ط
مسابقة القصة القصيرة

القلم ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد جميل الهمامى من تونس

القلم: قصة قصيرة من تونس للكاتب محمد جميل الهمامي
أمسك القلم و اخذ يقلّبه بين اصبعيه ، هذه اوّل مرّة لا يكتب فيها شعرا ، لقد أخذه البحر بعيدا و اليوم يغلق بابه الستّين … هنا بعيدا عن البحر . لم يدر كيف شَخص بصره و هو يتذكّر ليلة مرض ابنه الوحيد ، ابنه الذّي رحلت والدته حتّى قبل ان يذوق اوّل قطرة لبن من نهدها . صار الأب و الأمّ معا ، ليلتها في حانة الميناء قال له “الرايس التيجاني” : تزوّج . بصق على الأرض و لم يجبه ، سمع صوتا آخر يقول : نعم تزوّج … رفع كأسه عاليا و اتى عليه دفعة واحدة ، مسح فمه بكمّ قميصه وهو يزمجر : هل تسمع أبناء الفعلة يا صديقي زوربا انّ حبل مشانقهم أطول بكثير … و خرج تاركا الذهول يترنّح فوق وجوه كلّ من في الحانة. دفع الباب الخشبيّ برجله وهو يتمتم بآخر قصيدة كتبها ، نادى على ابنه فلم يجبه ، هل نام ؟ و لكنّه لا ينام إلاّ في حضنه ، ناداه مرّة اخرى .. و اخرى و لم يجب ، بحث في بقايا الدار البائسة وهو يلهث ، بدا كباخرة عجوز تلفظ أنفاسها .. لم يبق سوى غرفة زوجته ، رفع ستار القماش بلونه الأصفر الحزين لتعترضه جثّة ابنه وهي ملقاة على الفراش ، أحسّ بضيق هادر يلبس صدره ، لقد رحلت فوق هذا الفراش و من ليلتها أقسم أن لا يلمس جلده أبدا. اقترب من ابنه ليحمله و لكنّه تراجع خطوات إلى الوراء وهو يسمع حشرجة تخرج من صدر ابنه ، كانت أشبه بشخير محرّك هرم . وضع يده على جبينه ، كانت حرارته مرتفعة ، التقى حاجباه في عنف وهو يتحسّس وجنتيه و رقبته … كان جلده ساخنا . حمله مسرعا وهو يغادر داره ، لم يفكّر في شيء ، كان يسير بجنون الدنيا و ثورتها . كان أقرب مستشفى من داره يبعد حوالي ثلاثين ميلا ، لا يهمّ .. قالها وهو يبصق على الأرض ، نظر إلى ابنه الذّي بدأ يهذي في شحوب ، رفع لاحظيه نحو السماء ، قال كانّه يرى أحدا : اسمعني .. أعرف إنّني كلب ابن كلب و ذنوبي بلغت المرّيخ لكن لا تأخذ منّي ولدي ..
وصل المستشفى ، لم ينتبه لقدميه الحافيتين و قد غسلهما الدم .. كان ينظر يمنة و يسرة كأنّه أضاع وجهه في بياض هذا المستشفى . ناداه صوت من خلف بلوّر زجاجيّ فاخر : تفضّل . كان الصوت باردا ، نظر إليها ، كانت تلبس نظّارة زجاجية لامعة زادت ملامح وجهها برودا . قال لها في صوت أقرب إلى النحيب : إنّه إبني .. قاطعته في ضجر : ما به ؟ أحسّ بأنّه يخاطب القطب الشماليّ بعينه ، غمغم في خفوت : إنّه مريض .. أردفت في لامبالاة هادئة : هل لديك بطاقة علاج ؟ ارتعشت شفتاه قبل ان يجيب في انكسار : لا املك بطاقة علاج .. مطّت شفتيها في استهتار مثير وهي تقول : اذن ، ستدفع ثمن الفحص كاملا . أخذ نفسا عميقا بصوت مسموع قبل أن يستطرد قائلا : و كم سأدفع ؟ رفعت حاجبيها في هدوء قائلة : لا أدري .. ان كان الطبيب سيكتفي فقط بالفحص ام سيطلب بعض الصور و التحاليل … سقطت عبارتها على رأسه كطوب داره المتهالك ، نظر إلى ابنه الذّي بدأ يرتعش بين يديه ، اشتعلت النيران كلّها في قلبه ، قال لها راجيا في صوت أقرب إلى الاموات : ارجوك سيّدتي إنّي لا املك ثمن الفحص و … قاطعته في صرامة مباغتة : وهل المستشفى ملك لأبي حتّى أعالجك مجّانا . تمتم في ذبول : لا أحتاج علاجك سيّدتي فجهنّم تنتظرني و لكن عالجي هذا الصغير. أشاحت عنه بوجهها وهي تراقب هاتفها ، تطلّع إلى الأرض برهة ثمّ وضع ابنه على البلاط قبل أن يخرج راكضا ، لحق به صوتها وهي تصيح ساخطة .. لم يأبه لها و لا لكلّ هذا العالم، لابدّ ان يأتي بالمال . عاد إلى الحانة ، بدت تعجّ بالبحّارة كعشّ نمل ، جذب طاولة و صعد فوقها .. ساد صمت مخيف بينما الجميع يحملقون فيه ، صاح ” الرايس التيجاني” : هل سكرت أيّها الذئب الخرف … دوّت ضحكات متفرّقة انتشرت في أرجاء الحانة ، لم يكترث لهم ، بدا وجهه حاملا لتجاعيد الموت ، كان أشبه بتمثال رخام . اقترب منه “الرايس” وهو يقول في لهجة جادّة هذه المرّة : أخبرني ما الأمر ؟ مسح عرقا وهميا على جبينه و انفجر باكيا : انّ ابني مريض و عندما حملته للمستشفى طالبوني بأن استظهر ببطاقة علاج او أدفع كامل المصاريف … ران الصمت في الحانّة كلّها ، لدقائق لم يُرفع كأس واحد. انتفض جسده دفعة واحدة ، كانت كلّ ذرّة في كيانه تهتزّ لوحدها ، بدأ ينزع ملابسه وهو يصيح ثائرا : خذوا كلّ ثيابي و اعطوني ثمن العلاج … امسكه “الرايس” في عنف صائحا : كفى ، البس ثيابك و اتبعني . لحق به مسرعا ، كان طوال الطريق صامتا ، سحبه “الرايس” من صمته قائلا : سيتعافى . بصق على الأرض وهو يغمغم : إنّهم أبناء الفعلة .. لاح لهما المستشفى يقف في شموخ ، همهم قائلا : إنّه هناك . لم يجبه بل ناوله سيجارة ، التقطها بيدين مرتعشتين ، دسّها بين شفتيه و أشعلها في توتّر جامد . دخلا إلى المستشفى و اتّجه مسرعا الى ولده ، كان ينام حيث تركه ، أبناء الكلب .. كانوا يمرّون به دونما رحمة أو شفقة . اعترضه رجلان يلبسان ميدعة بيضاء ، هتف به أحدهما : ممنوع التدخين .. أجابه في اقتضاب : ممنوع الفقر … تبادل الرجلان نظرات خاطفة بينما سقط هو حذو ابنه يكلّمه : حبيبي ، “الرايس” هنا و سيدفع ثمن علاجك ، ستتعافى و تصبح مهندسا رائعا و تصلح كلّ مراكب الميناء ، ستكون شاعرا أيضا فوالدك البحّار لم يتعلّم من البحر سوى الشعر … لم يجبه ، كان جثّة هامدة ، وضع يده على جبينه ، كان باردا برد البلاط .. التفت إلى “الرايس” مبتسما : لقد انخفضت حرارته تماما، إنّه بارد ، لابدّ انّ أحدهم تفطّن إليه و عالجه وهو الآن نائم … اقترب منه “الرايس” بخطوات كئيبة ، جثا على ركبتيه و هو يتفحّص الصبيّ … لقد مات …
رفع عينيه ، كان لايزال في القاعة ، نظر إلى القلم المسجون بين اصبعيه طويلا .. قاطعه صوت قريب يقول : هلاّ استعجلت سيّدي . نظر إليها ، كانت تلبس نظّارة زجاجية لامعة ، ابتسم لها في شحوب و خطّ على الورقة بيد متعبة : كلّكم أبناء الفعلة …
طوى الورقة و وضعها في الصندوق ثمّ أشعل سيجارة في برود قاتل ، نهره رجل يقف بالباب قائلا : التدخين ممنوع .. أجابه في اقتضاب : ممنوع الفقر … و خرج يجرّ ظلّه في لا مبالاة وقحة ، استوقفته فتاة نديّة الملامح تمسك في يدها قلما فاخرا و اوراقا بيضاء ، سألته بعد ان استظهرت ببطاقة : من انتخبت اليوم سيّدي ؟ سحب نفسا عميقا من سيجارته وهو يغمغم :
ولدي …

محمّد جميل الهمّامي
صفاقس –الجمهورية التونسة

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى