ط
مسابقة القصة

القتل الحق (ملخص).مسابقة الرواية بقلم/ عادل محمد فودة .مصر

عادل محمد فودة

جمهورية مصر العربية

رواية” القتلُ الحقّ”

01122646598

للاشتراك في مهرجان همسة الدولي للفنون والآداب  

        نفشَ رجال المباحث الجنائية والنيابة في غرفة نوم طارق بك السرساوي بعد اكتشاف جثته ميتًا في فراشه, ثم رحلوا بعد أن حصلوا على كل ما احتاجوا إليه من أدلَّة, فيما تريث ياسر بك الكيلاني-وكيل النائب العام-لبعض الوقت, فرأى ما عُمِّيَ عليهم أمرَه,  مذكرات القتيل, عندما تصفحها, استرعته ثلاث جمل, بثَّته عزمة قوية ألا يريم إلا بعد أن يقرأها حتى نهايتها” مراتٍ كثيرة كنت استيقظ لأجد أيامًا قد استُلَّت من حياتي استلالاً, لا أدري ماذا فعلتُ فيها وأين كُنت, أنام يوم الاثنين فأستيقظ يوم السبت” فاتخذ مجلسه على كرسي إلى جوار مضجع الجثة واستغرق في القراءة:       

           “وإنِّي لرادٌّ ما أكتبه إلى رغبتي في أن أترك أثرًا لراشد أو ذي حكمة, يهدي به إلى تأويل ما عرض لي من أمور كانت عليَّ أبهم من أحكم الألغاز وأشدّها رِتاجًا, أكتب عَجِلاً من حيث أخشى أن تعجلني منيَّتي قبل أن أفرغ من كتابي, وندمتُ أني شرعتُ فيه وأنا أقضي أيامي الأواخر, أو كما توهّمتها أن تكون, فلربما كانت وقد لا تكون, ولكنني أشعر بالموت يزحف نحوي زحفته المُتأنية, رائحته تسطع أنفي, أترجَّى دهمته على غفوةٍ منِّي أو صحوة, أتقبله على رضا مني وسَعة, لا على كرهٍ وضيق, فهو الطريق إليها, وما كنتُ لأنزع عن طريق يُخيَّلُ إليّ بما يرقى إلى يقين بأنني سألقاها عند نهايته, ولا أُبالي إن كان موتًا, بطيئًا كان أم فجاءة, شديد الأخذ أو رفيق النزلة, ومهما يكن من شيء فأنا الآن أكتب عن حياتي, ولا أدري إن كنتُ حيّاً أم ميتًا, أو بموضعٍ بين بين, أكاد أشعر بما يشعر به الأحياء, ولستُ غائبًا على الكلية غياب الموتى, فلا زالت أذني تتلقَّف أصداء هواجسي, وما زالت عيني ترى من حوليَ الأشياء, فتلك زجاجات الفودكا التي تمنحني الهروب إذا ما حملت عليّ هواجسي حملتها القسيّة, وتلك صورة أبي على الطاولة أمامي مُتأنِّقًا في بذلته السوداء, ما زلت أرى في عينيه تلك النظرة التي تراوح بين الشفقة والحسرة, ما كنت أعرف لها سببًا, ولكني ما أن أدركت طور الرجولة, علمتها وتعودتها منه حين يلقاني, فكنت كثيرًا ما أتحاماه وأقلّ من لقائه ما استطعت إلى ذلك سبيلا, فما أشقُّ على صبيٍّ في مبدأ حياته من أن يراه أبوه غير أهلٍ لثقة, ولا جديرٍ برجوة, وأخيرًا هذا أنا أكتب عن أيام حياتي ما أذكر منها على التحقيق, ولكني لا أذكر منها الكثير, فيم أنفقتها وكيف قضيتها, وماذا فعلت فيها, لعلها الخمر قد فعلت فيّ فعلتها, أو أنه النسيان لم تضنّ عليّ السماء به عندما استنزلتها الرحمة, على أية حال لم أعد أبالي, ولم يعد لي في الحياة أَرَب.

          نشأتُ تلك النشأة التي لا تستقيم لمن هم في مثل سنِّي إلا فيما ندر, وقلّ من أترابي ما اتفق لهم ما اتفق لي من نعمة وترفة, اسكن قصرا منيفًا ,اركب السيارات الفارهة, وآكل من أطايب الطعام ما كان يظنّه البعض موقوفًا على أهل الجنَّة, ما أذكر أن هويتُ شيئًا أو نزعت إليه نفسي, إلا وأتاني على غير إنى, وكيف وأبي ذاك التايكون الذي يمتلك جزءًا غير قليل من اقتصاد مصر, وتلك الحياة بلا غروٍ عسيَّة أن أكون بها سعيدًا, وقد كنتُ بالفعل قبل أن أُدرك العاشرة وأعي رزيئتي, لم تكن عاهة بالمعنى المفهوم, ولكنها نقيصة كما اعتبرها أبي ورآها الجميع من حولي, لم أكرهها كما كرهتها ذاك اليوم, وكنت في الصف الرابع الابتدائي, عندما انتخبني معلم اللغة الإنجليزية لألقي على ملأ من زملائي ورقة عمل كان قد طلب إلينا إعدادها في يومٍ سابق, ما أخرجت كلمة من فمي إلا أثارت موجة من الضحك والعجيج, كان لساني ثقيلاً كما لو رُبط على طرفِه حجر, أو كانت الكلمات أحجارًا أدفعها ثقالاً على هون, وأحيانًا لا أقدر عليها فلا تنتهي إلى غاية, وتُلجمني تأتآت  وثأثآت ممتدّة, كم تمنيتُ في تلك اللحظة أن تنشق الأرض فأذهب في أغوارها أو فلقٍ من فلوقها, ذلك من فرط ما كنتُ أشعر به من إحراج ودونيّة, أراهم بلحظٍ خفيّ يتضاحكون ويتمازحون, فيما أقفُ أنا بلا حوْلٍ أو طوْل, وكانت الطامة الكبرى عندما استوقفني المعلم ضاحكًا قبل أن يقول” كفاك, سأمنحك الدرجة كاملة على ما وهبتنا من ضحك, بل علينا جميعًا أن ندفع لك لقاءه”  شعرت بدمعة تضرب أبواب صدري ونشيجًا يدفعها دفعًا إلى عينيّ, قبضتُ على الورقة في غيظ, ثم دخلت متطامنَ الرأسي, كاسرَ الطرف, ترشقني عيونهم بسهامٍ مسمومة,  وهزؤهم على أذناي يقع موقعَ الحراب الناشبة, كان يُتابعني أفضل أطباء التخاطب في مصر, وكنتُ أحرز تقدمًا شيئًا في عقب شيء, ولكن ما حدث ذلك اليوم ردّني على عقبيّ أشياءً وأشياء, وترك في نفسي أعظم الأثر وأبقاه, داءً عصيّاً على الإبلال, جرحًا لا ارتتاق له, ما أذكر أن كرهت مكانًا في حياتي مثلما كرهت هذه المدرسة, وما وقفت يومًا على صحبة رغبتُ عنها مثلما فعلت معهم, كانوا صغارًا في طور الطيش والنزق, لا يعوون لما فعلوه جرمًا, ولا يرون فيه إثمًا, ولكني لم أجد دريئة لما فعله ذاك المُعلم حيالي, تباً له أردى آمالي بأن أكون طبيبًا, وربما لو لم يفعل لكنته, أحجمت عن المشاركة في النقاشات وأمسكت في الصف عن الكلام إمساك الصائم عن الطعام, صرت أرجع من المدرسة ذات ذهبتي بغير إفادة, مرت علي الأيام بطاءً مرورها على مظلوم في الأسر, أسرفت خلالها على نفسي وحمّلتها ما لا طاقة لها به, لم أشرك معي فيه أحدًا, ولم أُآمر في الأمر أخًا أو صديقًا, ولم أكن أعلم أنها صارت عقدة عصيَّة على الحلّ, وعلقت بنفسي علوق الروح بالجسد, تربو كلما رقيْتُ من طورٍ إلى طوْر, وتشتد ما أصبت من السنين فرعة وينعة, سامتني صنوفًا من الأسقام, وأثقلت خطوي في الحياة.

             و مع الأيام قلت روحاتي إلى النادي حتى انقطعت تمامًا عنه, وانقطعتْ أيضًا على العموم خرجاتي إذا ما كانت بغير داءٍ قهَّار, نعم صرت هيَّابًا للبشر, وكيف تروقني صحبة, مهما بلغت طيب عشرتها, وأنا مجبورٌ فيها أن أمسك لساني أن تستبين عاهتي فيعرِّض بها هذا و ذاك, وعلى ذلك فمن غير الإنصاف أن أحمِّل كل مُتبعات ذاك التحوُّل الذي طرأ بحياتي لما جرى ذاك اليوم بالمدرسة, ولكنه كان أول كوَّة من جهنم انفرجت بعدها باقي الكوَّات الواحدة في أثر الأخرى, ولم تكن بأسوأ ما طالعتني به الأيام من جفاء وفظاعة.

         ما ترك العمل في قلب والدي لنا من فسحة, وما بقي منه شغلته أمور السياسة, كان عضوًا في الحزب الوطني, ونائبًا في مجلس الشعب لثلاث دورات متتالية, ولو قد أمهله القدر لسقط كما سقط الحزب وهوى كما هوى النظام بأكمله إثر اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير, كان شديدًا حدّ القسوة, تنم نظراته المتَّقدة عن ثقة بنفسه أشبه بالغرور, أنيقًا في ملبسه, مهيبًا في طلعته, تطَّرد حياته على وتيرة واحدة, وتسير شئونه وفق قانونه الخاص, لا يحيد عنه ولا يتهاون فيه, قلما يُبقي على مُساعديه, اللهم إلا مَن كان منهم حصيفًا واستطاع بشيء من الذكاء أن يشفّ سمات شخصيته ويقرأ دخائله, كما فعل الأستاذ سامي النجدي الذي عمل معه ما ينهزُ على العشرين عامًا, ومن بعده ظل مع أخي أمجد ثم يحيى, وما زال معي حتى الآن, وقد كان والدي قول عنه” لو معي رجلٌ آخر مثل سامي النجدي, لملكت مصر بأكملها”

        في تلك الثكنة العسكرية نشأنا, ووفق هذه التقاليد والقواعد الصارمة كنا نسير, من لزمها أمن بدْوَتَه, ومن حاد فيلقى عاقبةَ أمره, يلقانا دائمًا بما اعتدنا أن يلقانا به من جهمٍ إذا لم نأت من الأفعال شيئًا, ويعنف بنا أشدّ العنف لأيسر ما كنا نأتي منها, وكأنّ البشر والهشاشة تحطَّان من الرجال قدرًا وهيبة, ما رأيته يومًا ضاحكًا ولا هاشًا بيننا إلا في القليل النادر, ولكني كثيرًا ما رأيته يبدي فيضًا من ودّ, وسيْلاً من محبّة إذا اتفق أن يكون في صُبّةٍ من سُجرائه ونُدمائه, ما ترك فينا من أثر عن غير قصد, إلا ما كان من أمر عقيدته التي شربناها منه واعتنقناها, وقد وجدتُ نفسي في أطوارها المتقدمة, ترغب عن كل ما كان يسوقنا إليه, ورحت أنظر إلى ماضيه عن استكراهٍ ونفور, وأرى ما كان يعدُّه من صنائعه مناقب, مثالبَ لا تبعث على الفخر, وذلك إلا ما قضى من حياته في صفوف الجيش, فبالرغم من أنه لم يخض حربًا, ولم أسمع به يكشف عن بطولةٍ ما في موضعٍ ما, غير أن مجرد انتماؤه للمؤسسة العسكرية, حسب ما أرى, كفاء ما نتمناه من عزّة وفخار, ليته ما فصل عنها وما حوَّل للمال والسياسة.

          إنه والدي, وأنا أصغر أبنائه, وحقيقٌ بي أن أكون أقرب الناس إليه, ألصقهم وأعرفهم به, فكان أغلق ما خلق الله عليّ وأشدّهم بهومًا, وعليه كنت أعمد في كثيرٍ من الأحيان إلى التزلّف إليه في سماره مع أصحابه, أنشر الآذان وأرصد العيون للحظه ولفـتاته, علني أبلغ من ذاك العقل الجامد شيْئًا, أو أصيب من تلك الشخصية المحكمة مغنمًا, فرأيته معهم على غير ما هو عليه معنا, اكتشفت له وجهًا يبشّ  ونفسًا ليِّنة, يُعاطيهم بمثل ما يعاطونه به من هزءٍ وسخرية, غير مبالٍ بوقاره وهيبته الذيْن يحرص عليهما فينا كلَّ الحرص, ثم كان أن سمعته في إحدى سماراته يقول بما قضى في أمر عقيدته وقطع فيه قطوعًا غير ذي ردّ, حين سمعت نقاشًا مُحتدمًا وحناجرَ تتقاذف الرأي كراتٍ من لهب, وحين أتت رميته, وأعجب لها حين تأتي أراهم مُتسمِّعين في صمتٍ وكأن على رؤوسهم حطَّت الأطيار, ولا أدري إن كان لمكانةٍ بلغها فيهم أو نُزُلٍ نزلها منهم, أم هو حياء الضيف ذاك الذي حجاهم أن يأخذوا عليه حديثه أو يردُّوه عليه, فمضى يقول بصوت الواثق وبلهجة الأستاذ العالم بما يقول” ما الدين إلا ضرورة إجتماعية لضبط السلوك وتهذيب الخُلُق, فمن خاف بطشة الإله, أمن الناس شرّه, ومن طمع في الإثابة, فاض في الناس خيره, وإني لأرى أنه إذا صحّ الضمير, صار كفاءنا للسلوك قوامًا من أي دين, فكم من ذي دين نراه بغير مُثُل وقيَم, كم منهم يعتلون المنابر منادين في الناس بالزهد كقيمة, ثم ما إذا فرغ من خطبته, تحمله من السيارات أفخمها إلى القصور أبهاها, أين هو مما حضّ الناس لتوِّه عليه, وأين هم منه وما يتقلّب فيه من نِعَم, وما أكثر ما نجد من الناس من هم أكثر استمساكًا بالمبادئ, وثوقًا بالقيم, بذلاً في الخير, وعلوقًا بما تنادي به الأديان, فيما هم على غير ملّة ولا يؤمنون بخالق, وقد نراهم أوفر رزقًا وأرغد عيشًا, فالرزق حسب ما أرى مرهونٌ بما يبذل الإنسان من جهد وما يُبدي من عزيمة وطموح, وليس بالإيمان بخالق يرزق من يشاء وينزل نقمته وبلاءه على من شاء, وليس أدلّ على ذلك مما تنعم به البشرية من تطور وتقدم في كافة المجالات, فمعظمها نتج عقولٍ لا يؤمن أصحابها برَبّ ولا يعتنقون دين” وما أن فرغ من حديثه حتى راح البعض منهم يُحاججه في شيءٍ من رويّة وبعضٍ من تأدُّب, أما أنا فلا أجد فيما قال أياً من بدع, فما علمته عنه وما بلوت من أمره جعل ما سمعته منه ساعتئذ أمرًا مُستساغًا, على الأرجح لأني في ذاك الطور من حياتي ما كنت أعبأ بأمور الدين أو أحفل شأن العقيدة. لم أره يومًا يُجالس أمي جلوس الزوج إلى زوجه, يعاطيها بمثل ما تعاطيه حديثًا ليِّنًا مؤنسًا, يفضي إليها بخلجاته وخطراته وتفضي إليه, يلقي عليها بعضًا مما يثقله وتلقي عليه, يُمازحها بلطيف القول طورًا, ويُعاتبها حينًا عتابًا لينًا, لكن أمي كان لها مما طُبع عليه من جفاء حظًا عظيمًا, وظلت حتى ماتت في صدر طفولتي, وبموتها, جفت أغادير الحب وغيض مزن السماء, ذبلت زهوري واحترقت أعراش جناني, فصلت عنها طيور الودَّ وسكنتها أرسالٌ من الغربان, وما زلتُ حتى لقيت ذاتي الضائعة, حين التقيت إيمان الحناوي بالجامعة وضرب حبها قلبي بغير ما رحمة, ذاك الذي استلب-عبر التاريخ-إرادة العتاة من الرجال فخروا له ساجدين؟ آالآن أنا على دربهم أسير وإلى غاياتهم أصير؟ أيّاَ كان ذلك الشعور ومهما كانت دوافعه ومقاصده, ما أجمل أن يكون له الإنسان غاية, وما أحلى أن يصبح غرضًا لسهامه, ضحكنا معًا, ومشيْنا معًا وقلبي من فرط ما تهادى إليه من جذَل, يدفّ بين ضلوعي كطيرٍ في شَرَك, ألفى لتوِّه مهربًا فمشَت في أوصاله حمَّى الخلاص, ليست فقط جميلة, ولكنها أيضًا ذات فكر ورؤية توافقان ما أعتنقه من أفكار ورؤى, إذا حاشينا العقيدة الدينية, التي هي وقود أعتى الخلافات بين البشر وأعصاها على الحلّ, وأراني عُمِّيَ عليّ بسماك السُتُر أن أفكر فيما سوف تكون عليه العلاقة بين زوجيْن أحدهما لا يؤمن بدين, والآخر متعصِّب لدين ومُتشدِّد فيه, هل ثمة أحد ينزل عن عقيدته من أجل الآخر ولو كذبًا, وإن كان هناك فلن يكون غيري, ولكن إلى متى, وهل تنجح علاقة قامت على كذب, من أجلها انضممت إلى أسرة نور الإيمان التي يرعاها الإخوان المسلمون, وتحملتُ رذولة رئيسها إبراهيم عبد الجواد الذي ما كان يبدي لي شيئًا من ودّ كأنني زوج أمه, أفعل كل ما كانت توصيني به من طقوس الدين, حتى أنها اضطرتني يومًا أن ألقي درسًا في مسجد الكلية بعد صلاة الظهر, وساعدتني في قهر علَّتي في رهاب الغرباء, وما كان أشدَّ إيلامًا لنفسي من شعوري أنَّني أُخالف معتقدي وأدعو إلى غير ما لستُ به مؤمنًا وعنه مُباعدًا, فالمنافق يلقى كيدًا من نفاقه, والكاذب يجد بأسًا فيما يركب الناس به من كذب,  ولكن لا بأس, فقد صرتُ بها من ذوي النفع والخطر في الأسرة, بثَّتني ثقة بنفسي, فغدوتُ كيفًا بعدَ كَمٍّ بغير قيمة.

       كنتُ قد استرخيْتُ على أريكة في بهو القصر بعد برهة طويلة من القراءة, الشمس تجنح إلى مغيبها, وجحافل الليل تتقدم في ثبات, لا أحد في القصر غيري والخدم, كلٌّ لديه ما يلهيه, الهدوء غالب والكل مأمورٌ بأمره, والصمت قابضٌ قبض الواثق على الأعنَّة, لا يخرج عليه شيءٌ ولا يتأطّم عليه صوت, إلى أن تمردت طائرة مارقة في السماء فأطلقت محركاتها دويًا شديدًا طبق الآفاق على بغتة منه ومِنّا, ثم لم يلبث الصمت أن أحكم أمره واستعاد خطره, ثم كان أن استحال الوضع على نحوٍ لم أعد أسمع حتى رجع أنفاسي, وكأنما صُخَّت أذناي, لا أعي على التحقيق ماذا حدث, ولا أدري إن كانت غفوة أخذتني, أو ما إذا كنت مأسورٌ بقوة ما, أو طاقة لا أعلمها,  هالة من ضوءٍ وانٍ تحتويني, وحواشي الردهة حواليَّ على البعد غرقت في سدفة ثقيلة, سترت عن نواضري الأثاث والحوائط, ثم رأيت فيما يرى النائم شيْئًا يخرج من الظلمة, حققت فيه نظري, كلبًا ليس كعهدي بالكلاب, وكأنه فصيلٌ ما بين الاُسْد والذئاب, لا يمشي في مسودة مسحة من مبيض, غير أنه عندما بلغني, توقف وعطف إليّ وجهًا من القبح أن أشعى في نفسي نارًا من رَوَع, أو بالأحق أذكاها وما أوجدها من عدم, عيناه ثاقبتان بلهيب الشر , وتلاحقانني بنظرات راصدة متوثبة, على جبينه ما بين أذنيه الطويلتيْن ثلاث رقط بيضاء متجاورات, متدرجات في الحجم, أكبرها عن يميني وأصغرها عن يساري, حاولت أن أزعق بأحد الخدم, ولكن فوق أنّي لم أذكر اسم أيٍّ منهم, شُلَّ منطقي, وكنت قد حاولت النهوض من رقدتي التي تجمدتُ عليها نهضة الفارّ من الموت, لكن أغلالي كانت من القوة من حيث لا مفرّ, وأعقلتي من الشدّة بما ليس منه فكاك, وما زلت أحاول ولكن بلا ثمر, وكأنني ميتٌ أُبقيَ له على سمعه وبصره ليرى القبح ويسمع نكير الأصوات, ثم زام زومة غضب من أبشع ما سمعت, قبل أن يلوي عنّي وجهه القبيح ويستأنف رحلته إلى الطابق العلوي, وظل نظري معلقًا به وهو يرقى في الدَرَج رقيَه الوئيد, حتى عرج يمينًا وغاب في الدهليز المفضي إلى الغُرَف, هنا بلوْتُ أوصالي فوجدتها تطيعني من بعد شماس, وكأنما فُكَّ عقالها, وانكسر قيدها, فنهضتُ نهضة قوية وأنا على حالٍ من خوف تقبّض له قلبي الذي راح يضرب أبواب صدري بغية الفرار, آب كل شيء إلى ما كان عليه, فاستعاد البهو نوره الذي عزب, وبدا ما كان مستخفٍ بالظلام, قصصتُ على الخدم ما رأيت حين التأموا حولي إثر ندبتي لهم, فتبادلوا نظرات الدَهَش لبعض الوقت ثم صعدوا فنقبوا الغرف العلوية وبحثوا في الدهاليز والأبهاء فلم يجدوا شيئًا.

         قضى أخي أمجد عن غير علَّة, حتف أنفه على فراشه بعد واقعة الكلب بما يربو على أسبوع, ولم يكد ينقضي على تخرجي شهران حتى مات والدي عن علَّة في الكبد, فنهض أخي يحيى بكلّ شئون الشركات والممتلكات, وبعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير, ما أغرب أن مات هو على أخذ أمجد وبذات الطريقة, وقبل وفاته بأسبوع رأيت ذاك الكلب وبنفس الظروف, ولكن برقطتيْن فقط, فعلمت أنني رائيه يومًا لا محالة بالرقطة الصغيرة فقط, وبعدها سأدرك دوري وأموت, آمنتُ بأنها ترمز إلى ثلاثتنا, وما أكد لي ظنِّي, أن الكبيرة هي التي مُحيَت حين رأيته للمرة الثانية.

          لم يعد غيري ليحمل إصر مجموعة الشركات, كيف أقوم بها, أضبط أمرها وأحكم نظامها وكنتُ أبعد ما يكون عنها, حتى أني لا ألمُّ بأسماء الشركات ولا أحيط بموظفيها وعمالها, لأول مرَّة أقدر لجاجة والدي عليّ ونصحه لي بأن أقحم نفسي في العمل كفعل أمجد ويحيى, ولكن مع وجود سامي النجدي لا إشفاق ولا جزَع, ألقيت بثقل الأمر على كتفه, وما كان يعود إليّ إلا فيما يستوجب إعمال القلم, أضع توقيعي على كل ما يعرض عليّ من أوراق, ما كان لديّ من وقت ولا طاقة تسمح لي بمثل تلك الأمور, كنت أبحث عن حياتي الضائعة, وما كان لديّ فضلة من عناية لأوليها العمل, اتفقت أنا وإيمان على الزواج وجهزت له جهازه, وعزمتُ على أن أهبها كل ما أملك لقاء ما ستمنحني إياه من سعادة ما بقي لي من عمري القصير, وخشيت إن ظاهرتها بموتي, أفقدها.

        ما كان هناك على وجه الأرض من هو أكثر مني سعادة, حتى تلك الليلة السوداء حين اتصل بي أحدهم يقول بأنهم خطفوها, وإن لم أسلمهم عشرة ملايين جنيهًا قبل انقضاء ليل الغد, لن أراها ثانية, أعددتُ طلبتهم وذهبت وحدي, بلغت الموضع الذي حدده المتصل على الطريق الدائري وألقيت حقيبة المال, وفي اليوم التالي وُجِدت جثتها مشوهة الوجه في ذات الموضع.

          قتلوني الكلاب وما قتلوها, أعطيتهم ما طلبوه فلماذا فعلوها, انهارت حياتي على أعمق ما توحي الكلمة من دلالة, حتى أن الشرطة أطلقت سراح كل من قبضت عليهم لعدم كفاء الأدلة, صرت أصطلي بنار الوجد عليها, أتلظى كشاةٍ على جذاءٍ متقدة في حفل شواء, ما هدأ لي جانح, وما سكن لي بارح, لا أكاد أصدق, وما أنا بمؤمنٍ لما سمعته, نقمت على القانون الذي لم يقتص للمظلوم وخلَّى سبيل الظالم, نقمت على كل المجرمين ومن خلت ضلوعهم من خوافق القلوب, والله إن لم يكن بي شيءٌ من جبن لقتلتهم جميعًا, باتت لا تفارقني في غفوي وصحوي, كرهتُ الحياة وعشقتُ الموت, مراتٍ كثيرة كنت استيقظ لأجد أيامًا قد استُلَّت من حياتي استلالاً, لا أدري ماذا فعلتُ فيها وأين كنت, أنام يوم الاثنين فأستيقظ يوم السبت, لعلها الخمر صرت أداوم عليها لأنسى, وما أحوجني إلى النسيان, مبالغ كثيرة كنت أسحبها من البنك لا أعرف مصارفها, فيم أنفقتها وكيف, والأنكى من ذلك متى؟ على أية حالٍ لم أعد أبالي, قضيت ما قضيت مما تبقى من حياتي على ذات الشتت, حتى كان ذلك اليوم, حين كنت جالسًا في غرفتي في سكنة الليل وكان بابها مواربًا, فسمعت صريره, وإذا بذات الكلب الأسود, ألقى علي نظرته الفاحشة ثم انصرف, ضرب الخوف قلبي عندما انتبهت أنه لم يعد في جبينه غير تلك الرقطة البيضاء التي توقعتها, نعم إنها النهاية, وتلك الرقطة البيضاء المتبقية هي أنا, فعلمت أنه قد آن الرحيل, وفي نهاية الأسبوع صرفت كل الخدم وبقيت وحدي لألقى مصيري, أمسيت على يقين بأن ما حدث لم يكن عن سبيل من صدفة, وما عشت مرَّ ما انقضى من عمري أُنكره, موجودٌ ولا غرو, أشعر الآن به, توضأت فصليت صلاة خاشعٍ متبتل, وضرعت إلى الله بالمغفرة, وفي ليل الخميس, تفزَّعت من نوْمتى التعسة لأرى أمِّي رأي العين تناديني, تمد لي ذراعيها فَرِحة مُستبشرة, ثم……………”

           طوى ياسر بك الكتاب قبل أن يأمر رجال الإسعاف بنقل الجثة إلى المشرحة, ندب سامي النجدي إلى لقاء, فاتهمه بقتل طارق بك وإيمان وسرقة المال, ولمَّا ضاقت به سبل الإنكار, تنهَّد نهدة الاستسلام وقال” أصيب طارق بك بعد مقتلها بازدواج في الشخصية, جلوْتُ أمره عندما أتاني يومًا وقد تبدلت شخصيته, بدا جريئًا, قويًا, صارمًا, على غير ما عهدته, يتحدث بطلاقة وكأنما أبلّ من علَّة لسانه, هل تذكر, سلسلة جرائم القتل التي كانت تحدث وأعياكم أمرها؟ والتي راح ضحيتها الكثير من تجار السلاح والمخدرات وقطاع الطرق, وعلى أثرها توقفت الجرائم بأنواعها خوفًا من استهدافهم؟ كنا نحن من نفعل ذلك, فقد كان يرى أنهم جميعهم قاتلوها, جرَّد كل ماله في سبيل ذلك, القتل قتل, والجريمة جريمة, ولكننا رأينا فيها الحق, لذلك ساعدته وساعده كثيرون, وقد رأيتَ بنفسك ما كان لما كنا نفعل من أثر, توقفت الجرائم وما عدنا نسمع عن خطف وقتل وبلطجة, أرجوك ياسر بك, لو علم الناس بأن طارق بك هو من كان يستهدف المجرمين وأنه قد مات, فسوف تعود الجريمة أشد مما كان”

       استفاق ياسر بك من دهشته, فأدخله اكتشاف جديد في نوبة أخرى من ذهول, اتصال الخاطفين بطارق بك أثار في نفسة الريبة, حسب مذكراته, لم يكن هناك من يعلم بأمر علاقتهما, ولا حبهما ولا حتى عزمهما على الزواج, بما يعني أنه المقصود, وهناك في الأمر داعٍ من ريبة, ففتح ملف قضية مقتل إيمان, وجلا من تقصِّي آخر مكالماتها أنها مؤامرة حاكتها وإبراهيم عبدالجواد, وما أن حصلا على العشرة ملايين جنيْهًا حتى هربا إلى أمريكا وتزوجا هناك,  وضع المُذكِّرات في خزانته وأغلق القضية نهائيًا, بعد أن تأكد من تقرير الطب الشرعي بأنها ميتَتُة طبيعية, عن سكتة قلبية.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى