ط
مقالات بقلم القراء

الهوس الوعظي بقلم /د. فتوح الجبوري .العراق

أمسكَ رجلٌ بذئبٍ يأكل أغنامَهُ ، وأخبرَهُ الرجلُ بأنّهُ لن يقتَلهُ وسيطلقُ سراحهُ شريطةَ الكفِّ عن الغدرِ بالأغنام وأكلها ، فما كانَ من الذئب إلّا القبولُ والاستجابة ، والردّ بـ : نَعَم ، نَعَم ، نَعَم مسترسلًا : أكمل يا سيدي لأنيّ أرى قطيعَ غنمٍ وسيفوتني بسببكَ … هذا المثالُ غير المنطقي هو شبيهٌ بسلوكٍ يكادُ يكونُ يوميًا مألوفًا في مجتمعنا … فنجدُ واعظًا – ليسَ بالضرورةِ دينًيا – فقد يكون أخلاقًيا أو علميًا أو وطنيًا أو قوميًا … المهم أن يجدَ أحدُنا ظاهرةً اجتماعيةً أو نفسيةً غير مقبولةٍ أو فيها نظر، فيبدأ هذا الواعظِ بطرحِ ما في جعبته من نُصح وإرشادٍ فهو يتعامل مع الفرد كتعامله مع قطعةِ قماشٍ متسخةٍ وبقليل من الماء والصابون تعود بأنظف حال … ﺇذن من وجهةِ نظر الواعظِ تصويب السلوك عنده يقوم على أساس التوجيه وينتظر النتيجة ( النظافة) … هذا تبسيطٌ مخلُّ بالموضوع لأنّ الانسانَ وليدُ البيئةِ – ليس بيدهِ طبيعتهِ وليس بيدهِ سلوكه وإنّما هي نتاج الظرف الاجتماعي الذي يعيشهُ الى جانب عوامل البيئة النفسية التي تحيطهُ … ﺇنّنا اذا ما حاولنا تغييرَ سلوك ما بالنصح – ولمئاتِ السنين – فلن نصلَ اليه ما لم يتم تغيير الظرف الاجتماعي والنفسي ، لذلك نجدُ البعض عند وعظه وتوجيهه يتلقى ذلك بالقبول وما ﺇن تتركه حتى يعود أدراجًا ﺇلى سجيته وطبعه كسلوك الذئب – والسؤال هو ما سببُ انتشارِ أسلوب الهوس الوعظي والذي لا فائدة منه ؟ الجواب : سبب انتشاره يقومُ على أساسين : الاول : لأنّهُ غيرُ مكلفٍ ماديًّا وبلا مقابل ، فالأمرُ لايتعدى اتقان القدراتِ الكلامية مِن غيرِ الحَاجة الى قدراتٍ فكريةٍ وبالتالي نجد الواعظ ينتشي من خلال حديثهِ مُعتقًدا تحقيق النجاح والانجاز والإصلاح … والثاني : هذا السلوك – أحيانًا –يصبُّ في مصلحةِ زعاماتٍ أو قياداتٍ عُليا في المؤسسات …مثلًا هناك ﺇدارة غير كفوءة وغير مؤهلة لمؤسسةٍ ما ونتيجة القرارات العشوائية غير المقروءة تتحول هذه المؤسسة الى مركز للفوضى والفشل بسبب سوء الادارة وفي وسط هذا الحال يظهر شخص يوجه القصور والتأنيب الى الأفراد العاملين في المؤسسة المنفذين لقرارات مديرها غير الكفوء هنا يجدُ المدير ملاًذا وخلاصًا فهذا المُنِقذُ ألقى بكرة انهيار المؤسسة في ملعب الموظف لا صاحبَ القرار ، غير أبهٍ بالنتيجة التي وصلت اليها المؤسسة او الموظف .وإذا ما امعنا النظر في شخصية الواعظ ، فنجد أنّ أغلب من يقوم بهذا الامر يكونون على قدر عالٍ ورفيعٍ ومؤثر من الشخصية المثالية ، ﺇذ يعتمدونَ في طرحهم عقلية التاجر الذي كُلمّا غالى في سعر البضاعة حقق ارباحًا تفوقُ توقعاتهَ ، فهو يرى أنّه كُلمّا غالى في النصح والوعظ كّلما حقق قدرًا أكَبر من التأثير – شأنه شأن التاجر ولكن مثل هذا الأمر قد يأتي بنتائج عكسية ، ﺇذ قد يؤدي المقياس العالي والمغالاة الى أمورٍ ثلاثة : 1-عدم ﺇصغاء الناس ، وعزوفهم عن مثل هذا الوعظ لأنّهم اعتادوا عليه مثال ذلك نسمع احياًنا بموقفٍ مؤلمٍ محزنٍ يبكينا متأثرين به وبمجرد مغادرته تغادرنا مشاعره … 2-ازدواج الشخصية ، فالإنسان في حيرةٍ من أمره ، يعني لكي يعيش في مجتمع ماعليه ان يُنافق ويعتمد المحسوبية وفي الوقت ذاته يُلاحقه الواعظ لبيان صحة هذا السلوك او خطئه . هذا الصراع النفسي يُولّد وجهينٍ للمجتمع والفرد وجهٌ يقتنعُ بكلام نظريّ مثاليّ يرضي ضميَرهُ ، ووجهٌ عملي يُسايرُ الرغباتِ الطبيعيةِ … بالتأكيد لن يُقدم الفرد على تطبيقِ الكلامِ المثالي الذي لا يُسمن ولا يُغنى عن جوعٍ.. 3-عُقدةُ التقصير ، ﺇنّ كلَّ ما تقومُ به لن يُقدّمَ لنا الراحة بسبب التقصير، وللتخلص من هذه العقدة علينا التحول الى انسانٍ واعظٍ ، فبعد أن يئسنا من اصلاح انفسنا ، وعجزنا عن الأخذ بالنصح والإرشاد وتطبيقه – ولكي يرتاحَ الضمير – تحوَّل الفردُ الى ناصحٍ واعظٍ لغيره وبهذا الشكل باتَ المجتمع غريبًا يسيطرُ عليه الهوسُ الوعظي ، لو نظرنا الى المجتمع من الأعلى فأنّنا نجدُ كلّ الناس تتكلمُ عن الصدق والأمانة وتُنادي بالنزاهةِ وما ﺇن ننزلُ الى الأسفلِ ونتعامل معهم نجدُ كلّ هذه الدعوات ما هي ألاّ حيلةٌ تُخرجُهم من عدم الشعور بالتقصير … أنّ عمليةَ اصلاح المجتمع لا تكونُ بالروع – ولا بالوعظ ولا بالنصحِ … وإنّما التغييرُ والتجديدُ والإصلاحُ يبدأ من البيئةِ المحيطة البيئة التي تشملُ الظروفَ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ … ببيئُتنا سببُ أخلاقِنا … ﺇصلاحُها ، ﺇصلاحُنا …

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى