ط
مقالات نقدية

العلاقة العضوية بين القصة الومضة والقصة القصيرة جدًا عباس طمبل (السودان)

عباس طمبل1526234_658108537578721_1684922273_n

هذه المقالة عبارة عن محاولة للربط بين القصة الومضة والقصة القصيرة جدًا، وتوضح العلاقة بينهما وفي نفس الوقت توضيح الفارق، إذ أننا منذ تأسيس مجموعة سنا الومضة نؤكد علي أن القصة الومضة بنت القصة القصيرة جدًا. سأحاول فيما يلي المقارنة بين قصة قصيرة جدا للأديب الليبي جمعة الفاخري بعنوان “محاكاة” وقصة ومضة لي بعنوان “حداثة” لاستكشاف السمات المحددة لكل من القصة القصيرة جدا والقصة الومضة. وسأبدأ بقراءة قصة “محاكاة” وبعدها ومضة “حداثة”، ثم أعقد مقارنة بينهما في نهاية المقالة. وها هو نص قصة “محاكاة” القصيرة جدا لجمعة الفاخري:

أمام مِرْآتَهَا .. تُخْرِجُ أَدَوَاتِ التَّجْمِيل.

تُنْصِتُ لِلْقَصِيدَةِ ..

عَلَى وَجْهِهَا

 تُنَفِّذُ مَا تَقْتَرِحُهُ عَلَيْهَا ..

تُكْمِلُ مَهَمَّتَهَا ..

مِنِ جِهَازِ التَّسْجِيلِ يَخْرُجُ لَهَا الشَّاعِرُ ضَاحِكًا:

 – اِنْتَهَتِ القَصَيدَةُ ..

أَطْفِئي الضَّوْءَ ..

كثيرًا ما يعتمد الراوي علي الرمزية حيث البداية الحدثية السردية، بظرف المكان (أمام مرآتها) لتحديد فضاء القصة ويؤكد وقوع الحدث. ويستعمل الراوي الفعل المضارع الذي يدل علي استمرارية الحدث، يمتد زمن الحدث في هذه القصة بداية من جلوس الشخصية المحورية أمام مرآتها إلى أن تكمل مهمتها. 

يتضح لنا أن الشخصية المحورية للقصة هي امرأة تجلس أمام مرآه تقوم بتجميل وجهها ويؤكد ذلك إخراجها لأدوات التجميل. وهذه الشخصية غير موضحة بطريقة مباشرة في النص، إنما يُشار إليها بضمير غائب مفرد، وهي قد تكون معشوقة أو هي أنثى تحلم بأن تكون جميلَةً، معشوقةً، متغزَّلاً بها.. مهتمًّا بجمالها من شاعر، ترى نفسها هي المعنيَّة بالقصيدة، كأنَّ الشاعر عاشقها هي حقيقةً، وتحاول هي أن تكون تلك الأنثى التي تحتفي القصيدة بها.. قد تكون المرأة المنفِّذة  الحالمة الواهمة وربما الصادقة  الجميلة أصلاً ، أو تنقصها سيماء الجمال فتوهَّمت جمالها، أو حاولت أن تكونَ جميلةً لتلائم الأوصاف التي تنطق بها القصيدة..

القصة تبرز الشخصية الثانية في توظيف الحدث المتنامي وهو جهاز التسجيل إذا اعتبرنا أنه جماد بما أننا يحق لنا استخدام شخصيات في القصص غير الكائنات الحية الإنسان والحيوان. إذن توظيف جهاز التسجيل كشخصية ثانية كضرورة تقتضيها سماع القصيدة بحيث لا يجلس الشاعر أمام هذه المرأة مباشرة. ولم يدل فضاء القصة المكاني على أن هذه المرأة تجلس في قاعة وتستمع للشاعر مباشرة وهو يلقي هذه القصيدة في مهرجان شعري مثلًا.

الشخصية الثالثة: وهي شخصية الشاعر الناظم  لهذه القصيدة الذي ربما يكون العاشق لهذه المرأة ويبرُزُ في عبارته (أَطْفِئي الضَّوْءَ) التي تدل على ضرورة إسدال الستار على هذه القصَّة التي كان يجمِّلها الشاعر العاشق بخياله، وتنفِّذها العاشقة حقيقةٍ على وجهها، لكن بأدواتِ تجميلٍ، ممَّا يحمِّل القصَّة كثيرًا من الزيف والخداعِ والتلوُّن، وهنا قد تجسِّد النهاية السردية مفارقة ساخرة.

العنوان “محاكاة” عنوان محايد ربما يوضح سر العلاقة القوية بين المرأة والمرآة ومداوتها علي الجلوس أمام هذه المرآة وتكرار محاكاة هذه القصيدة ربما كل يوم وقد تمتد لساعات طويلة. وإذا نظرنا إليها على ضوء المحاكاة الغريزيّة في علم النفس، تبدأ العلاقة بين المرأة والمرآة منذ الطفولة وهي عبارة عن عادة سلوكية متعلمة ومكتسبة من البيئة المحيطة عن طريق المحاكاة والتقليد والتكرار والممارسة اليومية للمشاهدة عبر المرآة، ثم تتحول هذه العادة إلى جزء أصيل من الأنشطة الحياتية اليومية وبالتالي تصبح سلوكًا شخصيًا يصعب التخلص منه…
المدي الزمني للحدث قد يمتد إلى فترة طويلة ربما تمتد لساعات طويلة في اليوم ،وربما تكرر عملية التجميل في الغالب ،على مدي فترة طويلة من عمر أي امرأة، مكان الحدث مكان معلوم في النص هو أمام المرآه مكان تزين النساء في الغالب داخل عرف نومهن، بالنسبة للمنظور السردي القصة مروية في الغالب من منظور خارجي، أسلوب السرد مروية بضمير الغائب المفرد، زمن الحدث الزمن المضارع.

قصة ومضة : حداثة ــ لعباس طمبل

رمقتْ هاتفًا ذكيًا بنظرة محرومة. وقعتْ في أسره. عزلها عن الناس واستعبدها.

ربما يحيل عنوان الومضة حداثة إلي حالات الهوس التي أصبحت سمة من سمات هذا العصر لامتلاك مثل هذه الأجهزة الإلكترونية، التي تؤدي فعلا إلي عزلك عن الناس خصوصًا مستخدمي “الواتساب” إذا تجدهم يجلسون جوار بعضهم بعض، لكن كل شخص منهمكًا مطأطأ رأسه  لهاتفه في خنوع تام ويمرر إصبعه جيئة وذاهبًا  في لوحة هاتفه.

في هذه الومضة البداية السردية بداية حدثيه من خلا ل الفعل الماضي رمقتْ تدخل في الحدث مباشرة دون تمهيد، إذ أن الشخصية غير معلومة في النص لكن هنا تستشف  سماتها وهي مشار إلية بضمير تاء التأنيث الساكنة ويمكننا أن نعرف سمات الشخصية من خلال النظرة المحرومة التي رمقت بها هذا الهاتف. وقد تعبر عن حرمانها ورغبتها الأكيدة في امتلاك هذا الهاتف. أدامت النظر قد يوحي بامتداد المدى الزمني للحدث ربما لفترة زمنية تقدر بدقائق معدودة أو أيام أو حتى شهور حتى امتلاك الهاتف وأدمنه وهو ما يؤدي إلي عزلها عن الناس واستبعادها.  بالنسبة لمكان الحدث فهو مكان غير محدد في نص الومضة لكن يمكننا أن نستشفه من سياق النص، كأن تكون قد وقفت أمام محل بيع الهواتف الكائن في مكان ما مثلًا. فطبيعية الومضة لا تقتضي التوسع في السرد، إنما تعكس لحظة خاطفة من قصة حياة شخصية، ولو توسعت زاوية النظر شيء فشيئًا سيكبر المشهد المشار له في الومضة.

 (وقعت في أسره) أي أصبحت أسيرة لهذا الهاتف الذي يعود الضمير هاء له كفاعل لفعل الأسر، وهي سمة من سمات هذا العصر الذي انتاب الناس فيه هوس الحداثة وسعيهم الحثيث لامتلاك هذا النوع من الهواتف حتى إن كانت الحاجة غير ماسه له.

(عزلها عن الناس واستعبدها) أي أنها امتلكت هذا الهاتف بعد أن وقعت في أسره، بمعني أجبرها علي حبه كي تمتلكه. عدم ذكر الراوي لشراء الشخصية لهاتف الذكي هنا يستشف من خلال المفارقة ، وهنا تبرز المفارقة القولية الساخرة التي وضحت من خلال الاستبعاد: أصبح الناس أسرى لهذه التكنولوجيا والعالم الافتراضي وربما انقطعت علاقتهم بمن حولهم من أصدقاء في العالم الواقعي ،وربما هنا السخرية من هوس المجتمع ذاته الذي أصبحت فئات كثيرة منه وفي مراحل سنية صغيرة عملياً هي لا تحتاج لهذه الهواتف أو الأجهزة الإلكترونية الأخرى لكن أصبح من قبيل إكمال منظرك أمام الناس.

بالمقارنة مع شخصيات الومضة والقصة القصيرة جدًا نجد في قصة محاكاة للأستاذ جمعة الفاخري ثلاث شخصيات وهي: (المرأة وجهاز التسجيل والشاعر) وفي هذه الومضة نجد شخصيتين (واحدة مشار إليها بضمير وهي امرأة أيا كانت في أي سن وشخصية أخرى وهو الهاتف الذكي)

القصة الومضة لا تقتضي التوسع في السرد وذكر تفاصيل كثيرة. وتختلف القصة القصيرة جدًا والقصة الومضة في تناول الراوي للحدث. فالراوي في القصة القصيرة جدا قد يتوسع في عدد الشخصيات.  ونجد أن القصة الومضة ربما يوظف الراوي حدثا وشخصيتين: شخصية محورية وأخرى مساعدة وهي تنقص في عدد الشخصيات عن القصيرة جدًا بشخصية تكثِّف الحدث بصورة أكبر عما في القصة القصيرة جدا، بحيث تعرض الومضة جانبا صغيرا من قصة متكاملة بزاوية ضيقة محددة الفضاء والزمان والمكان كما في الومضة أعلاه.
هنا المدي الزمني للحدث قد يمتد إلى فترة ليست بالقصيرة حتى شراء الشخصية هذا الهاتف، مكان الحدث غير معلوم بشكل واضح في النص لكن يمكن أن نستشفه من السياق السردي، بالنسبة للمنظور السردي القصة مروية في الغالب من منظور خارجي يمكن لأي شخص رؤية هذه الشخصية تنظر لها الهاتف وتسعي لامتلاكه، أسلوب السرد مروية بضمير الغائب المفرد، زمن الحدث الزمن الماضي غير المحدد وقد يوحي بأن المجتمع سيدفع ثمن التهافت واللهث وراء كل إصدارات جديدة من المعدات الإلكترونية غاليًا، إذا لم يحسن التعامل معها، وخصوصًا الهواتف والحاسبات الآلية إن لم تكون لديهم حاجة لاستخدامها إنما بغرض التباهي والتقليد الأعمى للأعمار الصغيرة غير المحتاجة لهذه المعدات الحديثة،  لان التكنولوجيا عمومًا سلاح ذو حدين وحسب استخدام الشخص تكثر محاسنها وتكثر عيوبها في نفس الوقت.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى