هنا السعودية

الجدارات الوظيفية في المملكة: حجر الأساس لاستدامة سوق العمل وتحقيق التميز المؤسسي وفق رؤية 2030

 

بقلم / د. عبدالمجيد بن محمد العومي
خبير الجودة والتميز المؤسسي ومستشار استقطاب المواهب الوظيفية

إن مستقبل الوظائف لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على مدى توافق الأفراد مع متطلبات سوق العمل المتغيرة! تتبنى المملكة العربية السعودية استراتيجية التوظيف القائم على الجدارات كي تعيد صياغة مفهوم التوظيف في سوق العمل السعودية وفق رؤية 2030 لضمان اختيار الكفاءات المناسبة لكل وظيفة.كيف تؤثر التحولات الاقتصادية والتكنولوجية على الوظائف؟ وما دور تطبيق أنظمة الجودة ومعايير التميز المؤسسي ومقاييس التطوير الشخصي والميول المهنية في تعزيز جودة التوظيف في عصر التحولات الرقمية؟ اقرأ المقال لمعرفة المزيد

تتبنى المملكة العربية السعودية نهجًا استراتيجيًا لتعزيز التوظيف القائم على الجدارات يعتمد على مجموعة من المهارات، والقدرات، والمعارف التي يمتلكها الفرد، والتي تمكنه من أداء مهام معينة بكفاءة وفعالية. وتشمل هذه الجدارات المعرفة الفنية، والمهارات الشخصية، والقدرات العقلية، والقدرة على التفكير النقدي، والتواصل الفعّال، وغيرها من الصفات التي تساعد الفرد على تحقيق النجاح في مجاله المهني أو حياته بشكل عام. ويأتي هذا التوجه تحقيقًا لتوصيات مجلالصفحة 1س الوزراء وتجسيدًا لبرنامج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- لتنمية الموارد البشرية، وذلك ضمن إطار رؤية 2030 التي تسعى إلى بناء اقتصاد مزدهر قائم على الكفاءات الوطنية. كما يأتي هذا التوجه متسقًا مع برنامج تعزيز الشخصية السعودية، الذي يحظى بمتابعة من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-، حيث يعد المواطن ركيزة أساسية في تحقيق أحد أهم محاور الرؤية، وهو محور تنمية الموارد البشرية، من خلال تطوير مهاراتها وإنتاجيتها ورفع كفاءتها إلى أعلى المستويات.
وفي هذا السياق، يمثل برنامج الملك سلمان لتنمية الموارد البشرية أحد الركائز الأساسية لدعم هذا التوجه، إذ يهدف إلى إعداد مواطن منافس عالميًا عبر تحقيق مجموعة من الأهداف الفرعية، تشمل: رفع جودة أداء الموظف الحكومي وزيادة إنتاجيته، تطوير بيئة العمل، وضع سياسات وإجراءات واضحة لتطبيق مفهوم الموارد البشرية، وإعداد وبناء القادة من الصف الثاني. ويعكس هذا البرنامج التزام المملكة بتعزيز كفاءة سوق العمل من خلال اعتماد أسس التوظيف المبني على الجدارات، مما يسهم في بناء قوة عاملة وطنية قادرة على تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز التنافسية على المستويين المحلي والدولي.
يشهد سوق العمل العالمي تحولات جذرية بفعل التطور التكنولوجي، والتغيرات الديموغرافية، والتحولات الاقتصادية، والبيئية، ويُعد تقرير “مستقبل الوظائف 2025” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي مرجعًا رئيسيًا لرصد هذه التغيرات، حيث يسلط الضوء على الاتجاهات التي ستشكل مستقبل الوظائف حتى عام 2030. يتناول التقرير تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على الوظائف، والتحديات والفرص المرتبطة بهذه التحولات، كما يقدم توصيات لمواجهة المتغيرات القادمة، من خلال التركيز على تطوير المهارات وإعادة تأهيل القوى العاملة.
ويتناول التقرير أبرز المحاور والتوجهات الرئيسية التي ستشكل سوق العمل حتى عام 2030، حيث سيكون للذكاء الاصطناعي والتطور التكنولوجي تأثير كبير، إذ يتوقع أن تؤثر هذه العوامل على 86% من المؤسسات بحلول عام 2030. وسينمو الطلب على وظائف مثل أخصائيي البيانات الضخمة، ومهندسي التكنولوجيا المالية، ومطوري التطبيقات والبرمجيات، ومتخصصي الأمن السيبراني، في حين ستتراجع الوظائف الإدارية والكتابية والمهن التي تعتمد على المهارات اليدوية التقليدية التي يمكن استبدالها بالتشغيل الآلي.
كما أن التغيرات الديموغرافية سيكون لها تأثير مباشر على سوق العمل، حيث ستؤدي الشيخوخة السكانية إلى زيادة الطلب على الوظائف في قطاعات الرعاية الصحية والتعليم، بينما ستتطلب الزيادة في الفئات السكانية الشابة في الدول النامية تعزيز فرص العمل في مجالات التعليم والتدريب وإدارة المواهب. ووفقًا للتقرير، فإن سوق العمل سيشهد بحلول 2030 خلق 170 مليون وظيفة جديدة مقابل فقدان 92 مليون وظيفة، ما يعني زيادة صافية قدرها 78 مليون وظيفة.
ولمواجهة التحولات القادمة، يقترح تقرير “مستقبل الوظائف 2025” عدة استراتيجيات، تتوافق مع توجهات الجودة والتميز المؤسسي، ومنها:
• تعزيز برامج إعادة التأهيل والتدريب المستمر، حيث سيحتاج 59% من القوى العاملة إلى التدريب بحلول 2030.
• التركيز على المهارات المطلوبة مستقبلاً، مثل التفكير التحليلي، والمرونة، والقيادة، والتأثير الاجتماعي.
• تبني سياسات داعمة للتحولات الخضراء والرقمية لضمان استدامة النمو الاقتصادي.
• تشجيع مبادرات التنوع والاندماج لزيادة فرص التوظيف، وجعل بيئات العمل أكثر شمولية.
مع تزايد التحولات في سوق العمل، يأتي مفهوم الجدارات المهنية كعنصر أساسي في التوظيف، حيث أصبح الاعتماد على المهارات والخبرات التقليدية غير كافٍ لضمان النجاح في بيئات العمل المستقبلية؛ مما يستدعي تطوير آليات الاختيار لتكون أكثر دقة وملاءمة مع متطلبات سوق العمل المتغيرة وهنا يبرز دور المقاييس المهنية ومقاييس التطوير الشخصي كأدوات ضرورية لفهم الأنماط السلوكية والمهنية للأفراد، حيث تساهم مقاييس تحليل تطور السلوك الشخصي في فهم أنماط السلوك وقياس السمات الشخصية والتفاعل المهني والجدارات اللازمة لكل وظيفة، بينما تساهم مقاييس الميول المهنية التي تتبنى نظرية الذكاءات المتعددة على تحديد الميول المهنية للفرد ومدى توافقها مع طبيعة المهنة ومتطلبات سوق العمل؛ مما يسمح بتحديد نقاط القوة لدى الأفراد وتوجيههم نحو المجالات التي يمكن أن يحققوا فيها التميز والرضا الوظيفي، ويسهم في تحقيق توافق مثالي بين المرشح والوظيفة بالإضافة إلى المساهمة في تطوير مهارات من هم على رأس العمل كذلك.
إن تطبيق هذه الأدوات بشكل منهجي لا يخدم فقط الأفراد في بناء مساراتهم المهنية بطريقة أكثر فاعلية، بل يساعد أيضًا المنظمات في تحقيق أهدافها من خلال توظيف الأشخاص الأكثر توافقًا مع متطلباتها. فوجود بيئة عمل تستند إلى أنظمة جودة عالية ومعايير تميز مؤسسي، مع توظيف أفراد ذوي جدارات مهنية وسلوكية عالية، يسهم في تحسين الإنتاجية وتقليل معدلات الاحتراق والتسرب الوظيفي. وبهذا، تكتمل دائرة الإنجاز، حيث تتركز الجهود على تطوير المنتجات والخدمات وتحسين المهارات، مما يعزز التنمية المستدامة وجودة الحياة.
الاستثمار في الجدارات المهنية والمقاييس ليس مجرد استراتيجية توظيف، بل هو جزء لا يتجزأ من منظومة الجودة والتميز المؤسسي؛ فالمؤسسات التي تعتمد على آليات اختيار دقيقة تستند إلى تحليل السلوكيات والميول المهنية ستحقق عدة مكتسبات من أهمها:
• انخفاض في معدل التسرب الوظيفي، حيث يعمل الأفراد في بيئات تناسب مهاراتهم وشغفهم.
• تحقيق أعلى مستويات الإنتاجية والابتكار، نظرًا لتوظيف الكفاءات المناسبة لكل دور وظيفي.
• تحسين جودة المنتجات والخدمات، من خلال توظيف أشخاص يمتلكون الجدارات المطلوبة.
عندما يتم تطبيق معايير الجودة في التوظيف من خلال تحليل الجدارات والسمات الشخصية، فإن ذلك يسهم في تحقيق الاستدامة في الأداء المؤسسي، ويؤدي إلى بناء بيئة عمل تدعم الإبداع والتطوير المستمر.
ختامًا، إن مستقبل الوظائف لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على قدرة الأفراد والمؤسسات على التكيف والتطوير المستمر، والاستثمار في مقاييس التطور الشخصي والميول المهنية يضمن توافق الأفراد مع وظائفهم، مما يقلل من الاحتراق الوظيفي، ويرفع من جودة الأداء المؤسسي، ولتحقيق ذلك، تحتاج المؤسسات إلى دمج أنظمة الجودة ومعايير التميز المؤسسي ومقاييس التطور الشخصي والميول المهنية في سياسات التوظيف، مما يضمن بيئات عمل أكثر كفاءة، واستدامة، وإنتاجية؛ فمستقبل التوظيف ليس في عدد الوظائف المتاحة، بل في مدى توافقها مع الجدارات الحقيقية للأفراد، ومدى قدرتها على دعم عجلة التنمية وجودة الحياة.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى