ط
مقالات نقدية

الجواري لسن بالضرورة من النساء..للكاتب الكبير / د. أحمد يونس

احمد يونس
الجواري لسن بالضرورة من النساء

د. أحمد يونس

 

النفسنة الأكثر شيوعاً فــي مصر هي اليوثيروفوبيا أو الخــوف الهيستيري المزمن من الحرية أو المصائب التي لابد أن تترتب عليها،  وهو غالباً ما يأتي مصحوباً بالجينوفوبيا أو الهلع الهيستيري تجاه المرأة، أو الإيروتوفوبيا أو حالة الذعــر التاريخــي من الجنس.

بالذمـــة كده: هل نحن فــي مصر أو المنطــقة عموماً مؤمنون فــي قرارة أنفســنا بالحرية؟ على الأقل هل الأغلبية في هذه البلاد على قناعــة تامــة بأن الحـرية هي الأمـل الأخــيـر أمامنا، خاصة بعد طوفان 30 يونيو الذي ابتلع الهاربين من صفائح قمامة التاريخ، لنخـرج من الكهف الظلامي المتعفن الذي نرقد داخله غائبين عن الوعي؟أليس بيننا  بالذمـــة كده مـن يعتقدون أن الحرية هي باب جهنم الذي يحاول البعض فتحه لنحترق جميعاً بنيرانها؟ أليس هناك ـ بالذمـــة كده ـ مـن يعتبرها الخطر الحقيقي على دكتاتورية الأب فــي البيت أو ناظر المدرسة أو مرسي العياط في الاتحادية؟ إليك إذن هذه القنبلة. استعنا على الشـقـا بالله.

حوالي مــنتصـف القــرن التاسع عشر، جاء فــي زيارة لمصر كاتب أوربي هو جيرار دي نيرفال. كتابه الأشهر هـو: رحلة إلى الشرق. ومن بين عناوينه الداخلية: امرأة من القاهرة.

المهم أن المسيو جيرار دي نيرفال بمجرد قدومه إلى مصر، أحضر له أولاد الحلال جارية مليحة تقوم على خدمته اسمها: زينب. وذات يوم استدعى جيرار دي نيرفال جاريته ليفاجئها قائلاً: أنا يا زيـنـب قـررت احررك. فإذا بها تفقع بالصوت الحياني: تحررني يعني إيه؟ عايزني افضل في الدنيا مطلوقة كده من غير صاحب زي كلاب السكك؟ لو عـمـلت حـاجـة غلط، جوعني، اضــربني، عـلقـني من شـعـري فـي السـقـف. بس ما تقلعنيش من رجلك وترميني كده زي البرطوشة القديمة. عايزك يا زينب تبقي حرة نفسك. يعني إيه حرة نفسي دي؟ تكونشي فيه جارية تانية مخيشة فـي نافوخـك؟ أنا عـمـلت فيك إيه يا ظالم عشان تحررني؟ هـو أنا ما بانضفش البيت كويس؟ مـش كده خالص يا زيـنـب. إنتي ـالشهادة للهـ بتخلي البيت زي الفل. أمال إيه؟ ما بتحبش أكلي؟ لأ يا زيـنـب. إنتي أكلك في الحقيقة لا يعلى عليه. شكلي مـش داخل مزاجك؟ بالعكس يا زيـنـب. إنتي زي القمر. وعلى إثر فاصل عنيف من اللطم على الخدود وتمزيق الشـعـر وشق الهدوم، اضطر المسيو دي نيرفال إلى أن يقول لينهي الموقف: خلاص يا زينب. قلبك ابيض. أوعدك ما اجيبش قدامك سيرة الحرية الزفت دي تاني.

أنا من عاداتي السيئة أن أملأ جميع الكتب التي أقرؤها بالشخابيط. أدون ملاحظاتي أثناء القراءة على أطراف الصفحات لعلي أعود إليها يوماً في المستقبل. أذكر أنني كتبـت أسفل هذه الحكاية: في قاموس زينب لا وجود لكلمة: أريد. بل إن تركيبتها الذهنية خالية هي الأخرى من هذا المفهوم. زينب لا تريد.

المصيبة أن البعض فــي مصر بكل أسف، مـازالوا يتعاملون مع الواقع أو الأحداث المصيرية بعقلية زيـنـب التي تكره حتى مجرد إمكانية أن تتحرر. هناك ـحـتى بعد ثورة 25 ينايرـ مـن لا يستطيعون العيش بدون سيد يقبلون يده، فضلاً عن حالة الرعب الهيستيري التي تستبد بالكثيرين لمجرد أن تأتي على لسان أحد سيرة “الحرية الزفت دي.” زينب لم تعد مجرد جارية كتب عنها جيرار دي نيرفال. إنها طريقة في التفكير. زينب صارت نوعاً من التكوين المرضي المشوه الذي قد يتحول في بعض الظروف إلى وبــاء يضرب الوعي الجمعي في بــلد ما. الجواري لسن بالضرورة من الإناث فقط. بعض الذكور في هذه المنطــقة من العالم لا يتخيلون الحياة إلا كالجواري.

أجمل ما فــي ثورة 25 يناير هو أنهــا كتبت على السطــر الأول من تاريخــها: الشـعــب “يريد.” الأمر الذي افتتح أيضاً طوفان 30 يونيو.

ولم يكن قد اعتاد في الماضي أن يريد أو لا يريد. كانت الأشياء تحدث لنا دون أن نكون طـرفـاً فيها. نستيقظ ذات صباح لنجد أن الغزاة قد احتلوا البلد. الهكسوس أو الإغريق أو الفرس أو الرومان أو العثمانيون أو الإنجليز أو غيرهم. لا يهم. كلهم غزاة. الأنظمة السياسية تتعاقب علينا كفصول السنة: إقطاع بلون القرون الوسطى، اشتراكية على نحــو ما، ثم رأسمالية متوحشة. لا أحد يهتم بمعرفة آرائنا أو حتى مشاعرنا، كما لو أن الأمر يقع في بــلد آخر. المملوك الفلاني يتخلص بطريقة ما من المملوك العـلاني ويستولي على السلطة، بينما نحن نتفرج.

تجار القاهرة علقوا اللافتات لاستقبال السلطان المنتصر قطز بعد موقعة عين جالوت: اللهم احفظ مولانا السلطان الظافر. لكن بيبارس قتله أثناء العودة من ساحة القتال. فما كان من تجار القاهرة سوى أن شطبوا حرف الفاء ليضعوا بدلاً منه حرف الهاء: اللهم احفظ مولانا السلطان الظاهر. كثيرة هي الأمثلة المشابهة فــي تـاريـخ مصر.

الثلاثون مليوناً من البشر الذين انطلقوا في الشوارع كفيضانات النيل منذ 30 يونيو، أثبتوا أنهم سيصــرون من الآن فصاعداً على  التخلص   من هذا الفيروس اللعين الذي أسميه:  سيكلوجية الجواري. كما أثبتوا أنهم قادرون على التصدي لكل هؤلاء الذين لا يريدون لنا أن نريد.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى