ط
الشعر والأدب

السّفر الى الغربة ..قصة قصيرة بقلم الكاتب / فتحى العكرمى من تونس

فتحى العكرمى
يقوم حدثها الرّئيسيّ على عزلة وحالة فقد وإقصاء لبطل يحاول أن يتواصل مع محيطه الطّبيعيّ لكن يجد فيه تهميشا بالغ القسوة فراغ روحيّ وبيئيّ جافّ ) الصّحراء بكلّ عطشها ) ليجتمع المكان الحادّ مع حقد الآخر الرّافض له في قطيعة تنبذه إلى مقبرة كما لو أنّ الأموات أرحم بصمتهم وصخبهم أحيانا لكون البطل يستعيد أثناءها ما فات ويمضغه في تشفّ من الأحياء وتكون نهايته مربكة وسط هذا الرّفض المقيت وينتهي به ذلك إلى اتّهامه بالجنون فيهيم باحثا عن بصيص أمل فلعلّه يحقّق من مزق خيبته هويّة عصيّة أقرب إلى مستحيل

……………………….
رَموا به إلى الدّنيا وتركوه مجهولا دون هويّة يحيا أوجاعَه مُرتحلا في الأمكنة. شارَف على كهولة مصنوعة من حُزن سرياليّ، حين ينتقل من مكان إلى آخر يسير مُسرعا كأنّه مُطَارَد. تمتدّ خطواته باحثة عن مُستقرّ على تُخوم رحيل لاينقطع.
يتدثَّر بألم حَفر على روحه جُرُوحا غائرة، يلفّ جسده بثياب قديمة مُمزّقة. على كتفيه ينساب شَعر مُجعّد بلون رماديّ يَرسم الذّكرى الموجعة. قدماه حافيتان بشقوق تُجمِّع ماضيه الموغل في التألّم. تكدّست على أسارير وجهه بيادر التّيه وعلى فمه أسئلة مُحاطة بالصّمت. رَسم الزّمان على جبينه وَجعا مُضمَّخا بحِنّاء التّشرّد . وِجنتاه غائرتان تبعثران سفرا لا ينفكّ .
على تُخوم الحياة يجلس وحيدا يرجّه الانتظار يتأمّل ماضيه الذي افتكّ منه الفرح وألقى به إلى وجود موغل في الرِّدّة. يجيء الغسق فيتكوّم على ألمه ويهبط اللّيل حاملا معه وِحشة تطوف بروحه ترجمها بالجمر. أناخ جراحه تحت سنديانة و وضع رأسه على جذعها فنام ، تداخلت في حلمه الخيالات . رأى قبيلة تشدّ الرّحيل الى موطن الماء والعُشب . حَمّلوا الجِمالَ وساروا . لَمح جسده عاجزا عن الالتحاق بهم، تركوه وحيدا في سراب بيداء لا تحدّها العين . يلتفت فلا يجد سوى أرض عاقر خطّ عليها المِلح دوائر بيضاء . غابت القافلة عن مرمى بصره. يقبع متروكا لصحراء الوحشة ولأمواج الفَقد بلا أهل .
أفاق من ذكراه وقد بلّله ندى الفجر، توجّه إلى جبل قريب باحثا عن مكان يقيه من ترانيم الوجع الذي ينتظره أينما حلّ. جلس على مشارف كهف منتظرا بزوغ الشّمس وقد هدّه الجوع والعطش، طلع النّهار مُلبّدا بسُحب داكنة تُوزّع صهيلا يزيد المكان وحشة. أخذ عَصا وبدأ يرسم خطوطا متعرّجة شبيهة بأوجاعه ثمّ أضاف إليها دوائر متداخلة.أخذ في تأمّلها ليرى فيها كونا مصنوعا من فرح مسجون داخله منذ أن ألقوه إلى الدّنيا. امتهن الحزن وتمرّس على رسوم يخطّها في كلّ مكان يتوجّه إليه يهشّ بها على آلام تغوص فيه عميقا. نهض مُتّكِئا على انكساراته وصَوَّب الى الشّقاء يركل ما تكدّس على ضُلوعه من طحالب الوجع . سلك طريقا توصله إلى المدينة، وقف مُحَاَصرا بالغربة. تجمّع حوله بعض الأطفال مُردّدين: ” المجنون، المجنون ” . نظر إليهم بعينين مُحمَرّتين وأسرع مُبتعدا يجرّ جسده الهزيل.
دلف إلى مقبرة يُخيّم عليها صمت رجراج . جمع حطبا وثيابا مُهملة وضعها على نخلة في الرّكن وجلس تحتها. بدأ المكان يبعثر صمتا داكنا وأخذت المطر في عزف غربة تحفر داخله مسارب ألم ترجّ ضلوعه. أضحى سمعه مُرتحلا مع صفير ريح يصنع ترنيمة تنسج طقوس التشتّت. هبط اللّيل ينثر سرابا يبلّل القبور برذاذ الوحشة. على مقربة منه نباح كلاب يُؤنس وحدته . تراكم حوله الضّباب .غامت عيناه وانحسرت الرّؤية . لم يجد قربه شيئا يرسم به خطوطه المتعرّجة . احتضن بؤسَه ونام في فضاء يطوف به صهيل القلق الذابح …

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى