ط
الشعر والأدب

الكادحة ..قصة قصيرة بقلم الكاتبة / إسلام بن علي السعيدي . تونس

الكادحة

ذات يوم ربيعي سطعت الشمس من وراء الأفق أطلت مثل وجه صبوح مشرق تطل بين فينة و أخرى من بين أحضانه البيضاء. بدأت الأم عملها المتكرر ككل يوم. قصدت المرعى القريب مصطحبة قطيعها. فقد اعتاد على العشب الأخضر النضر. و في طريق عودتها أخذت بعض الأغصان اليابسة لتحمي بها ” الطابونة “.
ما ان وصلت حتى وجدتها على أحر من الجمر للقائها. أحضرت عجينها المخبوز منذ الفجر ثم توجهت نحوها فاستقبلتها بأحضان المشتاق. وضعت العجين و عيناها تراقب صغيرها بكل عطف و حنان خائفة عليه من غدر الحشرات السامة المتواجدة في كل نحو من أنحاء الريف النائي. كانت تقوم بدور الأم و الأب في ان واحد لأن نصفها الثاني يعمل بعيدا عنها من أجل تأمين لقمة عيش كريم. و في صباح يوم أحست بألام حادة تمزق أحشاءها.
فغادرت مسرعة لتذهب الى عيادة طبيبة النساء ظنا منها أنها تعاني مرضا ما. انتظرت طويلا و القلق يساورها حتى نادت الممرضة باسمها. لقد حان دورها كانت تنتظر على أحر من الجمر لتعرف علتها. حييت الطبيبة و ارتمت على الكرسي خائرة القوى. سألتها الحكيمة عدة أسئلة لكنها كانت ترد سابحة في بحر من التخيلات و القلق. نامت على كرسي طويل في حجرة الفحص لاجراء الفحوصات اللازمة. تبسمت الحكيمة و قالت: ” ما شاء الله يبدو بصحة جيدة.”
ردت و الحيرة بادية على وجهها : ” من ؟”
– الجنين يا سيدتي. ألا تعلمي أنك حامل في الشهر الرابع.
أردفت بعد أن عاد الدم الى عروقها” ظننت أن مرضا ألم بي. الحمد لله على كل حال.”
كتبت لها وصفة الدواء ثم غادرت شاكرة طبيبتها. و لكن الدواء باهظ الثمن. قالت:” سأتدبر أمري.”
عملت بجد أسبوعا كاملا فتارة تجمع الحطب و تبيعه على قارعة الطريق و يوما اخر تجني الزيتون لتحصل على أجر زهيد لكن ما العمل. ليس باليد حيلة.
اشترت دواءها و واضبت على تناوله حتى تسترد و لو القليل من عافيتها لكن فكرها مشغول دائما. تفكر و تفكر حتى كاد عقلها ينفجر. كيف ستأمن حاجيات رضيعها ؟ كيف تشتري أدوات مدرسية لابنها ذي الست سنوات ؟
و رغم وهنها الا أنها لم تبقى مكتوفة الأيدي. لقد ادخرت بعض النقود و اشترت دجاجات فتارة تجمع البيض و تبيعه و تارة أخرى تنتظرحتى تفقس لتبيع الفراخ فتجني بعضا من النقود. و هكذا حتى عرفت أمورا كثيرة تخص حضن البيض و تفقيسه فبدأت تتدبر أمرها.
تعمل بجد و كد لعلها تنقذ نفسها من غدر الزمان. فزوجها يعمل بملاليم قليلة ما ان يعود بها حتى يجد فواتير كثيرة في انتظاره. يجلب شيئا قليلا من الخضر و الضروريات الأخرى أما اللحم فقد نسيت طعمه أو كادت. و بعد مدة اشترت نعاجا ضمتها الى قطيعها. واصلت عملها المضني من تسريح الأغنام ’ اعادته ’ تربية ولدها ’الاهتمام بجنينها…
حل اليوم الموعود جائها المخاض فاتصلت بحماتها لتصطحبها الى مركز التوليد. لكن حالتها خطيرة تستوجب تدخلا جراحيا عاجلا. و بعد سويعات صاح الصبي معلنا قدومه الى عالم يجهل خفاياه و أسراره. استبشرت أيما استبشارا و بعد أن رأت طلعته البهية حمدت الله كثيرا. و قدم الزوج كعادته متأخرا. و من الغد عادت الى بيتها تضم قلبها الصغير بين أحضانها. فرحت العائلة كثيرا بقدوم الحفيد الجديد لكن هيهات.
مرت الأيام بسرعة البرق بمرها و حلوها و كبر الملاك الجميل بدأ يحبو ثم دب خطواته الأولى و كان تبارك الرحمان بهي الطلعة ذو خدود وردية لكن بدأت شاهيته تتراجع شيئا فشيئا لكن لا مشكلة في ذلك لقد بدأت حبات اللؤلؤ اللبنية تظهر. و بدأت حالته تسوء يوما بعد يوما و القىء يغالبه كل لحظة. توجهت أمه الى مركز رعاية الأم و الطفل لعلها تجد حلا يشفي صغيرها. قامت الطبيبة باجراء فحوصات و تحاليل مخبرية ثم وجهتها الى أهل الاختصاص فقد أجريت عليه فحص دقيق للمعدة و طلب منها الطبيب فحوصات باهظت الثمن منها اجراء فحص بالمنظار للمعدة فالكل يؤكد أنه مرض زائل كلما كبر.
لكن حاله تزداد سوءا مع تقدمه في السن. و كل طبيب يشير بفحوصات لكن دون جدوى. و لم يعلموا حينها أن سبب دائه ورم في المخ. بقي يسري و يسري في دماغه حتى غطى جل خلاياه. يحارب الصغير بنفسه فلا يشكو و لا يبكي. حتى سقط مغما عليه أمام قسمه فأسرع اليه أصدقائه. و الطب المتطور لم يسمع بجهاز الرنين المغنطيسي و لم يعلموا أن العلة في رأسه . و من أين لهم أن يعرفوا و هم يسكنون ريفا نائيا لا يعرف طريق الوصول اليه الا من له معرفة و دراية بالمكان. تواصل عذاب الصغير و ألمه تارة يسقط و تارة يغمى عليه. الى أن حل عيد الأضحى المبارك يومئذ الناس فرحين بأضاحيهم بينما والداه يجوبان المستشفيات بحثا له عن سرير لقد سقط مغشيا عليه دون حراك.أسرعا به الى أقرب مستشفى و ككل مرة فحوصات و تحاليل و أخيرا طلب الطبيب فحص الرنين المغنطيسي ليكتشف الداء. ورم كبير على مستوى الرأس يتطلب عملية جراحية مستعجلة و دقيقة على مستوى خلايا و شرايين الدماغ. و تم الاتفاق على موعد الجراحة وسط ذهول الجميع. فهو لا يحمل أي أعراض لكن الخبيث تسلل الى عروقه فأوهنه و أفقده توازنه.
أمام غرفة موصدة أبوابها بقينا ننتظر سبع ساعات طوال و ما أمرها مرت كالدهر فالداخل اليها نترجاه أن يطمئننا و الخارج منها نسأله و الكل مشغول . و الصغير ملقى على سرير مكبل بشتى الالات’ يحيطون به أصحاب الميدعة البيضاء من كل صوب و نحو. و بعد ساعات انتظار طويلة مريرة خرج الملاك فاقدا وعيه منتفخ الوجه متورم الجسد. أسرعوا به الى غرفة الإنعاش حيث طال نومه و الأجهزة الطبية تصدر إشارات مختلفة. فلا نرى الا وجها صبوحا ملثم بضمادات كثيرة. نام و نام و دامت غيبوبته شهرين كاملين و جسده المنهك في تراجع. فقدت أمه أمل لقائه مرة ثانية فعادت الى حيث تركت صغيرها. و بقيت تزوره بين فينة و أخرى تناديه ’ تتحسسه ’ تلمسه’ تمسح على رأسه لكن دون فائدة. تتألم حين تراه بينما هو نائم لا يبدي حراكا. زاد ألمها حين أخبرها الطبيب بأن وفاته قريبة وان استيقظ يكون ” معجزة” .مرت خمسة عشرة يوما و حاله في تراجع فالدم لم يعد يصل الى دماغه ثم لاقى صعوبة كبيرة في التنفس حتى بأجهزة التنفس الاصطناعي…
زارته رفقة أخيه الكبير و كأنها تعلم أنه الوداع الأخير قفلت راجعة الى بيتها بينما بقي والده بجانبه. لأن الطبيب أعلمه بفصل أجهزة التنفس الاصطناعي.
و حانت ساعة فراقه تنهد الصغير ثم فتح عينيه و تبسم كأنه يرى الملائكة حذوه ثم لفظ أنفاسه الأخيرة. و صعدت روحه الطاهرة الى السماء. ملاك صغير لم يرى من الدنيا غير العذاب و زاد عذابه عندما دخل المستشفى لم يكن يعلم أنه لن يخرج منها مجددا. صعقت أمه بخبر موته عندما وصلت فلم يجرئ أي منا أن يخبرها. بقيت ملتاعة تبحث عنه بين ألعابه و أدباشه.
و انتهت رحلة عذابه ليستقر في جنات الخلد. رحمك الله صغيري و ثبتك عند السؤال و جعلك بين الشهداء و الصديقين.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى