركة الكهربا بتصليح الأعطال”كتر خيرهم “…
بدأ العد العكسي ،عيوننا معلقة في الساعة ،ها نحن نتنفس الصعداء كلما انزاحت من كابوس ظلامنا دقيقة…الفرج يقترب وحلم النوم المريح يكاد يصبح حقيقة…سيتوقف عذاب ابنتي المريضة التي لا تحتمل صحتها هذا الجو الخانق ، سأستعيد بعض قواي الجسدية التي انهكها السهر المضني بجانبها .
تك ..!! وحضرت المحروسة “السيدة كهربا” .. بعد طول غياب”شعشعت” البيت بأطلالتها البهية وملأت عروقنا بالبهجة والسرور…ما اجمل حضورك بيننا يا “نور عيوننا وحشيشة قلوبنا انتي” .
عاد التيار ونفخ الحياة في شرايين البراد المحروم …عاد صوته الحنون “يوعدنا بشربة مي مسقعة تبوّرد الزلعوم”…رقص الطعام في الثلاجة فرحاً يعّزعليه ان يُرمى الى الحاوية كالذين سبقوه ، ولن يصبح “مرحوم”…
التلفون تعلق برقبة الشاحن وبدأ يملأ حنجرته التينشّفت من قلة الكلام … المروحة الصغيرة التي تعمل على “الشحن” بدأت “تغب” الكهرباء بشراهة استعداداً لأنعاشنا بأنفاسها الباردة لعدة ساعات في وقت التقنين اللعين .
البطارية التي تضيء لنا عدة “لمبات” أثناء غياب “السيدة كهرباء” كانت تعاني الجوع والعطش، بدأت بالتهام غذائها الكهربائي واختزانه في بطنها الكبير الذي يحتاج ساعات طويلة ليمتليء…
يا سلام “مين قدنا” المكيّف دار، فرحان “ومكيّف”…المروحة تفتل وتبرم برأسها شمالا ويميناّ ، طلوعاً ونزولاً ، وتوزع نسماتها المنعشة بغنج ودلال “مكنة البرغش” تصدرت مكانها في زاوية الغرفة بكل عظمة ،عينها الحمراء الصغيرة تقدح شرراّ وكأنها “حامي الحمى” عطرها الفتّاك ، المفضل لدينا في ايام الصيف يصول ويجولمانعاً اي برغشة ان “تبعط” من مكانها …
أصبح كل شيء جاهزاً للعبور بنا الى النعيم المنتظر،ما اجمل الشعور بالفرج بعد الضيق…الغرفة “مبوردة متل التلج”…ستحصل أبنتي التي هي من ذوي الأحتياجات الخاصة وتعاني من مرض “الربو” وضيق بالتنفسعلى قسط من النوم المريح… النوم السعيد بإنتظارنا بعد ليال من السهر مع البرغش والحر والقهر، إستهلكنا فيها كل ما لدينا من صبر وطاقة ،وكانت فرصة سعيدة تعرفنا من خلالها على السيد “صبر ايوب” الذي تنازل لنا عن لقبه وفرّ هارباً…
فجأة وانا في غمرة السعادة “نئزت” قفز تفكيري الىالمرضى والعجزة الذين ليس لديهم كهرباء في هذا الوقت الشديد الحرارة …ويختنقون من “الشوب” لا املك الا الدعاء لهم من اعماق قلبي الذي يعرف جيدا معنى هذه المعاناة …وتمنيت لهم ان تزورهم السيدة كهرباء من حيث لا ينتظرون .
استلقيت بجانب ابنتي لأحكي لها حكاية كما اعتادت قبل النوم ، نظرت إلي والبسمة الملائكية تغمر وجهها ، وكأنها تقول لي : “اشتقت لحكاياتك يا ماما”… ما كدت ابدأ بسرد الحكاية حتى امتدت يد سوداء خطفت الكلام من حنجرتي، وساد ظلام رهيب ،انها “السيدة كهرباء” سبقتنا الى النوم …
يا الهي ماذا حصل ؟!! لا بد انها تمازحنا…طبعاً ستعود…الى اين ذهبت ايتها الغالية !.. ارجوك عودي فعودتك هذه الليلة هي الحياة ، لا تقتلينا ايتها “الحنونة” كما قتل عمرنا من سلبوا حقوقنا ووطننا وتركوا لنا “فتات” كرامة مع إرث طائل من الذل…
لم تسمعني، ولم يرف لها جفن ضوء…وهل يسمع الميت !…الله يرحمك ، انسلخت من قلوبنا ،يا شوقنا لطلتك البهية… لنا من بعدك طول الفناء…
لا تخافي يا ابنتي الحكاية لم تنته ، سنترك لكم حكايات ذل كثيرة تروونها لاولادكم .
حملت خيبتي وما بقي من اعصابي المحترقة ، وقمت للبحث عن وسيلة للأضاءة ، وجدت نفسي اسبح بالعتمة ، ويا لها من سباحة فريدة وخاصة على ادراج البنايات، فدولتنا سبّاقة دائماً الى كل ما هو فريد ومميز في العالم …وليس بعيدا ان تُدرج هذه الرياضة على قائمة الالعاب الاولمبية …
تنقطع الكهربا فجأة،ولا يكون بجانبنا اية وسيلة للأضاءة ، فنضطر للغوصبالعتمة في رحلة خطرة بحثاً عن “فانوس سحري”فنلتطم هنا وهناك دون ان نشعر …وفي الصباح نجد جسدنا “موشماً” بالازرق والاصفر والاسود…
في هذه اللحظة السوداء تذكرت جدتي ، كانت علبة الكبريت لا تفارق جيبها “في حدا ما بيتذكر جيبة ستوا ومحتوياتها؟” كانت دائماً مستعدة لإي طاريء…
فجأة رأيت عينان تحدقان بي وسط العتمة، نقطتي ضوء مصوبة نحوي ، يا للرعب وكأنه وجه جدتي…!!! إرتجف قلبي من الخوف…يبدو انني اصبت بالهلوثة…هل كان ينقصني رؤية الاموات يا الهي ما هذه الحياة !…
“ستي يا ستي شو جابك من قبرك يا ستي بهالوقت الاسود” سمعت صوتاً مليئاً بالحنان والغضب يقول لي :”جيت ضويلك يا بنتيما تخافي”…
لم يكن لدينا كهربا يا ابنتي ولكننا كنا نمتلك النور ،كان لدينا محبة وأمن وأمان وأيمان …كان عندنا كرامة ووطن ورجال ، كان قلب كل منا يحمل نوراً اكثر من كل محطاتكم الكهربائية يصل شعاعه الى آخر الكون …كان عندنا حضارة تولد النور، ولم نكن ننتظره حتى يأتي هو الينا…وأنتم أخترتم حياة الكهوف يا ابنتي .
صوت ما…ترافق مع ضوء صغير اعادني الى الواقعواخرجني من تأنيب جدتي …انه تنبيه من الهاتف يخبرنيبإنه على الرمق الاخير وبحاجة لأسعافه بالطاقة…وكأنه خشية الخلاص ، تشبثت بضوئه الضعيف ورحت ابحث عن شمعة ، لم اجد الا بقايا شمعة صغيرة ، يا للمصيبة.. كيف نسيت شراء الشمع ؟!..
الغرفة بدأت تتحول الى شبه فرن ، الحر لا يطاق …فتموز هذه السنة جاء مصطحباً معه كل افراد عائلته ، من الكبير الى الصغير الى”المقمّط بالسرير”…وهذا ما حقق احلام البرغش واسهم في تكاثره ، وقدم له التسهيلات في إقامة مهرجاناته الدموية على اجسادنا…قضى على كل اسباب البطالة وفتح لهم ابواب الرزق…اصبحت البرغشة بحجم الدبور.
اطلق “البرغش السعيد” كل الحانه “الصاروخية” ما نكاد نسمع صفير البرغشة حتى تكون “شفطت” ما طاب لها من دمنا وطارت سعيدة “عم تمزمز بتمها”.
اشتريت مكنة برغش عالبطارية “ما شاء الله عليها” كانت معطلة في علبتها ،اصبح البرغش يأتي ويتفرّج عليها …وتلك الاقراص المسماة “كتول” التي يضطر بعض الناس لأستعمالها مبيدة لرئتيّ الأنسان كادت ان تقتل ابنتي …
البرغش يغنّي ونحن نصفق…على كل بقعة ظاهرة من جسدنا نصفق…كم تمنيت ان تصبح يديّ اربعة ، لأقدم لابنتي المعوقة اثنتان تدافع بهما عن نفسها …كم تمنيت لو استطيع اعطائها قدميّ لتخرج بهما الى الهواء…
كم تمنيت تلك اللحظة ان يكون ابن احد الزعماء الذين يقطعون عنا الهواء وينعمون بمالنا ويتحكمون بحياتنا وموتنا مكان ابنتي…ربما كان شعر بمعنى العذاب وادرك ما جنت يداه من أجرام بحق الناس المساكين…ربما كان “نئز” ضميره وفهم ما معنى كلمة إنسان …
لا التلويح بالمجلة التي احاول طرد البرغش عن ابنتي بواسطتها وجلب بعض الهواء لها ولا الوسائل الاخرى مثل رش العطور حولها وبلبلة راسها بالماء كانت تجدي نفعاً ،فقد ارتفعت حرارتهاودقات قلبها بشكل خطير …فبعد ان كانت تبكي اصبحت تئن ، انفاسها ضعيفة …وكأن يد الموت بدأت تحيط بها ، صدرها المصاب “بالربو” لم يستطع الصمود امام الجحيم المستمر منذ ايام …
اين أنت ايها الصباح ؟!..ارجوك إسرع في المجيء…لماذا لا تتحرك وقدميك لا تزال مسمرة في العتمة ؟!…لإجلنا تعال باكراً ،من أجل الأطفال المرضى ، لأجل العجزة ، لأجل الفقراء والمقهورين…
اعرف انك لا تأتي وحدك ، هناك من يأتون بك ليضيئوا اوطانهم ولكننا قوم أدمن النوم ،لا نعرف إليك طريق …
شعرت انني في القبر، احاسب على جريمة انتمائي لوطني…
لا الصباح سمعني ولا انا عدت أسمع صوت ابنتي…”ماما حبيبتي لوين رايحة ما تتركيني”سامحيني أنا السبب الناس الذين اختاروا قاتل اولادهم هم السبب .
حملت أبنتي مع ما بقي من أنفاس خافتة في صدرها ، وهرعت بها الى الطريق كان الظلام في الخارج كبيراً بحجم تفكيرنا …
على باب المستشفى استقبلنا وجه شيطان يرتدي ثياباً بيضاء قائلا: ممنوع الدخول قبل دفع التأمين …يا ملاك الرحمة ابنتي تموت بحاجة للاوكسجين …الامر لا يعنيني انه قانون المستشفى .
حنان رحيمي