الأدب/ خاطرة
منيرة محمد درع القحطاني
المملكة العربية السعودية
[email protected]
” الحضيض”
هذه المدرجات المكتظة باتت تفوح منها رائحة مختلفة, لو سألت والدي عنها قبل بضعة عقود لما عرفها, لقد خلقت خصيصاً لنا, ليست رائحة عرق, ولا أجساد منتنة, إنها رائحة مختلفة, رائحة موت وخذلان, هذا الوطن لا ينفك يبتلعنا جثثاً مقتولة, محروقة ومغدورة. في وقت آخر كنت لتقرأ الكثير في هذه الوجوه لكن اليوم شأن مختلف, هنا تقرأ فقط الخذلان والإحباط وتقرأ الموت والفقدان, كل منا بات له فقيد, شهيد أو أياً كان ما تسمه, وكأن هذه الأرض تصرخ بنا تجوعنا وتنبذنا, تغرس الهجرة فينا قسراً, وتقتل حبنا لها وآمالنا بها. أتسأل لما نحن هنا, لأي شيء تكتظ بنا القاعة, لأي شيء نحشر رؤوسنا بهذه الترهات إن كان الحاضر لا يبشر بخير فالمستقبل ولا بد سيكون شيء مشابهاً, أو ربما أسوء. إنهم يجردون أرواحنا من كل الخير, يجردونها من الحب والعطاء, وينتزعون الأمل من زواياها انتزاع الموت لها من أجسادنا, ثم يتركونها على شفا الموت مزيد عذابٍ لنا. أقرأ الوجوه جيداً وتحسس الملامح, ألمس القلوب وخاطب الأرواح, لن تجد سوى وطن كان ولم يكن, ألم وحضيض, غدر, وموت, موت كثير, كثير, يكفي العالم كله, محشور هنا في الرؤوس والأجساد, في الكتب والألواح, مولد معنا ولأجلنا, لكنه مسروق منا, مغلف بخطط ومدجج بمذابح, لا يأتي إلا ليميت, وهل الموت يأتي إلا ليميت. هنا نحن صفحات أخبار وأحجار تقرأ بها الطالع أو أياً تكن تلك الأشياء التي يرمونها الكهنة ويقرؤون بها الطالع, نحن هي, نحن أصوات مذيعي الأخبار, ونحن دوي انفجارات, نحن طلقات بنادق, ولطخت دماء, نحن تاريخ يكتب, أو ربما خطة تحاك وتنفذ, نحن لا نعرف من نحن, ولا لما نحن هنا, نحن حتى لا نعرف أين سنذهب من هنا. اجلس بجانبي قليلاً, تظاهر بأنك تنتمي للمكان, هي فقط بضع دقائق قبل أن تنهار تحت وابل النبذ, سيمتصك الإحباط العام لقاع عميق, يسمونه الحضيض, والآن علمني كيف السبيل للخروج, دعك مني, أنا واحد, لكن هؤلاء ملايين, ملايين مساكين, علمهم كيف السبيل للخروج, دعك منهم, وعلم الوطن كيف السبيل للخروج, بل دعك حتى منه هو فقط وطن واحد, رقعة أرض, رسم في مكان ما على خارطة, على جسم, على روح, دعك منه, وعلم أمة واحدة وليست واحدة كيف السبيل للخروج, أو ربما علمها عن أرواح شبابها كيف تسقى الموت كل يوم ولا تموت.
إلى إخوتي, الأرواح المسحوقة في قلب الوطن ..